موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ الثَّالثُ: انتِشارُ الكِتابةِ العَربيَّةِ في البُلدانِ المَفتوحةِ


لَمَّا فتَحَ المُسلِمونَ بلادَ غَيرِ العَربِ غلَبَتِ اللُّغةُ العَربيَّةُ على لُغةِ أهلِ البِلادِ المَفتوحةِ في الأعَمِّ الأغلَبِ، وتَحَوَّلَت لُغةُ هؤُلاءِ إلى اللُّغةِ العَربيَّةِ، في حينِ أنَّ بَعضَ الأُمَمِ في البلاد التي دخل إليها الإسلام لم تَتَحَوَّل لُغَتُها إلى اللُّغةِ العَربيَّةِ، بَل بقيت مُحتَفِظةً بلُغَتِها كما هيَ، غَيرَ أنهم قَدِ استَخدَموا الحُروفَ العَربيَّةَ في الكِتابةِ؛ ففي فارِسَ حَلَّتِ الحُروفُ العَرَبيَّةُ مَحَلَّ الحُروفِ الفَهلَويَّةِ في كِتابةِ لُغةِ الفُرْسِ مع زيادةِ حُروفٍ مُعَيَّنةٍ، واستَعمَلها الأفغانيُّونَ في كِتابةِ لَهَجاتِهم "الباميريَّةِ" وزادوا عليها بَعضَ الحُروفِ الخاصَّةِ، وكَذلك البلوخستانيُّونَ الذينَ اتَّخَذوا العَرَبيَّةَ وكِتاباتِها في مَسائِلِ الدِّينِ بخاصَّةٍ، وفي الهندِ حَلَّتِ الكِتابةُ العَربيَّةُ مَحَلَّ حُروفِ اللُّغةِ الأورديَّةِ الهندوستانيَّةِ ولُغةِ أهل كَشْمير، واستعارَ العَرَبُ أرقامَهم من الهنودُ، واتَّخَذَ أهلُ أرخبيل الملايو منِ المُسلِمينَ الحُروفَ العَرَبيَّةَ لكِتابةِ لغَتِهم "الملقيَّة"، ورَسمَ بها أهلُ جاوه والفِلِبين لُغَتَهم الخاصَّةَ، وذاعَتِ الكِتابةُ العَربيَّةُ حتى أدرَكتِ الصِّينَ فكُتِبَت بها النُّصوصُ الدِّينيَّةُ الإسلاميَّةُ لخِدمةِ مُسلِميِ الصِّينِ الذينَ ظَلُّوا يَكتُبونَ لغَتهم الصِّينيَّةَ في شَتى أُمورِ حَياتِهمُ الأُخرى بالحُروفِ الصِّينيَّةِ المَعروفةِ، وهكذا كان اعتِناقُ الإسلامِ في الصِّينِ داعيًا إلى اتِّخاذِ الحَرفِ العَرَبيِّ لأغراضٍ دينيَّةٍ في مُقاطَعاتٍ زنجباريَا وكَشْمير ومنشوريَا ويونان.
وعُرِفتِ الحُروفُ العَربيَّةُ في مَجموعةِ لُغاتِ الأُمَمِ التَّتريةِ والتُّركيَّةِ التي تُقيمُ حَولَ بَحرِ قزوين وتَنتَشِرُ شَماليَّ البَحرِ الأسودِ وجَنوبيَّ جِبالِ أورال، وهيَ لُغاتُ قازان والقَرَمِ وقِفقاسيا وأذربيجان وداغِستانِ وبِلاد الجركسِ وخوارِزْم، وامتَدَّتِ الحُروفُ العَرَبيَّةُ إلى إقليمِ سَيبريا حيث كَتَبَ بها مُسلِمو روسيا بتَأثيرٍ من مُسلِمي التُّركستانِ الرُّوسيَّةِ، وانتَقَلَ الخَطُّ العَرَبيُّ بانتِقالِ القَبائِلِ المُسلِمةِ الرُّوسيَّةِ من سيبريا نَحو الغَربِ في الإقليمِ المَعروفِ الآنَ بإقليمِ روسيا البَيضاءِ، حيث يَحذِقُه مُسلِمو الرُّوسِ في تلك الأنحاءِ، على أنَّ الضَّروراتِ المَحَلِّيَّةَ ألزَمَت زيادةَ حُروفٍ مُعَيَّنةٍ على الحُروفِ العَربيَّةِ حتى تُصبِحَ في تلك الأصقاعِ صالحةً لأداءِ الأصَواتِ والمَخارِجِ التي ليست أصلًا في لُغةِ العَربِ، وكان من أثَرِ اتِّخاذِ التُّركِ العُثمانيِّينَ الحُروفَ العَرَبيَّةَ أنِ اتَّخَذَها عنهم بَعضُ دُولِ البلقانِ التي انتَشَرَ فيها الإسلامُ بفَضل جُهودِ الأتراكِ، كبُلْغاريا وغَيرِها منَ الأطرافِ التي دانَت للعُثمانيِّينَ وتَبِعتْهم في وقتٍ ما تَبَعيَّةً سياسيَّةً [401] يُنظر: ((فقه اللغة)) لحاتم صالح الضامن (ص: 129). .
أمَّا انتِشارُ الكِتابةِ العَربيَّةِ في إفريقيا فيَرجِعُ إلى أوَّلِ فتحِ العَرَبِ لمِصرَ في خِلافةِ عُمرَ بنِ الخَطَّابِ، فمُنذُ ذلك التَّاريخِ امتَدَّ الخَطُّ العَربيُّ إلى شَمالِ إفريقيا في إثرِ الفَتحِ، فكانت تُكتَبُ به رَسائِلُ الخَلفاءِ إلى الوُلاةِ ورُدودُ الولاةِ على الخُلَفاءِ، كما كانت تُكتَبُ به المَصاحِفُ وتُدَوَّنُ به الكُتُبُ الدِّينيَّةُ في مِصرَ والمَغرِبِ والأندَلُسِ والسُّودانِ والنُّوبةِ، وفي مِصرَ تَعَلَّمَ المِصريُّونَ الكِتابةَ العَربيَّةَ، وكَتَبَ بها الأقباطُ الأناجيلَ، وعَرفَ الكِتابةَ كذلك السَّواحِليُّونَ من سُكَّانِ شَرقِ إفريقيا حينَ وفَدَت إليهم مع الإسلامِ مُنذُ نِهايةِ القَرنِ الأوَّلِ الهجريِّ، ووَجَدَتِ الكِتابةُ العَربيَّةُ أعظَمَ رَوَاجٍ لها في مَدْغَشْقَر التي سادَ فيها الإسلامُ مُبَكِّرًا بسَبَبِ كثرةِ وفودِ العَربِ على هذه الجَزيرةِ بقَصدِ التِّجارةِ، وهيَ تُستَخدَمُ هناكَ لكِتابةِ اللُّغاتِ المَحَلِّيَّةِ، وعَرَف الأحباشُ الكِتابةَ العَربيَّةَ واستَعمَلوها في تَدوينِ لُغاتِهم ولَهَجاتِهمُ المُختَلفةِ حينَ هاجَرَ المُسلِمونَ الأوائِلُ إلى بلادِ الحَبشةِ فرارًا من إيذاءِ الكُفَّارِ، وزادَت مَعرِفَتُها هناكَ بانتِشارِ الإسلامِ في البِلادِ.
ويَكتُبُ مُسلِمو الحَبَشةِ لَهَجاتِهمُ الحَبشيَّةَ الآنَ بالحُروفِ العَرَبيَّةِ، ولا سيَّما في الجَنوبِ؛ حيث يَكتُبُ بها السُّكَّانُ لغَتُهمُ الأمهريَّةُ، والخَطُّ العَرَبيُّ مُستَعمَلٌ كذلك لكِتابةِ اللَّهجةِ الهرَريَّةِ، وهيَ إحدى لَهَجاتِ الأحباشِ الشَّرقيَّةِ، والكِتابةُ العَربيَّةُ شائِعةُ الاستِعمالِ من قَديمٍ بَينَ القَبائِل الكوشيَّةِ، ومنها بَعضُ القَبائِل التي تَتَفَرَّقُ الآنَ في الحَبَشةِ وجَنوبِ النُّوبةِ، ويَكتُبُ الصُّوماليُّونَ لَهَجاتِهم بالحُروفِ العَرَبيَّةِ، ولَكِنَّهم يَكتُبونَ خَطَّهمُ العَرَبيَّ من أعلى إلى أسفَلَ، وقد كان استِخدامُ الخَطِّ العَرَبيِّ بَينَ أُمَمِ إفريقيا الوُسطى بمَثابةِ الرَّابِطةِ التي جَمعَت بينَهم، فهو وسيلةٌ من وسائِلِ التِّجارةِ وطَريقةٌ من طُرُقِ التَّفاهمِ في كثيرٍ من أُمورِ الحَياةِ بَينَ هؤُلاءِ القَومِ، وتَكتُبُ الجالياتُ العَرَبيَّةُ المُهاجِرةُ على سواحِلِ إفريقيا الشَّرقيَّةِ ومَدْغَشْقَر وجَنوبِ القارَّةِ الإفريقيَّةِ لَهَجاتِها أو لُغاتِها الخاصَّةَ بالحُروفِ العَربيَّةِ المَوروثةِ [402] يُنظر: ((المخطوطات العربية والعجمية في بلاد الصحراء والساحل)) منشورات معهد الدراسات الإفريقية (ص: 51)، ((المخطوطات العربية في النيجر)) لسالو الحسن (ص: 64)، ((أضواء على الطرق الصوفية في القارة الإفريقية)) عبد الله عبد الرزاق إبراهيم (ص: 4). .
وشاعَ استِخدامُ الخَطِّ العَرَبيِّ الأندَلسيِّ بَينَ سُكَّانِ شَمال إفريقيا بطابِعِه الخاصِّ الذي لا يَزالُ ظاهرًا في خُطوطِ هذه البِلادِ حتى الآنَ، وتَوغَّلَ الخَطُّ العَرَبيُّ في إسبانيا وجَنوبِ فرَنسا حينَ بَلَغَت فُتوحاتُ العَرَبِ أقاليمَ اللُّوارِ الجَنوبيَّةَ في العُقودِ الأُولى منَ القَرنِ الثَّاني للهِجرةِ، وبَلَغَ من تَأثيرِ غَزوِ الحُروفِ العَرَبيَّةِ أنِ اتَّخَذَها الإسبانُ والصِّقليُّونَ وكَثيرٌ من أمَم أوروبا لزَخرَفةِ المَباني والعُملةِ [403] يُنظر: في ذلك كتاب: ((الأدب الأندلسي من الفتح إلى سقوط الخلافة)) لأحمد هيكل، ((فقه اللغة)) لحاتم الضامن (ص: 149- 150). .

انظر أيضا: