موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ الأوَّلُ: هل عَرَفَ العَرَبُ الكِتابةَ قَبلَ الإسلامِ؟


لقد كان العَرَبُ قَبلَ الإسلامِ يَعرِفونَ الكِتابةَ؛ إذ كانت شَرطًا لا بُدَّ منه للعَرَبيِّ ليَكونَ ذا مَكانةٍ في قَومِه؛ فقد كان يُسَمَّى كامِلًا كُلُّ مَن يُحْسِنُ العَومَ والرَّميَ والكِتابةَ [384] يُنظر: ((مصادر الشعر الجاهلي)) لناصر الدين الأسد (ص: 54). .
وقد ظَنَّ بَعضُ الباحِثينَ أنَّ تَسميةَ عَهدِ ما قَبلَ الإسلامِ "الجاهليَّةَ" تَعودُ إلى انتِشارِ الجَهلِ وعَدَمِ مَعرِفةِ الكِتابةِ والقِراءةِ والعُلومِ، والأمرُ على خِلافِ ذلك، وإنَّما سبَبُ التَّسميةِ إلى ما كان بينَهم منَ الشِّركِ وجَهلِ الإيمانِ والتَّوحيدِ، والجَهلِ بالأديانِ السَّماويَّةِ، وانتِشارِ الفُحشِ وتَردِّي الأخلاقِ. وهذا المُرادُ من وَصفِ الله تَعالى لهم بالأُمِّيَّةِ في قَولِه تَعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [البقرة: 78] ، بدليلِ أنَّ اللهَ تعالى قال بَعْدَها: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لهمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لهمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة: 79] [385] يُنظر: ((مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية)) ناصر الدين الأسد (ص: 44، 45). .
لَكِنَّ هذا لا يَعني أنَّ العَرَبَ قَبلَ الإسلامِ كانوا جَميعًا يُحسِنونَ القِراءةَ والكِتابةَ، بَل لم تُستَعمَلِ الكِتابةُ إلَّا في كِتابةِ النُّصوصِ والعُهودِ والمَواثيقِ، كما يَبدو أنَّ بَعضَ الشُّعَراءِ كانت تُسَجَّلُ أشعارُه وتُدَوَّنُ، ومن هنا جاءَ تَسميةُ المُعَلَّقاتِ المَشهورةِ بهذا الاسمِ؛ لأنَّها كانت تُعَلَّقُ على أستارِ الكَعبةِ، على أشهرِ التَّفسيراتِ المَذكورةِ. وإنَّما لم تَنتَشِرِ الكِتابةُ في العَرَبِ؛ لأنَّهم كانوا أهلَ باديةٍ، يُعانونَ من شَظفِ العَيشِ، ويَميلونَ إلى التَّنَقُّل والتَّرحالِ، ولا يَعرِفونَ حَياةَ التَّرَفِ والاستِقرارِ.
ولمَّا جاءَ الإسلامُ كان في قُرَيشٍ سَبعةَ عَشَرَ رَجُلًا يَعرِفونَ الكِتابةَ، وكانتِ الشِّفاءُ بنتُ عَبدِ اللهِ العَدويَّةُ تُحسِنُ الكِتابةَ، وكان في المَدينةِ يَهوديٌّ مِن يَهودِ ماسِكةَ قدْ تَعَلَّم الكِتابةَ، فكان يُعَلِّمُها الصِّبيانُ، فجاءَ الإسلامُ وفي المَدينةِ بِضعةَ عَشَرَ رَجُلًا يَكتُبونَ؛ منهم: سَعدُ بنُ زُرارةَ، والمُنذِرُ بنُ عَمرٍو، وأُبيُّ بنُ كَعبٍ، وزَيدُ بنُ ثابِتٍ، ورافِعُ بنُ مالكٍ، وأُسَيدُ بنُ حُضَيرٍ، ومَعْنُ بنُ عَدِيٍّ، وأبو عَبسِ بنُ كثيرٍ، وأوسُ بنُ خوليٍّ، وبَشيرُ بنُ سَعدٍ [386] يُنظر: ((صبح الأعشى)) للقلقشندي (3/14) .
ويَشهدُ لهذا أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أطلقَ سراحَ الأسرى يَومَ بَدرٍ على أن يُعلِّمَ كُلُّ واحِدٍ منهم عَدَدًا من صِبيانِ الأنصارِ الكِتابةَ [387] لفظُ الحديثِ: عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((كان ناسٌ من الأسرى يومَ بدرٍ لم يكُنْ لهم فِداءٌ، فجعل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِداءَهم أن يُعَلِّموا أولادَ الأنصارِ الكتابةَ...))، أخرجه أحمد (2216) واللفظ له، والحاكم (2621) من حديث عبدالله بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. . وهذا يَدُلُّ على أنَّ الكِتابةَ كانت مَوجودةً في قُرَيشٍ في زَمَنِ الإسلامِ وقَبلَه.

انظر أيضا: