موسوعة اللغة العربية

المبحث الثَّالِثُ: بِدايةُ ظُهورِ اللِّسانيَّاتِ الاجْتِماعيَّةِ


(لقد نشَأت اللِّسانيَّاتُ الاجتماعيَّةُ في ظِلِّ انشِغالِ العالِمِ السُّويسْريِّ فِرْدينانْد دو سُوسِير بوَضعِ قواعِدِ اللِّسانيَّاتِ البِنْيويَّةِ التي تُعنى بالبِنياتِ الدَّاخِليَّةِ لِلُّغةِ. كذلك نشأت في ظِلِّ إلحاحِ العالِمِ الفَرَنسيِّ أَنْطُوان مايِيه في بحوثِه اللِّسانيَّةِ على الصِّلةِ الرَّابطةِ بَينَ اللُّغةِ والمُجتَمَعِ، وتأثُّرِه بنَظَريَّاتِ عالِمِ الاجتِماعِ الفَرنسيِّ دُورْ كايم. وعلى الرَّغمِ من أُطروحاتِ أَنْطُوان مايِيه فإنَّها لم تَجِدْ أدنى اهتمامٍ من عُلَماءِ اللِّسانيَّات، وظَلَّت مُهمَلةً حتى من عُلَماءِ اللِّسانيَّاتِ المارْكِسيَّةِ، وعُلَماءِ اللِّسانيَّاتِ الاجتماعيَّةِ الأمريكيَّةِ. وكان التحَوُّلُ الكبيرُ لِلِّسانيَّاتِ الاجتماعيَّةِ على يَدِ المدرسةِ البِنْيَويَّةِ التَّوليديَّةِ في الولاياتِ المتَّحِدةِ الأمريكيَّةِ، وكانت الخُطوةُ الحاسِمةُ من النَّاحيةِ النَّظَريَّةِ والمَنهَجيَّةِ في نشأةِ اللِّسانيَّاتِ الاجتِماعيَّةِ هي أبحاثَ اللِّسانيِّ الأمريكيِّ وِلْيام لابُوف؛ حيث ضَبَط لابُوف دراستَه في حيِّزٍ جُغرافيٍّ مُحَدَّدٍ وَضَّح فيه أثَرَ العوامِلِ اللِّسانيَّةِ على الوقائِعِ اللِّسانيَّةِ في دراسةٍ مَيدانيَّةٍ) [96] يُنظَر: ((مفهوم المحددات في اللسانيات الاجتماعية))، الشيماء شعبان عمران، مجلة الدراسات العربية، كلية دار العلوم، جامعة المنيا (ص: 1104) بتصرف يسير. .
لذا -وبفَضلِ أفكارِ دي سُوسِير- بلغَتَ الدِّراساتُ اللِّسانيَّةُ الحديثةُ والمعاصِرةُ درجةً من الدِّقَّةِ والضَّبطِ، والموضوعيَّةِ والشُّمولِ، ما أتاح لها أن تتبَوَّأَ مكانًا مرموقًا بَينَ فُروعِ المعرفةِ الإنسانيَّةِ، بل أخذت زِمامَ المبادَرةِ في هَدمِ الأسوارِ التي أقيمَت من دونِ مُسوِّغٍ عِلميٍّ واضحٍ بَينَ العُلومِ الطبيعيَّةِ والعُلومِ الإنسانيَّةِ [97] يُنظَر: ((العربية وعلم اللغة البنيوي- دراسة في الفكر اللغوي العربي الحديث)) حلمي خليل (ص:93). .
(ومع أنَّ محاضَراتِ دي سُوسِير كانت وَقفًا على مفاهيمِ الاتِّجاهِ الوَصفيِّ البِنْيَويِّ برَسمِ مفاهيمِه وأدواتِه وطرائقِه، مصحوبةً في كُلِّ ذلك بالإجاباتِ الوافيةِ عن فَرضيَّاتِ أسئلةِ اللُّغةِ وكِيانِها، وصولًا إلى تحقيقِ أهدافِ الدِّراسةِ اللِّسانيَّةِ، إلَّا أنَّها حمَلت معها شَذَراتٍ لمناهِجَ أُخرى وأفكارٍ مُغايِرةٍ ذكَرها دي سُوسِير قصدًا أو عَرَضًا في نظريَّتِه اللُّغَويَّةِ العامَّةِ، ومنها: المنحى اللُّغَويُّ الاجتماعيُّ، ولقد كان هذا حافِزًا مُهِمًّا دَفَع بعضَ اللُّغَويِّين من مدارِسَ مختَلِفةٍ في خِضَمِّ هذا الحِراكِ اللِّسانيِّ المتسارِعِ، إلى أن يبحَثوا عنه، ويُعَيِّنوا أماكِنَ وُجودِه، ويُبرِزوا الحاجةَ إليه بإيضاحِ قيمتِه، ومدى فاعليَّتِه في التَّحليلِ اللُّغَويِّ، وهذان الأمرانِ جَعَلا منه منهَجًا مستَقِلًّا جاء مع اللِّسانيَّاتِ التي اتَّسَمَت بتوالُدِ المناهِجِ، وتنوُّعِ المدارِسِ) [98] يُنظَر: ((في اللسانيات العامة ـ تأريخها، طبيعتها، موضوعها، مفاهيمها)) مصطفى غلفان (ص:207- 208). .
ولقد (تَنبَّه اللُّغويُّون إلى مِثلِ هذه البُحوثِ الَّتي تَربِطُ بَينَ عِلمِ اللُّغةِ والعُلومِ الاجْتِماعيَّةِ، بعد أنْ رأَوُا الدِّراساتِ الَّتي تَقومُ بها المَدرسةُ الاجْتِماعيَّةُ الفَرنسيَّةُ، الَّتي أنْشَأها دوركايم: Durkheim في أوائِلِ القَرْنِ العِشرينَ، وانْضمَّ إليها كَثيرٌ مِن عُلَماءِ اللُّغةِ في فَرنْسا وألْمانيا وإنْجِلترا وسويسرا والدِّنمارك، وكَثيرٌ مِن أساتِذةِ الجامِعاتِ في أوروبَّا وأمْريكا.
ومِنَ العُلَماءِ مَنْ لم يَنْضمَّ انْضِمامًا إيجابيًّا إلى هذه المَدرسةِ، غيرَ أنَّهم تَأثَّروا بعَقليَّةِ دوركايم الجَبَّارةِ، وبذلك أصْبَحتْ بُحوثُ المَدرسةِ الاجْتِماعيَّةِ الفَرنسيَّةِ أساسًا للبُحوثِ اللُّغويَّةِ في كَثيرٍ مِنَ الأحْيانِ؛ إذْ طبَّقتْ نَظريَّاتِ عِلمِ الاجْتِماعِ العامِّ على اللُّغةِ، وحاوَلَ الباحِثون أنْ يُبَيِّنوا لنا أثَرَ المُجْتمَعِ ونُظُمِه وحَضاراتِه المُختلِفةِ على الظَّواهِرِ اللُّغويَّةِ، باعْتِبارِ أنَّ الإنْسانَ كائِنٌ اجْتِماعيٌّ أوَّلًا وقبلَ كلِّ شيءٍ؛ ولِذلك كانتِ اللُّغةُ كائِنًا حيًّا كالإنْسانِ سَواءً بسَواءٍ؛ لأنَّها ألْصَقُ الظَّواهِرِ الاجْتِماعيَّةِ به) [99] يُنظَر: ((المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي)) لرمضان عبد التواب (ص: 126- 129). .
ويقولُ فندريس: (في أحْضانِ المُجْتمَعِ تَكوَّنتِ اللُّغةُ، ووُجِدتْ يومَ أحسَّ النَّاسُ بالحاجَةِ إلى التَّفاهُمِ بينَهم، وتَنْشأ مِنِ احْتِكاكِ بعضِ الأشْخاصِ الَّذين يَملِكون أعْضاءَ الحَواسِّ، ويَسْتعمِلون في عَلاقاتِهم الوَسائِلَ الَّتي وَضَعتْها الطَّبيعةُ تحت تَصرُّفاتِهم؛ الإشارةَ إذا أعْوَزتْهم الكَلِمةُ، والنَّظرةَ إذا لم تَكْفِ الإشارةُ) [100] يُنظَر: ((اللغة)) لفندريس (ص: 35) نقلًا عن: ((المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي)) لرمضان عبد التواب (ص: 126). .

انظر أيضا: