موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ السَّادِسُ: اللُّغةُ وطَبَقاتُ المُجتَمَعِ


لكلِّ مُجتَمَعٍ قوانينُه وظُروفُه الخاصَّةُ في المعيشةِ وفي التَّفكيرِ... ولكلِّ شَعبٍ ملامِحُه الثَّقافيَّةُ وعاداتُه الخاصَّةُ التي تختَلِفُ عن الآخَرِ، فنِظامُ المُجتَمَع، واختِلافُ طَبَقاتهِ، وتغيُّرُ أحوالِه؛ لا شكَّ أنَّ لذلك تأثيرَه على تفاوُتِ الاستِعمالاتِ اللُّغَويَّةِ بَينَ هذه الطَّبَقاتِ؛ (فالطَّبَقةُ الأُرُستُقراطيَّةُ -مثلًا- تتَّخِذُ لَهجةً غيَر لهجةِ الطَّبَقةِ الوُسطى أو الدُّنيا في المُجتَمَعِ، وهذه العامِّيَّةُ الخاصَّةُ تتطوَّرُ حينًا بعدَ حينٍ، فتَصِلُ إلى أجيالٍ لاحِقةٍ كواقعٍ مفروضٍ، ورُبَّما كانت من قَبلُ مختَلِفةً لإبرازِ التميُّزِ أو الهَيمَنةِ على طبَقاتٍ اجتماعيَّةٍ تحتَ سَقفٍ خاصٍّ) [122] ((اللهجات العربية في القراءات القرآنية)) لعبده الراجحي (ص 380). .
يُقَرِّرُ الواقِعُ أنَّ اللُّغةَ تَعكِسُ أثَرَ التَّفاوُتِ بين طَبَقاتِ المُجتمَعِ المُختلِفةِ، وفي ذلك يقولُ ماريو باي: (مِنَ المُسلَّمِ به أنَّ اللُّغةَ تَتغيَّرُ تبَعًا للطَّبقةِ الَّتي تَتحدَّثُ بها، وقد صرَّح بعضُ هُواةِ اللُّغويَّاتِ في بريطانيا بأنَّ هناك نَوعَين مِنَ اللُّغةِ؛ أحَدُهما وَقْفٌ على الطَّبَقةِ الرَّاقيةِ، ولا يَمتدُّ استِعمالُه إلى الطَّبَقةِ الدُّنيا، والآخَرُ لا يَستخدِمُه إلَّا أفرادُ الطَّبَقةِ الدُّنيا، وهناك لُغاتٌ تَصِلُ الفَوارِقُ الطَّبَقيَّةُ فيها إلى أبعَدَ مِن ذلك؛ فهناك مَثلًا ثَلاثةُ أنواعٍ لِلُغةِ جاوا؛ أحَدُها: يَتحدَّثُ به أهلُ الطَّبَقةِ الدُّنيا، ويُسمَّى: نجوكو: Ngoko، والآخَرُ: تَستخدِمُه الطَّبَقةُ الرَّاقيةُ، ويُسمَّى كَرَاما: Krama، وثالِثٌ: لتَسْهيلِ عَمليَّةِ التَّفاهُمِ بين الطَّبَقتَينِ، ويُسمَّى: ماديَا Madya، ويَتحدَّثُ أفرادُ الطَّبَقةِ الرَّاقيةِ في بعضِ التَّمثيليَّاتِ الهِنديَّةِ القَديمةِ: اللُّغةَ السَّنسِكريتيَّةَ، في حينِ يَتحدَّثُ أفرادُ الطَّبَقةِ الدُّنيا: اللُّغةَ البراكريتيَّةَ) [123] ((لغات البشر- أصولها وطبيعتها وتطورها)) لماريو باي، ترجمة الدكتور صلاح العربي (ص: 82، 83). .
ويقولُ أيضًا: (ومِن وِجهةِ النَّظَرِ الاجتِماعيَّةِ كما هو من وِجهةِ نَظرِ الشَّخصِ العادِيِّ يُوجَدُ في مقابِلِ أنماطِ غيرِ المثَقَّفين في كُلِّ لغةٍ نَمَطٌ يتمَتَّعُ بالمكانةِ والهَيبةِ دونَ الأنماطِ اللُّغَويَّةِ الأُخرى، وهو ما يمكِنُ أن يُسَمَّى بالنَّمَطِ اللُّغَويِّ للمُثَقَّفينَ. ونتيجةً لذلك يظهَرُ نفوذُ بعضِ الأنماطِ اللُّغَويَّةِ دونَ بعضٍ حينَ يُفاضَلُ بَينَها في مجالِ الوظيفةِ والاختبارِ والمركَزِ الاجتِماعيِّ. إنَّ الشَّخصَ لا يمكِنُ أن يُغمِضَ عينَيه عن هذه الحقائِقِ على أساسِ نظريَّةِ المُساواةِ؛ لأنَّ هذه النَّظَريَّةَ قد قامت على نظامٍ مُختَلِفٍ) [124] يُنظَر: ((أسس علم اللغة)) ماريو باي، ترجمة أحمد مختار عمر (ص: 239). .
ويُسَلِّطُ الضَّوءَ على أحَدِ أبرَزِ هذه العوامِلِ الاجتماعيَّةِ المُؤَثِّرةِ على اللُّغةِ، ألا وهو العامِلُ التَّعليميُّ الذي يؤدِّي إلى بعضِ الانقِساماتِ اللُّغَويَّةِ بَينَ الطَّبَقاتِ على اختِلافِ مستوى التعليمِ الذي يتلقَّونه، فيقولُ: (والعامِلُ التَّعليميُّ يؤدِّي إلى انقساماتٍ اجتماعيَّةٍ لُغَويَّةٍ في داخِلِ المِنطَقةِ الواحِدةِ. وبوَجهٍ عامٍّ فإنَّ هذا الانقسامَ يمَسُّ -بصورةٍ أوَّليَّةٍ- هذه المستَوَياتِ من اللُّغةِ التي تسمَحُ بالتحَوُّلاتِ الواسِعةِ "المفرداتُ والنَّحوُ" في حينِ أنَّه يؤثِّرُ تأثيرًا صغيرًا نِسبيًّا -وإنْ بدا ذلك مثيرًا- على الجانبَينِ الفونولوجيِّ والصَّرفيِّ. وهذا يرجِعُ إلى أنَّه في العادةِ ما يتقاسَمُ كُلُّ المتكَلِّمين باللُّغةِ -في مِنطَقةٍ واحدةٍ- النَّماذِجَ الصَّوتيَّةَ والصَّرفيَّةَ الأساسيَّةَ. وحتَّى حينَ تحدُثُ خلافاتٌ في هذا الخُصوصِ فإنَّها نادرًا ما تعوقُ التَّفاهُمَ، على الرَّغمِ من ظهورِها وبُروزِها. وذلك مِثلُ ما يبدو من بعضِ أهالي نِيويورك من ذوي الطَّبَقاتِ الدُّنيا من تغييرِ الـth إلى t أو غيرِها من التَّغييراتِ التي يتجَنَّبُها الرَّجُلُ المثَقَّفُ المنتَمي إلى نفسِ المِنطَقةِ الجُغرافيَّةِ. ومِثلُ هذا ينطَبِقُ على بعضِ اللَّنْدَنيِّين من ذوي اللَّهَجاتِ الخاصَّةِ Cockney الذين يَنطِقون lidy بدلًا من lady وغيرَه ممَّا يأنَفُ الرَّجُلُ المثَقَّفُ اللَّنْدَنيُّ عن استعمالِه... وأيُّ مكانٍ يوجَدُ فيه مستوًى رسميٌّ نموذَجيٌّ وطنيٌّ، تميلُ فيه عادةً لُغةُ القِسمِ المتعَلِّمِ من السُّكانِ إلى الاقترابِ منه، أو مطابقتِه (مَرَّةً ثانيةً مع بعضِ الاستثناءاتِ الظَّاهِرةِ، وهذا يُعطي لغةَ القِسمِ المتعَلِّمِ من السُّكانِ مِيزةَ العُموميَّةِ في المِنطَقةِ ما دامت لغةُ الطَّبَقةِ الدُّنيا تستسلِمُ بصورةٍ سَهلةٍ للاتِّجاهاتِ اللَّهجيَّةِ المحلِّيَّةِ) [125] يُنظَر: ((أسس علم اللغة)) ماريو باي، ترجمة أحمد مختار عمر (ص: 211- 212). .
وإنَّ عالِمَ اللُّغةِ الجُغرافيَّ لا بُدَّ أن يأخُذَ في اعتبارِه المُستَوَيَينِ الاجتِماعيَّ والثَّقافيَّ للكلامِ، وبخاصَّةٍ حينَما يُصبِحان مُهِمَّينِ من وجهةِ نَظَرِ الاتِّصالِ والتَّفاهُمِ. وفي نفسِ الوقتِ، وفي حالةِ اللُّغاتِ ذواتِ المجموعاتِ المتكَلِّمةِ الكبيرةِ، والتي تملِكُ مستوًى عاليًا من الحضارةِ، وقدْرًا رفيعًا من الثَّقافةِ، قد يبدو مفيدًا للباحِثِ أن يوجِّهَ اهتمامَه، ويَشحَذَ انتباهَه، خاصَّةً بالنِّسبةِ للمُستوى القوميِّ الذي يتمتَّعُ بامتيازاتٍ عِدَّةٍ؛ فهو أوَّلًا يتطابَقُ مع اللُّغةِ الرَّسميَّةِ والكِتابيَّةِ، وهو ثانيًا يتمتَّعُ باتِّساعِ مِنطَقةِ نفوذِه، ولا يتحَدَّدُ بمِنطقةٍ مَحلِّيَّةٍ، وهو ثالثًا يحمِلُ في طِيَّاتِه كثيرًا من الخصائِصِ اللَّهجيَّةِ حتَّى بالنِّسبةِ للمُتكَلِّمين باللَّهَجاتِ المحلِّيَّةِ أو الطَّبَقيَّةِ أكثَرَ من مُعظَمِ سائِرِ التنوُّعاتِ المحلِّيَّةِ واللَّهَجاتِ الطَّبَقيَّةِ في المِنطَقةِ. وإنَّه لتوجَدُ في أقطارٍ كثيرةٍ أماكِنُ تتقاسَمُ لُغَويًّا بَينَ الطَّبَقيَّةِ والمحلِّيَّةِ، مِثلُ إيطاليا. ولكِنْ لو أنَّك تكلَّمْتَ هناك باللُّغةِ النَّموذجيَّةِ القوميَّةِ فإنَّك سوف تفهَمُ بوَجهٍ عامٍّ، وإنْ لم يأتِك الرَّدُّ دائمًا بنفسِ الطَّريقةِ. وأكثَرُ من هذا فإنَّ هناك الآن اتجاهًا حديثًا للُّغةِ نحوَ التَّوحيدِ والتَّجميعِ خارِجَ المستوى المحلِّيِّ أو الطَّبَقيِّ، وذلك بمساعَدةِ الرَّاديو والتِّليفزيون والأفلامِ النَّاطِقةِ التي تنالُ لُغَتُها إعجابًا وقَبولًا، وبخاصَّةٍ بَينَ الأجيالِ النَّاشِئةِ [126] يُنظَر: ((أسس علم اللغة)) ماريو باي، ترجمة أحمد مختار عمر (ص: 212- 213). .
ويَكفي أن نَذكُرَ بأنَّ قِيامَ ثَورةِ 23 يوليو في مِصرَ أدَّى إلى تَغيُّرٍ في النِّظامِ الاجتِماعيِّ، تَبِعَه اختِفاءُ كَلِماتٍ، مِثلُ: بِك، وباشا، وصاحِبِ العِزَّةِ، وصاحِبِ السَّعادةِ، وصاحِبِ الدَّولةِ، وصاحِبِ المَعالي، وصاحِبِ الرِّفعةِ، وصاحِبةِ العِصمةِ، والبِرنسِ، وسُموِّ الأميرِ، وصاحِبِ الجَلالةِ، والذَّاتِ المَلَكيَّةِ، كما شاعت ألفاظٌ، مِثلُ: ثورةِ التَّحريرِ، والعِزَّةِ والكَرامةِ، والتَّأميمِ، والاشتِراكيَّةِ، والتَّحوُّلِ الاشتِراكيِّ، والمَكاسِبِ الاشتِراكيَّةِ، والتَّقدُّميَّةِ، والرَّجعيَّةِ، والتَّطلُّعِ الطَّبَقيِّ، والصِّراعِ الحَتميِّ، وتَذويبِ الفَوارِقِ الطَّبَقيَّةِ، ونِضالِ الجَماهيرِ، والنَّقاءِ الثَّوريِّ، والقِيادةِ الجَماعيَّةِ، والجَماهيرِ الكادِحةِ، والعَناصِرِ الانتِهازيَّةِ، والمَصيرِ المُشترَكِ، والسَّلامِ القائِمِ على العَدلِ، وفكِّ الاشتِباكِ، وغيرُ ذلك كَثيرٌ.
وكَثيرًا ما يُؤدِّي التَّفاوُتُ بين طَبَقاتِ المُجتَمَعِ إلى نُشوءِ لُغاتٍ سِرِّيَّةٍ عامِّيَّةٍ، هي بنَوعٍ خاصٍّ لُغةُ الأشقِياءِ والخارِجينَ على القانونِ، ممَّن يَعيشون في خَوفٍ دائِمٍ مِن سَطوتِه؛ لأنَّهم يَحيَونَ حَياةً على هامِشِ المُجتمَعِ) [127] ((المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي)) رمضان عبد التواب (ص: 131). .
ويقولُ فِنْدَرِيسُ: (كان عندَنا حتَّى بِدايةِ القَرنِ التَّاسعَ عشَرَ هَيئةٌ مُنظِّمةٌ حقًّا للأشقِياءِ، وكانت لها لُغتُها الخاصَّةُ المُتَّفَقُ عليها، والَّتي كان يَعمَلُ كلُّ عُضوٍ مِن أعضاءِ الهَيئةِ على المُحافَظةِ عليها) [128] ((اللغة)) جوزيف فندريس (ص: 316) نقلًا عن: ((المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي)) رمضان عبد التواب (ص 131- 132). .
(ونحن نَعرِفُ عن هذه اللُّغةِ الخاصَّةِ في كلِّ البِلادِ غِناها بالتَّعبيراتِ الَّتي تُشبِعُ الغَرائِزَ المادِّيَّةَ، والصِّفاتِ المَذمومةِ الَّتي تَنطوي على الجَريمةِ؛ كالسَّرِقةِ والزِّنا والسُّكرِ، وما إليها مِن أنواعِ الانحِلالِ الخُلُقيِّ؛ ففي لُغةِ هذه الطَّبَقاتِ مِن أهلِ فَرنسا مَثلًا، نَجدُ ثَماني عشْرةَ كَلِمةً تُعبِّرُ عنِ الأكلِ، وعِشرينَ عن مُعاقَرةِ الخَمرِ، وعِشرينَ أخرى للتَّعبيرِ عنِ الخَمرِ نفسِها، وأربعينَ لفظًا يُعبِّرُ عنِ السُّكرِ، ولِخَشيتِهم دائِمًا مِن سَطوَةِ القانونِ جعَلوا للشُّرطيِّ اثنَتي عشْرةَ كَلِمةً، وللفِرارِ منه خَمسةَ عشَرَ لَفظًا، كما سمَّوُا السِّجنَ مَعهدًا ومَدرسةً، والبُؤسَ فَلسفةً، وسمَّوُا الحِذاءَ الباليَ فَيلسوفًا، أمَّا المالُ الَّذي يَستحوِذُ على أفكارِهم وقُلوبِهم فقد وضَعوا له سِتِّينَ كَلِمةً، والبَغايا اللَّاتي يَعِشنَ معَهم دائِمًا وضَعوا لهنَّ ثَمانينَ كَلِمةً، تُعَدُّ كلُّها وابِلًا مِنَ السِّبابِ بأحَطِّ الألفاظِ، أمَّا السَّيِّدةُ الفاضِلةُ فليس لها كَلِمةٌ واحِدةٌ في لُغتِهم، والرَّجلُ المُستقيمُ يُعبِّرون عنه بالبَساطَةِ، ومَعناها في عُرفِهم الغَفلةُ والغَباءُ!) [129] ((المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي)) رمضان عبد التواب (ص 131- 132). .
وكَثيرًا ما يُوجَدُ في هذه اللُّغاتِ العاميَّةِ الخاصَّةِ نَشاطٌ وحَيويَّةٌ؛ إذْ نَجدُها مَليئةً بالاصطِلاحاتِ المَجازيَّةِ والاستِعاريَّةِ المُتجدِّدةِ؛ فالاستِعمالُ الاستِعاريُّ مِنَ الوَسائِلِ المُحبَّبةِ إلى العامِّيَّةِ الخاصَّةِ [130] يُنظَر: ((اللغة)) لفندريس (ص: 317)، ((المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي)) رمضان عبد التواب (ص 132). ، ويقولُ في ذلك مارْيو باي: (الصَّوتيَّاتُ وأصُولُ الكَلِماتِ مِلكٌ مُشاعٌ لكلِّ الطَّبَقاتِ الاجتِماعيَّةِ، في حين تَظهَرُ الاختِلافاتُ الطَّبَقيَّةُ في اختِيارِ المُفرَداتِ اللُّغويَّةِ، وطَريقةِ استِعمالِها) [131] ((لغات البشر)) لماريو باي (ص: 83)، ((المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي)) رمضان عبد التواب (ص 132). .
ولا يُطلَقُ اصطِلاحُ اللُّغاتِ الخاصَّةِ على هذه اللُّغاتِ السِّرِّيَّةِ فحسبُ، وليست كلُّ ألفاظِها فُحشًا، وليست كلُّ تَراكيبِها تَعبيرًا عن الرَّذيلَةِ والجَريمةِ؛ إذ إنَّه يُوجَدُ مِنَ العامِّيَّاتِ الخاصَّةِ بقدرِ ما يُوجَدُ مِن جَماعاتٍ مُتَخصِّصةٍ. والعامِّيَّاتُ الخاصَّةُ تَتميَّزُ بتَنوُّعِها الذي لا يُحَدُّ، وإنَّها في تَغيُّرٍ دائِمٍ تبَعًا للظُّروفِ والأمكِنةِ؛ فكلُّ جَماعةٍ خاصَّةِ وكلُّ هَيئةٍ مِن أربابِ المِهَنِ لها عامِّيَّتُها الخاصَّةُ؛ فهناك عامِّيَّةُ التَّلاميذِ الخاصَّةُ، وهي غيرُ واحِدةٍ في كلِّ المَدارِسِ، بل تَختلِفُ أحيانًا باختِلافِ الفُصولِ في المَدرسَةِ الواحِدةِ، وهناك عامِّيَّةُ الثُّكْناتِ الخاصَّةِ، الَّتي تَختلِفُ باختِلافِ الأسلِحةِ، بل تَختلِفُ باختِلافِ الثُّكناتِ أيضًا. وهناك عامِّيَّةُ الخِياطاتِ الخاصَّةِ، وعامِّيَّةُ الغَسَّالاتِ، وعامِّيَّةُ عُمَّالِ المَناجِمِ، وعامِّيَّةُ البَّحَّارينَ [132] يُنظَر: ((اللغة)) لفندريس (ص: 315)، ((المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي)) رمضان عبد التواب (ص 133). .
كذلك تجدُرُ الإشارةُ إلى أحَدِ أبرَزِ أسبابِ هذا الاختلافِ، وهو أنَّ اتصالَ البَشَرِ من رُقعةٍ جُغرافيَّةٍ إلى أخرى مِن أجْلِ منافِعَ ما (العَمَلِ أو التِّجارةِ، أو البحثِ عن الأمنِ...) أو للسَّيطرةِ أو الاستعمارِ مثلًا (فقد يغزو شعبٌ من الشُّعوبِ أرضًا يتكَلَّمُ أهلُها بلغةٍ أو لهجةٍ خاصَّةٍ، فيقومُ صِراعٌ عنيفٌ بَينَ اللُّغَتينِ الغازيةِ والمَغْزوَّةِ، والنَّتيجةُ عادةً إمَّا القضاءُ على إحدى اللُّغَتينِ قضاءً تامًّا، أو ينشأُ من هذا الصِّراعِ لُغةٌ مُشتَقَّةٌ من مزيجٍ من اللُّغَتينِ، تشتَمِلُ على عناصِرَ من هذه وأُخرى من تلك) [133] يُنظَر: ((المقتبس من اللهجات العربية والقرآنية)) لمحمد سالم محيسن (ص: 9). ، هو أيضًا (انتقالٌ واتصالٌ بَينَ لغةٍ مع أُخرى، وبالتالي احتِكاكُ اللُّغاتِ بَعضِها ببعضٍ؛ ممَّا يُولِّدُ صراعًا بينهما، وهذا ما يؤدِّي إلى اختلافِ اللُّغاتِ عن أصلِها بما يُفَرِّقُها إلى لهَجاتٍ) [134] ((اللهجات العربية نشأةً وتطورًا)) لعبد الغفار حامد هلال (ص41-44). . وقد حدَّثَنا التَّاريخُ عن (صراعِ العربيَّةِ والآراميَّةِ في العِراقِ والشَّامِ، وانتهى فَصلُ الصِّراعِ بغَلَبةِ العربيَّةِ، كما صَرَعَت القِبطيَّةَ في مِصرَ، والبَرْبريَّةَ في بلادِ المغرِبِ، والفارسيَّةَ في بعضِ بِقاعِ مَملكةِ فارِسَ القديمةِ، وكذلك يكونُ الصِّراعُ بَينَ اللَّهَجاتِ) [135] ((اللهجات العربية في القراءات القرآنية)) عبده الراجحي (ص: 23). .
(فكلُّ مَجموعةٍ إنسانيَّةٍ مَهما صَغُرَت لها لُغتُها الخاصَّةُ بها؛ فهناك في دائِرةِ الأُسرةِ والمَكتَبِ والمَصنَعِ ومَطاعِمِ الجُنودِ تَتوالَدُ الكَلِماتُ والعِباراتُ والمَعاني الهامِشيَّةُ والألغازُ، وطُرقُ التَّعبيرِ الأخرى التي تَختصُّ بهذه البِيئاتِ، والتي يَصعُبُ إدراكُها على مَن لم يَنتَمِ إليها، وهذا هو الحالُ كذلك في المَجموعاتِ الكُبرى، التي يَربِطُها رِباطُ المَصالِحِ المُشترَكةِ؛ كالمِهنةِ، والحِرفةِ، والتِّجارةِ، والانتِماءِ إلى مُختلِفِ فُروعِ العِلمِ والفَنِّ والصَّحافةِ، والقُوَّاتِ المُسلَّحةِ، والهَيئاتِ الأكاديميَّةِ والرِّياضيَّةِ وغيرِها) [136] يُنظَر: ((دور الكلمة في اللغة)) لأولمان، ترجمة كمال محمد بشر (ص: 150). [137] يُنظَر: ((المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي)) لرمضان عبد التواب (ص: 130- 133). .
وآخِرُ ما نستَشهِدُ به ما ذكَره الأستاذُ مصطفى صادِق الرَّافِعيُّ حينَ قال: (الأصلُ في تشعُّبِ اللُّغاتِ تشعُّبُ الجماعاتِ؛ فإنَّ اللُّغةَ -كما أسلَفْنا- بِنتُ الاجتِماعِ) [138] يُنظَر: ((تاريخ آداب العرب)) لمصطفى صادق الرافعي، (1/ 65). .

انظر أيضا: