موسوعة اللغة العربية

المبحث الخامِسُ: الخَلْطُ في تَسْميةِ (فِقْهِ اللُّغةِ) و(عِلمِ اللُّغةِ) و(الفيلولوجيا) في الدِّراساتِ العَربيَّةِ المُعاصِرةِ


لقد اكْتَنفَ تَعْريبَ المُصْطلَحاتِ العِلميَّةِ واللُّغويَّةِ في عَصْرِنا هذا الكَثيرُ مِنَ الغُموضِ واللَّبْسِ؛ وذلك بسَببِ تَعدُّديَّةِ المَعْنى في المُصْطلَحِ الواحِدِ، والفَوضى في اسْتِخدامِ المُصْطلَحاتِ؛ فالتَّعدُّديَّةُ والفَوضى آفَتَانِ مِن آفاتِ البَحْثِ العِلميِّ؛ ولِهذا ذمَّ ابنُ خَلْدونَ في مُقدِّمتِه قَديمًا تَعدُّديَّةَ المُصْطلَحاتِ، وقال: (اعلَمْ أنَّه ممَّا أضَرَّ بالنَّاسِ في تَحْصيلِ العِلمِ والوُقوفِ على غاياتِه كَثْرةُ التَّكاليفِ، واخْتِلافُ الاصْطِلاحاتِ في التَّعليمِ، وتَعدُّدُ طُرقِها) [17] ((تاريخ ابن خلدون)) (1/ 727). ، ومِنَ المُحْدَثينَ مَنْ ذمَّها كذلك، مِثلُ: الطَّيِّبِ البكوش، ودَعَا إلى إيجادِ المُصْطلَحِ العَربيِّ المُناسِبِ الَّذي يُحقِّقُ التَّواصُلَ بين المَوروثِ اللِّسانيِّ العَربيِّ والرَّوافِدِ اللِّسانيَّةِ الحَديثةِ [18] يُنظَر: ((في الكلمة في النَّحو العَربيِّ وفي اللسانيات الحديثة)) للطيب البكوش (ص: 9). .
ومِن هذه المُصْطلَحاتِ: فِقْهُ اللُّغةِ، وعِلمُ اللُّغةِ، والفيلولوجيا، وقد اخْتارَ بعضٌ مِنَ الدَّارِسينَ العَربِ مُصْطلَحَ (فِقْهِ اللُّغةِ) مُقابِلًا لمُصْطلَحِ (الفيلولوجيا)، فذهَب صُبْحي الصَّالِح والسَّيِّدُ يَعقوب بَكْر إلى أنَّ مَرَدَّ اخْتِيارِ مُصْطلَحِ (فِقْهِ اللُّغةِ) التُّراثيِّ مُقابِلًا لمُصْطلَحِ (فيلولوجيا) الغَربيِّ هو تَشابُهُ مَدلولَيِ المُصْطلَحَينِ، وقرَّرا مِن ثَمَّ قِيامَ بُحوثٍ فيلولوجيَّةٍ في التُّراثِ اللُّغويِّ العَربيِّ [19] يُنظَر: ((دراسات في فقه اللغة العربية)) لصبحي الصالح (ص: 14)، ((نصوص في فقه اللغة العربية)) السَّيِّد يعقوب بكر (ص: 19). .
إنَّ مَنْ يُراجِعُ ما كُتِبَ حول مُصْطلَحِ الفيلولوجيا في الدِّراساتِ العَربيَّةِ المُعاصِرةِ على الأقلِّ، يَجدُ أنَّه نال قدْرًا غيرَ قَليلٍ مِنَ الاهْتِمامِ لدى الدَّارِسينَ الَّذين اهْتمُّوا به، وحاولوا التَّعْريفَ به، وذكَروا أنَّه مُصْطلَحٌ غَربيٌّ، وهو مُكوَّنٌ مِن لَفْظَينِ هما: (فيلوس fhilos)، ومِن مَعانيها: الحُبُّ أوِ الصَّداقةُ، ومِن (لوقوس LOGOS)، ومَعْناها: الكَلامُ، والمَعْنى الكُلِّيُّ له: هو حُبُّ الكَلامِ أوِ اللُّغةِ، ومِن شأنِ هذا الحُبِّ أنْ يَدفَعَ النَّاسَ إلى فَهْمِها (اللُّغة) أو العِلمِ بها على وَجْهِ الإجْمالِ.
وقد شاع هذا المُصْطلَحُ في الدِّراساتِ اللُّغويَّةِ عند الغَربيِّينَ قبل ظُهورِ مُصْطلَحِ (عِلمِ اللُّغةِ)، وهو يَعْني عندَهم (فِقْهَ اللُّغةِ)، وهو بهذا المَفْهومِ يُقابِلُ مُصْطلَحَ (فِقْهِ اللُّغةِ) عند العَربِ القُدَماءِ والمُعاصِرينَ معَ وُجودِ فَوارِقَ بينَهما.
ورغمَ ما يَبْدو على هذا المُصْطلَحِ مِنَ الوُضوحِ للوَهلةِ الأُولى، فإنَّ التَّعمُّقَ في البَحْثِ في مَفْهومِه، وفيما يَشمَلُه ويُغطِّيه بالدِّراسةِ؛ يَكشِفُ عن مَدى ما يُثيرُه مِن خِلافٍ بين الدَّارسينَ، وما ذكَره الدُّكتورُ عبدُه الرَّاجِحيُّ في كِتابِه: (فِقْه اللُّغةِ في الكُتُبِ العَربيَّةِ) هو بعضٌ مِن هذا الخِلافِ، وهو يَتمثَّلُ في الآتي:
1- فِقْهُ اللُّغةِ مُرادِفٌ عند الإنْجليزِ للدِّراسةِ المُقارِنةِ بين اللُّغاتِ.
2- وهو عندَ آخَرينَ يُعْنى بدِراسةِ حُضارَةٍ مُعيَّنةٍ لأمَّةٍ مِنَ الأمَمِ.
3- هو عند الألْمانِ يُعْنى بالدِّراسةِ العِلميَّةِ للنُّصوصِ الأدَبيَّةِ القَديمةِ [20] يُنظَر: ((فقه اللغة في الكتب العربية)) عبده الراجحي (ص: 9-54). .
وسمَّى الدُّكتورُ مَحْمود فَهْمي حِجازي في كِتابِه (عِلم اللُّغةِ العَربيَّةِ) الفيلولوجيا بعِلمِ النُّصوصِ القَديمةِ؛ حيثُ قال: (ويَخْتلِفُ عِلمُ اللُّغةِ Linguistics بمَفْهومِه الحَديثِ عن عِلمِ النُّصوصِ، وكثيرًا ما يَحدُثُ خَلْطٌ بين مَجالَيِ العِلمَينِ؛ فعِلمُ النُّصوصِ هو ما يُطلَقُ عليه في اللُّغاتِ الأوربيَّةِ اسمُ Philoligy، وقد تَحدَّدَ مَجالُ عِلمِ الفيلولوجي بمَعْناه الدَّقيقِ بتَحْقيقِ المَخْطوطاتِ، وإعْدادِها للنَّشرِ العِلميِّ، وفكِّ رُموزِ الكِتاباتِ القَديمةِ، وكلِّ ما يَتعلَّقُ بتَقديمِ النُّصوصِ والنُّقوشِ القَديمةِ على نَحْوٍ يُمكِّنُ مِنَ القِيامِ بأبْحاثٍ مُتخصِّصةٍ فيها) [21] ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 31، 32). .
ولعلَّ ما أشار إليه الدُّكتورُ مَحْمود فَهْمي حِجازي يَزيدُ مِن تَوضيحِ مَيدانِ الفيلولوجيا؛ حيثُ لخَّصَه في جانِبَينِ، ومنْهما نَتعرَّفُ أيضًا على المَراحِلِ الَّتي قطَعها عِلمُ الفيلولوجيا في دِراسةِ اللُّغاتِ في عَلاقتِها بالإنْتاجِ الأدَبيِّ قبل ظُهورِ عِلمِ اللُّغةِ في العَصْرِ الحَديثِ، والجانِبانِ هما:
1- دِراسةُ لُغةٍ مُعيَّنةٍ بالتَّركيزِ فيها على تَحْليلِ نُصوصِها، ومُحاوَلةِ نَقْدِها، وهذا الجانِبُ عرَفه اليُونانُ والرُّومانُ حتَّى القَرْنِ التَّاسِعَ عشَرَ.
2- تَحْقيقُ النُّصوصِ القَديمةِ وإعْدادُها إعْدادًا عِلميًّا للنَّشْرِ لإمْكانِ الاسْتِفادةِ منها في مَعرِفةِ مُحْتواها التَّاريخيِّ أوِ الدِّينيِّ أوِ الحَضاريِّ، أو مَعْرِفةِ الخطِّ الَّذي كُتِبَتْ به.
فقال: (ولكنَّ تَنوُّعَ جَوانِبِ البَحْثِ اللُّغويِّ في القَرْنِ العِشرينَ فرَضَ التَّخصُّصَ على مَنْ يُريدُ المُشارَكةَ في البَحْثِ العِلميِّ. وهنا أصْبَح نَشْرُ النُّصوصِ والنُّقوشِ القَديمةِ عِلمًا مُسْتقلًّا عن عِلمِ اللُّغةِ؛ فعِلمُ اللُّغةِ بمَفْهومِه الحَديثِ يَخْتلِفُ عن عِلمِ النُّصوصِ القَديمةِ PhiLology، ولم يكنِ التَّمييزُ بينَهما واضِحًا في القَرْنِ التَّاسِعَ عشَرَ؛ لارْتِباطِ البَحْثِ اللُّغويِّ بالنُّصوصِ القَديمةِ، وكان الباحِثونَ الألْمانُ يُميِّزونَ مُنذُ القَرْنِ التَّاسِعَ عشَرَ بين العَمَلِ الفيلولوجيِّ Phiology وعِلمِ اللُّغةِ Sprachwissenschaft، وقد أخَذ غيرُهم مِنَ الباحِثينَ يَميلُ إلى تَمييزِ المَجالَينِ وعَدَمِ خَلْطِهما تحت اسمٍ واحِدٍ) [22] ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 33، 34). .
ومِنَ الأمْثِلةِ الَّتي ساقَها في هذا الصَّددِ لتَوضيحِ ما سبَقَ ذِكْرُه، وخاصَّةً فيما يَتعلَّقُ بالفَرقِ بينَه وبين عِلمِ اللُّغةِ مِن ناحيةِ المَنهَجِ والغايةِ لكلٍّ منْهما- قولُه: (فتَحقيقُ دِيوانٍ مِنَ الدَّواوينِ المَخْطوطةِ يُعَدُّ عمَلًا فيلولوجيًّا يُفيدُ البَحْثَ في اللُّغةِ كما يُفيدُ البَحْثَ في الأدَبِ، ولكنَّه لا يَدخُلُ في مَجالِ عِلمِ اللُّغةِ؛ فالدِّراسةُ اللُّغويَّةُ للدِّيوانِ تَعْني دِراسةَ النَّصِّ مِن جَوانِبِه الصَّوتيَّةِ والصَّرفيَّةِ والنَّحْويَّةِ والمُعْجميَّةِ، أي: مِنَ الجَوانِبِ الَّتي تَعارَفَ العُلَماءُ على جَعْلِها مَجالَ البَحْثِ في عِلمِ اللُّغةِ) [23] ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 34). .

انظر أيضا: