موسوعة اللغة العربية

المبحث الرَّابِعُ: اللُّغةُ والواقِعُ


 بصِفةٍ عامَّةٍ لا يَلزَمُ تَطابُقٌ بَينَ اللُّغةِ والواقِعِ، ومِنَ الأمْثِلةِ العَربيَّةِ الَّتي تُبيِّنُ أنَّه ليس ثَمَّةَ تَطابُقٌ لازِمٌ بَينَ اللُّغةِ والواقِعِ: أنَّ اللُّغةَ العَربيَّةَ تُعامِلُ كَلِماتٍ في المُفرَدِ مُعامَلةَ المُذكَّرِ، في حِينِ تُعامِلُ جَمْعَ هذه الكَلِماتِ نفْسِها مُعامَلةَ المُؤنَّثِ؛ مِن هذا: كِتاب وحمَّام، وقَلَم، فكلٌّ مِن هذه مُذكَّرٌ، في حِينِ أنَّ جَمْعَ كلٍّ منها -وهو: كُتُبٌ وحمَّاماتٌ وأقْلامٌ- يُعامَلُ مُعامَلةَ المُؤنَّثِ، وكَلِمةُ رَجُلٍ نفْسُها تُجمَعُ على رِجالٍ، ومِن صُوَرِ جَمْعِها رِجالاتٌ، والصُّوَرةُ اللُّغويَّةُ لكَلِمةِ رِجالاتٍ هي صُورةُ جَمْعِ المُؤنَّثِ، ولو كان التَّطابُقُ بَينَ اللُّغةِ والواقِعِ لازِمًا لاتَّفقتِ اللُّغاتُ جَميعًا في تَقْسيمِ الأسْماءِ من حيثُ الجِنْسُ، ولكنْ نَجدُ أنَّ مِنَ اللُّغاتِ، كالعَربيَّةِ، ما يَكْتفي بتَقْسيمِ الاسمِ من حيثُ الجِنْسُ قِسمَةً ثُنائيَّةً ليس غيرُ إلى مُذكَّرٍ ومُؤنَّثٍ، ومنها كاليُونانيَّةِ ما يُقسِّمُه إلى ثُلاثيَّةٍ؛ إلى مُذكَّرٍ ومُؤنَّثٍ ومُحايِدٍ، كما نَجدُ أنَّ أسْماءَ الذَّواتِ لا تَتطابَقُ في اللُّغاتِ جَميعًا مِن حيثُ الجِنْسُ، وأوضَحُ مِثالٍ على ذلك القَمَرُ والشَّمسُ؛ فالقَمَرُ مُذكَّرٌ في العَربيَّةِ مُؤنَّثٌ في الفَرنسيَّةِ، والشَّمْسُ مُؤنَّثةٌ في العَربيَّةِ مُذكَّرةٌ في الفَرنسيَّةِ، وقد سلَّمَ اليُونانُ بأنَّ بِنْيةَ لُغتِهم اليُونانيَّةِ تُبرِزُ الشَّكْلَ العامَّ للتَّفكيرِ الإنْسانيِّ، لا بل ذهبوا إلى أنَّها قد تُبرِزُ الأشْكالَ العامَّةَ للنِّظامِ الكَونيِّ بأَسْرِه، ولقد قاموا تبَعًا لِهذا بمُلاحَظاتٍ نَحْويَّةٍ، ولكنَّهم قَصَروها على لُغةٍ واحِدةٍ هي اليُونانيَّةُ، وقرَّروها في صُورةٍ فَلْسفيَّةٍ [145] يُنظَر: ((علم اللغة مقدمة للقارئ العَربي)) لمحمود السعران (ص: 67)، نقلًا عن كتاب ((اللغة)) لبلومفيلد. .
ولقد نتَج عن تَقْديسِ آراء نُحاةِ اليُونانيَّةِ الَّتي تَلقَّفها عنهم تَلامِذتُهم اللَّاتين، الَّذين أخَذ عنهم الأوروبيُّون المُحدَثون- أنْ ظلَّ عُلَماءُ اللُّغةِ إلى ما قبلَ ظُهورِ عِلمِ اللُّغةِ الحَديثِ يُقيمون نَظريَّاتِهم اللُّغويَّةَ على أسُسٍ مَنطِقيَّةٍ فَلْسفيَّةٍ، قد تَكفي هذه الأمْثِلةُ لبَيانِ قُصورِ الفَلْسفةِ القَديمةِ الَّتي قامت على أساسِها دِراسةُ اللُّغةِ عند اليُونانِ والرُّومانِ، وفي العُصورِ الوُسْطى؛ فالنَّظرُ في اللُّغةِ على أساسٍ مِنَ المَنطِقِ الأرُسطيِّ، أو مِن أيِّ مَذهَبٍ فَلْسفيٍّ- نَظَرٌ غيرُ سَليمٍ، كما أنَّ دِراسةَ اللُّغةِ على أساسٍ مِن عِلمِ النَّفْسِ دِراسةٌ قاصِرةٌ غيرُ سَليمةٍ، ودِراستُها على أساسٍ رِياضيٍّ أو آلِيٍّ لا تُؤدِّي إلى النَّتائِجِ المَرْجوَّةِ، ولكنْ لا بُدَّ مِن فَلْسفةٍ عامَّةٍ تَقومُ عليها دِراسةُ اللُّغةِ، ونَقصِدُ بالفَلْسفةِ هنا مَجْموعةً مِنَ المَبادِئِ أوِ الأصولِ أوِ الأسُسِ، ومِنَ الخَطَأِ أنْ نَدرُسَ اللُّغةَ مُسْتَعينينَ بفَلْسفةٍ خارجيَّةٍ، أي: فَلْسفةٍ مُسْتمدَّةٍ مِن غيرِ مَوضوعِ الدِّراسةِ، وهو اللُّغةُ، أي: مِنَ الخَطَأِ أنْ نَسْتعينَ بفَلْسفةٍ مَفْروضةٍ على المَوضوعِ مِن خارِجٍ، أو فَلْسفةٍ تُحقِّقُ غَرضًا آخَرَ غيرَ دَرْسِ اللُّغةِ في ذاتِها ومِن أجْلِ ذاتِها، أو فَلْسفةٍ قاصِرةٍ لا تَصلُحُ إلَّا لبعضِ جَوانِبِ الدِّراسةِ.
إنَّ هذه الفَلْسفةَ يَنْبغي أنْ تَقومَ على أساسِ فَهْمِ ماهيَّةِ اللُّغةِ: ما اللُّغةُ؟ فيمَ تُسْتعمَلُ؟ كيف تُسْتعمَلُ؟ متى تُسْتعمَلُ؟ إلى آخِرِ ما يَكشِفُ لنا عن حَقيقةِ اللُّغةِ، أي: إنَّ هذه الفَلْسفةَ يَنْبغي أنْ تَسْتقيَ عَناصِرَها مِن طَبيعةِ الأدْوارِ الَّتي تَقومُ بها في الحَياةِ الإنْسانيَّةِ.
إنَّ الباحِثَ اللُّغويَّ الحَديثَ يُضْطرُ إلى القِيامِ بسِلْسِلةٍ مِنَ التَّجْريداتِ: Abstractions على مُسْتوياتٍ مُختلِفةٍ، حتَّى يَسلَمَ وَصْفُه وتَحْليلُه، وتَصِحَّ نَتائِجُه. لا بُدَّ لعِلمِ اللُّغةِ مِن أنْ تكونَ الطُّرقُ العامَّةُ الَّتي يَضعُها لدِراسةِ اللُّغةِ مَرِنةً كلَّ المُرونةِ، فضْلًا عن وُجوبِ كَونِها دَقيقةً كلَّ الدِّقَّةِ، حتَّى يَتأتَّى اسْتِعمالُها عند دَرْسِ اللُّغاتِ جَميعِها. ولقد أنْفَق عُلَماءُ اللُّغةِ جُهودًا مُتوالِيةً حتَّى تَوصَّلوا إلى جُملةٍ مِنَ الطُّرقِ والوَسائِلِ الَّتي يَصدُقُ عليها هذا الوَصْفُ، ولا يَزالُ اللُّغويُّون حتَّى الآنَ يُوجِّهون عِنايةً كَبيرةً إلى تَحْسينِ هذه الطُّرقِ والوَسائِلِ، وإلى تَدْقيقِها وتَبْسيطِها، وإلى الإضافَةِ إليها [146] يُنظَر: ((علم اللغة مقدمة للقارئ العَربي)) لمحمود السعران (ص: 67). .

انظر أيضا: