موسوعة اللغة العربية

المبحث الأوَّلُ: عِلمُ اللُّغةِ المُقارَنُ


إنَّ (ثمَّةَ ظواهِرَ لُغَويَّةً تحتاجُ إلى منهَجٍ خاصٍّ؛ فالتَّطَوُّرُ اللُّغَويُّ يُظهِرُنا على أنَّ هذه اللُّغةَ أو تلك تنشَعِبُ إلى لهَجاتٍ متعَدِّدةٍ، ثمَّ ترتقي إحدى هذه اللَّهَجاتِ أو بعضُها إلى مستوى اللُّغةِ الأدبيَّةِ الفُصحى، وقد تَلحَقُ هذه اللَّهَجاتِ واللُّغاتِ تطَوُّراتٌ وتغيُّراتٌ كثيرةٌ تُبعِدُها عن أصولِها. لا الدِّارسةُ الوَصفيَّةُ وَحدَها تصلُحُ لتفسيرِ هذه الظَّواهِرِ، ولا تصلُحُ لتفسيرِها الدِّراسةُ التاريخيَّةُ وَحدَها، إنَّ الذي يستخدِمُه اللُّغَويُّ في هذه الحالِ هو المنهَجُ المُقارَنُ) [148] يُنظَر: ((علم اللغة مقدمة للقارئ العربي)) محمود السعران (ص: 200). .
و(يقومُ المنهَجُ المُقارَنُ على المقارَنةِ بَينَ لُغَتينِ أو أكثَرَ بشَرطِ انتماءِ هاتينِ اللُّغَتينِ أو تلك اللُّغاتِ إلى أُسرةٍ لُغويَّةٍ واحدةٍ؛ لمعرفةِ أوجُهِ التَّشابُهِ والاختلافِ، وتحديدِ صِلاتِ القرابةِ بَينَ هذه اللُّغاتِ مَوضِعِ المقارَنةِ؛ وذلك رغبةً في تصنيفِ اللُّغاتِ إلى أُسَرٍ وفروعٍ لُغويَّةٍ، ويقومُ هذا التَّصنيفُ على أوجُهِ التَّشابُهِ في المُستوياتِ اللُّغَويَّةِ (صوتيَّةٍ، صرفيَّةٍ، تركيبيَّةٍ، دَلاليَّةٍ) بَينَ اللُّغاتِ مَوضِعِ التَّصنيفِ. كما تهدُفُ الدِّراسةُ المقارِنةُ إلى التوَصُّلِ إلى اللُّغةِ الأمِّ - Language Proto لكُلِّ أسرةٍ لُغَويَّةٍ، وهي لغةٌ مِن صُنعِ الباحثين، ولا وُجودَ لها في الواقعِ.
أيضًا تهدُفُ الدِّراسةُ المقارِنةُ إلى تأصيلِ الموادِّ اللُّغَويَّةِ في المعاجِمِ، على نحوِ ما أنجزه الأوربِّيُّون، مِثلُ مُعجَمِ فالْد بُورْكون Walde Porkony لأسرةِ اللُّغاتِ الهِنْدو أوروبيَّةِ، وهو مُعجَمٌ بالألمانيَّةِ، ومُعجَمِ المترادِفاتِ في اللُّغاتِ الهِنْدو أوروبيَّةِ، الذي صنَّفه بَك Buck طِبقًا للمعاني:
A dictionary of selected synonyms in the priniciples into
European Language) [149] ((العربية وعلم اللغة الحديث)) محمد محمد داود (ص: 99). .
(ومع أنَّ المنهَجَ المقارَنَ يُوَلِّي وَجْهَه شَطْرَ الماضي السَّحيقِ، فإنَّه في الواقِعِ لا يؤتي ثمرتَه إلَّا في اتجاهٍ عَكسيٍّ؛ لأنَّه يُوضِّحُ تفاصيلَ اللُّغاتِ الثَّابتةِ بالوثائِقِ. وأظهَرُ نتيجةٍ لنحوِ اللُّغاتِ الهِنْدو أوربيَّةِ المقارَنِ تنحَصِرُ في تحديدِ صِلاتِ القَرابةِ بَينَ هذه اللُّغاتِ، فكُلُّ اللُّغاتِ الفارِسيَّةِ، واللُّغاتِ السِّلافيَّةِ، والجِرمانيَّةِ، والرُّومانيَّةِ، والكلتيَّةِ، إذا اعتُبِرَت من الوِجهةِ الزَّمَنيَّةِ تبدو للعالِمِ اللُّغَويِّ نتيجةً لسِلسلةٍ متتابِعةٍ من التَّبايُنِ لحالةٍ لُغَويَّةٍ واحِدةٍ سابقةٍ عليها جميعًا، وتُسَمَّى باللُّغةِ الهِنْدية الأوربيَّةٍ. ويتضمَّنُ المنهَجُ المقارَنُ أساسًا وَضْعَ الصِّيغِ المُبكِّرةِ المؤكَّدةِ المأخوذةِ من لُغاتٍ يُظَنُّ وجودُ صِلةٍ بَينَها جنبًا إلى جنبٍ، ليُمكِنَ إصدارُ حُكمٍ فيها بعد الفَحصِ والمقارَنةِ، بخُصوصِ دَرَجةِ الصِّلةِ بَينَ عِدَّةِ لُغاتٍ، والشَّكلِ الذي يبدو أقرَبَ صِلةً إلى اللُّغةِ الأمِّ. ولعَلَّ الباحِثَ يكونُ آمِنًا حينَ يُقَرِّرُ انتماءَ لُغاتٍ متعَدِّدةٍ إلى أصلٍ مُشتَرَكٍ إذا وَجَد بَينَها تماثُلًا كافيًا في تركيباتِها النَّحويَّةِ، ومفرداتِها الأساسيَّةِ، وإذا لاحَظ ازديادَ قُربِها بعضِها من بعضٍ كُلَّما اتجَهْنا إلى الوراءِ) [150] يُنظَر: ((المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي)) لرمضان عبد التواب (ص: 198- 199). .
ويُقسِّمُ اللُّغويُّون منذُ القَرْنِ التَّاسعَ عشَرَ اللُّغاتِ المُختلِفةَ إلى مَجْموعاتٍ أو أُسْراتٍ؛ فهناك أُسْرةُ اللُّغاتِ الهِنديَّة الأوروبيَّةِ الَّتي تَضُمُّ أكْثَرَ لُغاتِ المَنطِقةِ المُمْتدَّةِ مِنَ الهِندِ إلى أوروبَّا، وتَضُمُّ بذلك عَددًا كَبيرًا مِنَ اللُّغاتِ الَّتي عرَفتْها وتَعرِفُها الهِندُ وإيرانُ والقارَّةُ الأوروبيَّةُ [151] يُنظَر: ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 35)، نقلًا عن كتاب حول قصة اكتشاف اللغة السنسكريتية ونشوء البحث المقارن في اللُّغات الهندية الأوروبية: potter, ((language in the modern world)) .
وقد تَمكَّنَ العُلَماءُ من تَقْسيمِ اللُّغاتِ المُختلِفةِ إلى أُسْراتٍ أو فَصائِلَ بمُقارَنةِ هذه اللُّغاتِ، واكْتِشافِ أوجُهِ التَّشابُهِ بينَها مِنَ الجَوانِبِ الصَّوتيَّةِ والصَّرفيَّةِ والنَّحْويَّةِ والمُعجميَّةِ، ووُجودُ جَوانِبِ شَبَهٍ أساسيَّةٍ بَينَ عَددٍ مِنَ اللُّغاتِ مَعْناه أنَّها انحَدَرتْ مِن أصْلٍ واحِدٍ مُشْترَكٍ، أي: مِنَ اللُّغةِ الأُولى الَّتي خرَجت عنها هذه اللُّغاتُ على مرِّ التَّاريخِ، وجَد العُلَماءُ ظَواهِرَ مُشْترَكةً في اللُّغاتِ المُنْتشرةِ على مدى القُرونِ بَينَ إيرانَ والهِندِ وأوروبَّا، فعَدُّوا هذه اللُّغاتِ أسْرةً لُغويَّةً واحِدةً خرَجت لُغاتُها عن لُغةٍ قَديمةٍ مُفْترَضةٍ، أطلَقَ عليها العُلَماءُ اسمَ اللُّغةِ الهِنديَّةِ الأوروبيَّةِ الأُولى: Indoeuropean Proto))، ووجَد العُلَماءُ اللُّغاتِ العَربيَّةَ والعِبْريَّةَ والفِينيقيَّةَ والآكاديَّةَ والحَبَشيَّةَ تَحمِلُ بعضَ الخَصائِصِ الأساسيَّةِ المُشْتركةِ، فاسْتَنتج العُلَماءُ أنَّها لُغاتٌ تُشكِّلُ أسْرَةً لُغويَّةً واحِدةً، وأنَّها انْحَدرتْ من أصْلٍ واحِدٍ؛ أطلَقوا عليه: اللُّغةَ السَّاميَّةَ الأُولى، ومُقارَنةُ اللُّغاتِ المُختلِفةِ المُنْتميةِ إلى أسْرَةٍ لُغويَّةٍ واحِدةٍ مَوضوعُ البَحْثِ في عِلمِ اللُّغةِ المُقارَنِ [152] يُنظَر: ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 35). .
 فعِلمُ اللُّغاتِ السَّاميَّةِ المُقارَنُ يُقارِنُ اللُّغاتِ الآكاديَّةَ والأجْريتيَّةَ والعِبْريَّةَ والفِينيقيَّةَ والآراميَّةَ والعَربيَّةَ الجَنوبيَّةَ والعِبْريَّةَ الشَّماليَّةَ والحَبَشيَّةَ؛ لأنَّ هذه اللُّغاتِ تُكوِّنُ أسْرَةً لُغويَّةً واحِدةً، وعِلمُ اللُّغاتِ الهِنديَّةِ الأوروبيَّةِ المُقارَنُ يَبْحثُ اللُّغاتِ المُختلِفةَ الَّتي تَدْخُلُ في إطارِ هذه الأسْرَةِ اللُّغويَّةِ، وتَضُمُّ أسْرَةُ اللُّغاتِ الهِنديَّةِ الأوروبيَّةِ عددًا مِنَ الفُروعِ اللُّغويَّةِ؛ أهمُّها الفَرْعُ الجَرمانيُّ، والفَرعُ الرُّومانيُّ، والفَرعُ السلافيُّ، والفَرعُ الإيرانيُّ، والفَرعُ الهِنديُّ. وقد أدَّتْ كَثْرةُ لُغاتِ هذه الأسْرَةِ إلى اهْتِمامِ بعضِ العُلَماءِ بالمُقارَناتِ اللُّغويَّةِ في إطارِ فَرعٍ واحِدٍ مِن أفْرُعِها الكَثيرةِ... [153] يُنظَر: ((علم اللغة)) علي عبد الواحد وافي (ص: 12)، ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 35- 37). .
ويُنظَرُ إلى عِلمِ اللُّغةِ التَّاريخيِّ مِن بعضِ النَّواحي على أنَّه دِراسةٌ مُقارِنةٌ. وفي عِلمِ اللُّغةِ المُقارَنِ يَهتمُّ الباحِثُ بمُقارَنةِ لُغتَين أو أكْثَرَ مِن ناحيةٍ أو أكْثَرَ. ويَعْتمِدُ عِلمُ اللُّغةِ المُقارَنُ على المُقارَنةِ لإيضاحِ العَلاقاتِ التَّاريخيَّةِ بَينَ لُغاتٍ مُعيَّنةٍ، وحَصْرِ أوجُهِ التَّشابُهِ بَينَ اللُّغاتِ المُختلِفةِ دون أيِّ اعْتِبارٍ للعامِلِ التَّاريخيِّ.
ويَعْتمِدُ المَنهَجُ المُقارَنُ على أسُسِ المَنهَجِ التَّاريخيِّ، ويَخْتلِفُ عنه في أنَّه يَتتبَّعُ الظَّاهِرةَ اللُّغويَّةَ في أعْماقِ الماضي السَّحيقِ... ومِن أبْرَزِ نَتائِجِ هذا المَنهَجِ أنَّه حصَر اللُّغاتِ الإنْسانيَّةَ المَكْتوبةَ في تِسْعِ عائِلاتٍ؛ مُصنَّفةً حسَبَ تَشابُهِ كلِّ عائِلةٍ في المَلامِحِ العامَّةِ؛ سواءٌ أكانت صَوتيَّةً أو صَرفيَّةً أو نَحْويَّةً أو دَلاليَّةً، والبَيانُ الآتي يُوضِّحُ هذه العائِلاتِ، وهو مُرتَّبٌ حسَبَ عَددِ السُّكانِ الَّذين يَتكلَّمون كلَّ عائِلةٍ [154] يُنظَر: ((دراسات في علم اللغة الوصفي والتَّاريخي والمقارن)) صلاح الدين صالح حسنين (ص: 33 -204). .
العائلة الهِندو أوروبيَّة = 1000 مليون
العائلة الصِّينيَّة والتِّبتيَّة = 500 مليون
العائلة الإفريقيَّة = 100 مليون
العائلة الدارفيديَّة = 100 مليون
العائلة اليابانيَّة الكوريَّة = 100 مليون
عائلة الملايو = 90 مليون
العائلة السَّاميَّة ــ الحامية = 75 مليون
العائلة الأوراليَّة = 60 مليون
العائلة الهندو أمْريكيَّة = 10 مليون.

انظر أيضا: