موسوعة اللغة العربية

المبحث الثَّاني: الفَلْسفةُ اللُّغويَّةُ عند اللُّغويِّينَ الغَربيِّينَ


عند عُلَماءِ الغَربِ مُصْطلَحُ الفَلْسفةِ اللُّغويَّةِ له أبْعادٌ أخرى، وتُعرَفُ أيضًا الفَلْسفةُ اللُّغويَّةُ باسمِ التَّحْليلِ اللُّغويِّ، والتَّحْليلِ المَنْطقيِّ اللُّغويِّ، وفَلْسفةِ لُغةِ الحَياةِ اليَوميَّةِ، وهو: تَيَّارٌ في الفَلْسفةِ التَّحْليليَّةِ انْتَشر في بِريطانيا على يد (ج. رايل) و(يزدوم أوستين) وغيرِهم، وفي الوِلاياتِ المُتَّحدةِ يَتبنَّى آراء مُماثِلةً (ماكس بلاك) و(مالكون) وغيرُهما، ويَصدُرُ هذا التَّيَّارُ مِن فَلْسفةِ الحِسِّ المُشْترَكِ عند (جورج إدوارد)، وآراءِ (فنجنشتاين) المُتأخِّرةِ.
والفَلْسفةُ اللُّغويَّةُ شأنُها شأنُ المَدارِسِ الأخرى للوَضعيَّةِ الجَديدةِ؛ تُنكِرُ أنَّ الفَلْسفةَ هي نَظرةٌ شامِلةٌ للعالَمِ، وتَعُدُّ المُشكلاتِ الفَلسفيَّةَ التَّقليديَّةَ أشْباهَ مُشْكلاتٍ تَنْشأُ عن فَشَلٍ في اسْتِيعابِ الطَّبيعةِ الحَقيقيَّةِ للُّغةِ بسَببِ التَّأثيرِ المُشوِّشِ لِلُّغةِ على الفِكرِ، وهي على عَكْسِ هذا تَذكُرُ أنَّ الفَلْسفةَ يَجبُ أن تَحُلَّ المَصاعِبَ النَّاجِمةَ عن الاسْتِخدامِ الخَطَأِ للكَلِماتِ، ويَذهَبُ مُمثِّلو مَدرسةِ كامْبردج في الفَلْسفةِ اللُّغويَّةِ إلى أنَّ الفَلْسفةَ يَجبُ أنْ تَقومَ بوَظيفةٍ عِلاجيَّةٍ؛ وذلك بتَطْهيرِ لُغتِنا ممَّا فيها مِن نواحي الضَّعْفِ، والفَلاسفةُ اللُّغويُّون في جُهودِهم للتَّخلُّصِ مِنَ المِيتافيزيقا لا يَرفُضون فحسْبُ المِيتافيزيقا الأنطولوجيَّةَ الخاصَّةَ بالفَلْسفةِ التَّقليديَّةِ؛ فهم إذ يُنكِرون إمَكانَ التَّوصُّلِ إلى أيِّ تَصوُّرٍ فَلسفيٍّ شامِلٍ يُساعِدون أيضًا المِيتافيزيقا الوَضعيَّةَ المَنطِقيَّةَ معَ مَبدئِها في التَّحقيقِ، لكنَّ إنْكارَ أنْ تُكوِّنَ الفَلْسفةُ نَظرةً كُلِّيَّةً للعالَمِ هو ما يُميِّزُ الفَلْسفةَ اللُّغويَّةَ كشَكْلٍ مُتطرِّفٍ وأكْثَرَ رَجْعيَّةً للوَضعيَّةِ.
ومعَ تَحْليلِ اللُّغةِ على أنَّها الهَدَفُ الوَحيدُ للبَحْثِ الفَلْسفيِّ يُركِّزُ دُعاةُ الفَلْسفةِ اللُّغويَّةِ، وبخاصَّةٍ مُمثِّلو جَماعةِ أُكسفورد -على عَكْسِ الوَضعيِّينَ المَناطِقةِ- انْتِباهَهم لا على الأُنْموذَجِ الصِّناعيِّ للُّغاتِ، بل على لُغةِ الحَديثِ المُشْترَكِ الشَّائِعِ، وهنا يَنطلِقون مِنَ الافْتِراضِ الصَّحيحِ القائِلِ بأنَّ المَنابِعَ الثَّريَّةَ للُّغةِ المَنْطوقةِ الطَّبيعيَّةِ لا يُمكِنُ التَّعْبيرُ عنها تَمامًا في إطارِ أيِّ لُغةٍ أُنْموذجيَّةٍ، والفَلْسفةُ اللُّغويَّةُ في تَنْديدِها بتَحْليلِ مُشْكِلاتِ المَعْرِفةِ (عَلاقةُ اللُّغةِ بالفِكرِ، والعَلاقةُ بَينَ اللُّغةِ وعَمليَّاتِ المَعْرِفةِ المُتضمَّنةِ في صِياغةِ الصُّوَرِ الذِّهنيَّةِ، وأصْلُ الأشْكالِ اللُّغويَّةِ..... إلخ) الَّتي هي السِّياقُ الوَحيدُ الَّذي يُمكِنُ أنْ تُدرَسَ فيه ظَواهِرُ اللُّغةِ على نَحْوٍ ناجِحٍ- إنَّما يَقتَصِر البَحْثُ على الوَصْفِ الزَّائِفِ للأنْماطِ المُختلِفةِ لاسْتِخدامِ اللُّغةِ، وتُقفِلُ البابَ في وَجْهِ تَفْسيرٍ حَقيقيٍّ لماهيَّةِ اللُّغةِ، وتَصِلُ في النِّهايةِ إلى تَفْسيرٍ تَقليديٍّ فحسْبُ، فاللُّغةُ في الفَلْسفةِ اللُّغويَّةِ هي وَسيلةُ تَكْوينٍ وليست انْعِكاسًا للعالَمِ، وهي تُصبِحُ شيئًا غامِضًا، وقوَّةً مُكْتفيةً بذاتِها، والنَّقدُ المُبرَّرُ لمُحاوَلاتِ إقامةِ بِناءٍ جَديدٍ شامِلٍ للُّغةِ في إطارِ لُغةٍ أُنْموذجيَّةٍ يَسيرُ جَنْبًا إلى جَنْبٍ معَ رَفْضِ بَحْثِ اللُّغةِ بصِفةٍ عامَّةٍ على أساسِ أيِّ أرْضيَّةِ نَظريَّةٍ شامِلةٍ، وهكذا يُفضي رَفْضُ الإحاطَةِ بالمُشْكلاتِ الرَّئيسيَّةِ للفَلْسفةِ إلى انْهيارِ الفَلْسفةِ اللُّغويَّةِ حتَّى في المَجالِ الَّذي يَقتَصِرُ عليه البَحْثُ الفَلْسفيُّ [141] يُنظَر: ((الموسوعة الفلسفية)) م. روزنتال، ب. يودين (ص: 178). .

انظر أيضا: