موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ الأوَّلُ: أهمِّيَّةُ الكِتابةِ في الإسلامِ


لَمع نَجمُ الكِتابةِ في ظِلِّ الإسلامِ بفَضلِ القُرآنِ الكَريمِ الذي هو مُعجِزَتُه ودُستورُ تَشريعٍ؛ لهذا اقتَضى الأمرُ حِفظَ آياتِه وإبقاءَها، فاستَعمَلَ العَرَبُ في ذلك أداتَهمُ الغالبةَ، وهيَ الحِفظُ، واستَخدَموا الكِتابةَ كذلك في التَّدوينِ، فكان للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كُتَّابٌ يَكتُبونَ الوحيَ بَينَ يَدَيه، منهمُ الخَلفاءُ الأربَعةُ، وزيدُ بنُ ثابِتٍ، ومُعاويةُ بنُ أبي سُفيانَ، كما كان بَعضُ الصَّحابةِ يَكتُبُ لنَفسِه؛ كعائِشةَ، وابنِ مَسعودٍ، وعَبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ، رَضيَ الله عنهم جَميعًا.
ثُمَّ تَطَوَّرَ الأمرُ وازدادَتِ الحاجةُ إلى الكِتابةِ مع تَدوينِ الحَديثِ الشَّريفِ من بَعضِ الصَّحابةِ كعَبِدِ اللهِ بنِ عَمرٍو، ثُمَّ مع إرسالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمُلوكِ الفرَسِ والرُّومِ وسائِرِ القوى المُجاوِرةِ لبِلادِ الإسلامِ، فضلًا عن إتيانِ الوُفودِ التي تُبايِعُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتَحتاجُ إلى أن يَكتُبَ لها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَيئًا عن أمرِ الدِّينِ وفَرائِضِ الإسلامِ، ومنها قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومَ فتحِ مكَّةَ: ((اكتُبوا لأبي شاهٍ)) [394] أخرجه البخاري (2434)، ومسلم (1355) من حديث أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عنه. ، وهو رَجُلٌ من أهل اليَمَنِ أرادَ أن يَكتُبَ له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَصاياه وأوامِرَه يَومَ الفَتحِ.
وبَعدَ وفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم استَجَدَّت أُمورٌ ووقائِعُ احتاجَت إلى الكِتابةِ احتياجًا عَظيمًا؛ فبَعدَ مَقتَلِ أكثَرِ القُرَّاءِ الذينَ يَحفَظونَ القُرآنَ في حُروبِ الرِّدَّةِ، خافَ عُمرُ بنُ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه من أن يَضيعَ القُرآنُ ويُرفَعَ بمَوتِ القُرَّاءِ؛ لهذا عَرضَ على أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ خَليفةِ رَسولِ اللهِ فِكرةَ جَمعِ القُرآنِ وكِتابَتِه في مُصحَفٍ واحِدٍ، وبالفِعلِ تَمَّ ذلك في ملحَمةٍ بُطوليَّةٍ لزَيدِ بنِ ثابِتٍ وسائِرِ الصَّحابةِ، وتَمَّت كِتابةُ القُرآنِ الكَريمِ كامِلًا في مُصحَفٍ واحِدٍ.
كما كان اتِّساعُ الدَّولةِ الإسلاميَّةِ في عَصرِ الرَّاشِدينَ سبَبًا في ازدِهارِ الكِتابةِ، فنَشِطَتِ المُراسَلاتِ بَينَ الخَليفةِ في عاصِمةِ الحُكمِ وبينَ الأُمَراءِ والعُمَّالِ في سائِرِ أقطارِ الإسلامِ، ورَسائِلُ الفاروقِ عُمرَ إلى عُمَّالِه مُستَفيضةٌ مَشهورةٌ، أشهرُها ما كان بينَه وبينَ أبي موسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنهما.
ثُمَّ اشرَأبَّت فتنةُ اختِلافِ النَّاسِ على القُرَّاءِ وتَكفيرِ بَعضِهم بَعضًا؛ مِمَّا حَدَا بالخَليفةِ الشَّهيدِ عُثمانَ بنِ عَفَّانَ إلى أن يَجمَعَ القُرآنَ في مُصحَفٍ واحِدٍ برَسمٍ نَبَطيٍّ يَحتَمِلُ القِراءاتِ كُلَّها، وساعَدَه على ذلك أنَّ النِّقاطَ وعَلاماتِ الضَّبطِ والحَرَكاتِ لم تَكُن مَوجودةً بَعدُ، ونَسخَ ذلك المُصحَفَ -العُثمانيَّ- وأرسَله إلى كافَّةِ الأمصارِ، وأمرَ النَّاسَ بإحراقِ ما عَداه من المَصاحِفُ، فاستجابَ النَّاسُ لأمرِه، ونَسَخَ كُلُّ واحِدٍ منَ الكِتابِ مُصحَفًا له منَ المُصحَفِ المُرسَلِ إلى بَلَدِه، وظَهرَ من ذلك تَطَوُّرٌ مَلحوظٌ في الخَطِّ العَرَبيِّ [395] يُنظر: ((قصة الكتابة العربية)) لإبراهيم جمعة (ص: 35). . وفي عَهدِه ظَهرَتِ الكِتابةُ على النُّقودِ السَّاسانيَّةِ، حيث حملَت (بسمِ الله) و(بركة) و(مُحَمَّد)، وانتَشَرَتِ الكِتابةُ العَربيَّةُ انتِشارًا قَويًّا ومُؤَثِّرًا على كِتابةِ اللُّغاتِ الأُخرى؛ كالإيرانيَّةِ والهنديَّةِ، وفي أنحاءٍ كثيرةٍ منَ العالَمِ [396] يُنظر: ((قصة الكتابة العربية)) لإبراهيم جمعة (ص: 25 - 27). .
ولما انتَقَلَتِ الخِلافةُ إلى الكوفةِ زَمانَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه تَطَوَّر الخَطُّ تَطَوُّرًا مَلحوظًا في الرَّسمِ والنَّقشِ، حتى صارَ يُعرَفُ باسمِ الخَطِّ الكوفيِّ، تَمييزًا له عن شَكلِ الخَطِّ المَدَنيِّ والمَكِّيِّ والبَصريِّ ونَحو ذلك [397] يُنظر: ((مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة)) لمحمد حميد الهندي (ص: 43- 368). .

انظر أيضا: