موسوعة اللغة العربية

المبحثُ الرَّابِعُ: استقلالُ عِلمِ اللُّغةِ


(كان من الطَّبيعيِّ أن يستقطِبَ القرآنُ الكريمُ الدَّارِسين مِن حَولِه، وأن تنشَأَ العلومُ المُختَلِفةُ من لُغويَّةٍ ونحْويَّةٍ وبلاغيَّةٍ وتأريخيَّةٍ وفَلَكيَّةٍ في خِدمةِ النَّصِّ القُرآنيِّ، ودخلت اللُّغةُ العربيَّةُ باعتبارِها لُغةَ الدَّولةِ جميعَ ميادينِ الحياةِ والمعارِفِ الإنسانيَّةِ، وما لبِثَت أن أصبحَت اللُّغةَ الأُولى في العالَمِ، فانطلقَت العقولُ المُبدِعةُ لمواجَهةِ كُلِّ التَّحَدِّياتِ الجِسامِ التي قد تَقِفُ أمامَ اللُّغةِ العَرَبيَّةِ، فجُمِعَت العربيَّةُ من أفواهِ أهلِ الاحتِجاجِ من القبائِلِ العربيَّةِ. ووُضِعَت المعاجِمُ بأصنافِها، وأُقيمَت الدِّراساتُ النَّحْويَّةُ والصَّرفيَّةُ واللُّغَويَّةُ والأُسلوبيَّةُ والصَّوتيَّةُ، وكان المحَرِّكُ الرَّئيسُ لهذه الدِّراساتِ جميعِها حمايةَ القُرآنِ الكريمِ من التَّشويهِ والتَّحريفِ، وخِدمةً لتفسيرِ معانيه) [53] انظر: ((اللغة العربية على مدارج القرن الواحد والعشرين)) عبد الكريم خليفة، ((منزلة اللغة العربية بين اللغات المعاصرة - دراسة تقابلية)) عبد المجيد الطيب عمر (ص:72). .
ومع تطَوُّرِ الزَّمانِ، واتِّساعِ نِطاقِ العُلومِ، بات العُرفُ العِلميُّ قائمًا على التخَصُّصِ الدَّقيقِ، ومن ثَمَّ (لم يَعُدْ عِلمُ اللُّغةِ مجرَّدَ وسيلةٍ لفهمِ النُّصوصِ الدِّينيَّةِ، أو أداةً لفَهمِ النُّقوشِ القديمةِ فحَسْبُ، بل له أيضًا أهدافُه العِلميَّةُ العامَّةُ بجانبِ الأهدافِ التَّطبيقيَّةِ الكثيرةِ؛ فعِلمُ اللُّغةِ عِلمٌ أساسيٌّ؛ بمعنى أنَّه يحاوِلُ -مِثلَ باقي العُلومِ الأساسيَّةِ الأُخرى- كَشْفَ جوانِبِ موضوعِه بأدَقِّ المناهِجِ العِلميَّةِ، أمَّا الأهدافُ التَّطبيقيَّةُ، مِثلُ الإفادةِ من نتائِجِ عِلمِ اللُّغةِ في تعليمِ اللُّغاتِ والتَّخطيطِ اللُّغَويِّ، فتأتي ثمرةً طبيعيَّةً للدِّراساتِ الأساسيَّةِ، ولكِنَّ عِلمَ اللُّغةِ لا يَهدُفُ بطريقةٍ مباشِرةٍ نحوَ هذه القَضايا التطبيقيَّةِ، وهذا أيضًا شأنُ كُلِّ فُروعِ المعرفةِ العِلميَّةِ) [54] ((علم اللغة العربية)) محمود فهمي حجازي (ص:65). .
(لقد أصبح عِلمُ اللُّغةِ عِلمًا مستقِلًّا، هدَفُه الأساسيُّ بحْثُ كلِّ جوانِبِ اللُّغةِ والحياةِ اللُّغَويَّةِ في العالَمِ، ويُقَدِّمُ عِلمُ اللُّغةِ هذه النَّتائِجَ، فتكونُ متاحةً لعدَّةِ تخَصُّصاتٍ وعُلومٍ تستفيدُ من عِلمِ اللُّغةِ ومن غيرِه، وما أكثَرَ العلومَ التي تتعامَلُ بنتائِجِ عِلمِ اللُّغةِ؛ منها: عِلمُ الأصواتِ العِلاجيُّ، وعُلومُ التربيةِ، وعِلمُ النَّفسِ، والعلومُ الاجتماعيَّةُ، وهندسةُ أجهزةِ الاتِّصالِ (Comunication Engineering) إلخ... وإذا كان ابنُ خَلدونَ وغيرُه قد اعتَبَروا الحِسابَ أداةً للعُلومِ الدِّينيَّةِ [55] يُنظَر: ((تاريخ ابن خلدون)) (1/ 541). ، فلم يَعُدْ أحدٌ يعتَبِرُ الرِّياضيَّاتِ مجرَّدَ وسيلةٍ لتنظيمِ المعامَلاتِ الفِقهيَّةِ، وإذا كانت الرِّياضيَّاتُ قد أصبحت عِلمًا مُستَقِلًّا، وأصبح للطِّبِّ الذي كان فَرضَ كفايةٍ فُروعٌ كثيرةٌ مُستَقِلَّةٌ ومتكامِلةٌ [56] يُنظَر: ((كشاف اصطلاحات الفنون)) للتهانوي (1/ 73). فإنَّ عِلمَ اللُّغةِ قد أصبح عِلمًا مُستَقِلًّا ببَحثِ اللُّغةِ، ويستفيدُ من كُلِّ فُروعِ المعرفةِ التي تُنيرُ له جوانِبَ مختلفةٍ في بحثِ اللُّغةِ.
فإلى جانِبِ الإفادةِ من أجهزةِ القياسِ الصَّوتيِّ، والوسائِلِ الإحصائيَّةِ، ونتائِجِ عِلمِ التَّشريحِ، وعِلمِ وظائِفِ الأعضاءِ، وعِلمِ فيزياءِ الصَّوتِ؛ فإنَّ عِلمَ اللُّغةِ يرتبِطُ بأوثَقِ الوشائِجِ مع العُلومِ الإنسانيَّةِ الأخرى، مِثلُ عِلمِ النَّفسِ وعِلمِ الاجتماعِ؛ ولذا يصِفُه البعضُ بأنَّه أكثَرُ العُلومِ الدَّقيقةِ إنسانيَّةً وأكثَرُ العُلومِ الإنسانيَّةِ دِقَّةً [57] يُنظَر: ((علم اللغة مقدمة للقارئ العربي)) لمحمود السعران (ص: 56، 57، 62)، ((علم اللغة العربية)) محمود فهمي حجازي (ص:54- 56). .



انظر أيضا: