موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ الرَّابِعُ: النُّقوشُ القَديمةُ ودَلالَتُها


سبَقَ أن ذَكَرْنا اختِلافَ آراءِ العُلَماءِ في الخَطِّ العَرَبيِّ، وهل هو تَوقيفيٌّ عَلَّمَه اللهُ لآدَمَ، أم هو مُكتَسَبٌ وضعَه آدَمُ أو غَيرُه. ولَعَلَّ أقرَبَ هذه الآراءِ إلى الصَّوابِ هو الرَّأيُ الذي اتَّفَقَ عليه العُلَماءُ والمُستَشرِقونَ، والذي يَقولُ: إنَّ الخَطَّ العَرَبيَّ مُشتَقٌّ منَ الخَطِّ النَّبَطيِّ المُتَأخِّرِ، وأنَّ العَرَبَ أخَذوا الخَطَّ العَرَبيَّ عن أبناءِ عُمومَتِهمِ الأنباطِ قَبلَ الإسلامِ [374] يُنظر: ((دراسة في تطور الكتابات الكوفيّة)) لإبراهيم جمعة (ص: 17)، ((المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام)) لجواد علي (15/ 174)، ((فقه اللغة)) لعلي عبد الواحد وافي (ص: 80). ، والأنباطُ هم قَبائِلُ عَربيَّةٌ نَزَحَت منَ الجَزيرةِ العَربيَّةِ وسَكَنوا في المَناطِقِ الآراميَّةِ في فِلسطينَ وجَنوبِ بلادِ الشَّامِ والأردُن [375] يُنظر: ((دراسات في تاريخ العرب القديم)) لمحمد بيومي مهران (ص: 442). ، ويُؤَيِّدُ هذا الرَّأيَ الدكتور جواد علي، مُستَنِدًا إلى مُشابَهةِ حُروفِ الخَطِّ العَرَبيِّ وأشكالِه لحُروفِ وأشكالِ الخَطِّ النَّبَطيِّ المُتَأخِّرِ، كما أيَّده أيضًا الدكتور إبراهيم جمعة [376] يُنظر: ((المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام)) لجواد علي (15/ 174)، ((دراسة في تطور الكتابات الكوفية)) إبراهيم جمعة (ص: 17). . ولَعَلَّه أكثَرُ رَأيٍ يَركَنُ إلى دَليلٍ مادِّيٍّ؛ حيث يَستَنِدُ العُلَماءُ الذينَ قالوا به إلى النُّقوشِ النَّبطيَّةِ التي كشَفَتِ الصِّلةَ بَينَ الخَطِّ العَرَبيِّ والنَّبطيِّ.
والخَطُّ النَّبطيُّ هو أحَدُ أنواعِ الرَّسمِ الآراميِّ، والكتابة الآرامية شاع استخدامُها في بلادِ الشَّامِ، وكُتِبَت بها بعضُ فُصولِ التوراة، وكانت لغةَ التجارةِ والإدارةِ في الشَّرقِ القديمِ، وظَلَّت لغةَ فلسطين حتى في عهدِ المسيح عليه السَّلامُ، وهي من اللُّغاتِ السَّاميَّة، ومن لهجاتها: السريانية والكلدانية [377] يُنظر: ((تاريخ الخط العربي)) لناهض عبد الرزاق القيسي (ص: 13). ، ومن مُمَيِّزاتِه ارتِباطُ بَعضِ حُروفِه ببَعضٍ، وشَكلُ بَعضِ حُروفِه في نِهايةِ الكَلمةِ يَختَلفُ عنها في أوَّل الكَلمةِ أو وسَطِها [378] يُنظر: ((المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام)) لجواد علي (15/ 174). .
1- نَقش أمِّ الجمالِ:
عُثِرَ عليه جَنوبَ حَورانَ، شَرقَ الأردُن، ويوجَدُ في هذه الكِتابةِ حُروفٌ غَيرُ مُرتَبِطةٍ، وحُروفٌ مُشابِهةٌ لحُروفِ الخَطِّ الكوفيِّ، مَكتوبةٌ بالخَطِّ الإرميِّ، ووُجَدَ فيها أسماءٌ عَرَبيَّةٌ، وقد كانتِ القَبائِلُ العَربيَّةُ الشَّماليَّةُ تَستَعمِلُ الإرميَّةَ في الكِتابةِ. ويَعودُ تاريخُها إلى سنةِ 250 أو 270م.
2- نَقشُ النمارةِ:
وقد عُثِرَ على هذا النَّقشِ في مِنطَقةِ النمارةِ، وهيَ قَصرٌ صَغيرٌ للرُّومِ، قُرْبَ دِمَشقَ، وهو يُشيرُ إلى قَبرِ امرِئِ القيسِ بنِ عَمرٍو من مُلوكِ الحِيرةِ، وقد دُوِّنَ بالرَّسمِ النَّبَطيِّ المُتَّصِلِ الحَرفِ. ويَعودُ تاريخُها إلى تاريخِ وفاةِ امرِئِ القيسِ، في سنةِ 328م [379] يُنظر: ((المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام)) لجواد علي (15/176). .
3- نَقشُ زبدٍ:
وعُثِرَ عليه في خَرائِبِ "زُبد" بَينَ قِنَّسْرينَ ونَهرِ الفُراتِ [380] يُنظر: ((المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام)) لجواد علي (15/ 176)، ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (1/ 119). ، وكُتِبَ بثَلاثِ لُغاتٍ: اليونانيَّةِ والسُّرْيانيَّةِ، والعَرَبيَّةِ، وكان النَّصُّ العَرَبيُّ فيه لا يَخلو منَ الأثَرِ الآراميِّ. ويَعودُ تاريخُها إلى سنةِ 612م [381] يُنظر: ((المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام)) لجواد علي (15/176). .
4- نَقشُ حَرَّانَ:
عُثِرَ عليه في حَرَّانِ اللجا، في المنطَقةِ الشَّماليَّةِ من جِبال الدُّروزِ، مُدَوَّنٌ باليونانيَّةِ والعَرَبيَّةِ، وهذا النَّقشُ أهمُّ النُّصوصِ؛ لأنَّه يَظهرُ فيه بوُضوحٍ استِقلالُ الخَطِّ العَربيِّ عنِ النَّبطيِّ، وإن كان فيه شَيءٌ منَ التَّأثيرِ البَسيطِ، لَكِنَّه نَصٌّ دُوِّنَ بلهجةِ القُرآنِ الكَريمِ [382] يُنظر: ((المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام)) لجواد علي (15/ 177). .
وبِناءً على تلك النُّقوشِ التي وُجِدَت، اتَّفَقَ أغلَبُ العُلَماءِ والمُستَشرِقينَ على اشتِقاقِ الكِتابةِ العَربيَّةِ عنِ الخَطِّ النَّبطيِّ المُتَأخِّرِ، غَيرَ أنَّه لا يُمكِنُ إهمالُ الرَّأيِ الذي يَقولُ بأنَّ الخَطَّ العَرَبيَّ مُشتَقٌّ منَ الخَطِّ المُسْنَدِ، بدَليل وُجودِ نُقوشِ العَرَبيَّةِ البائِدةِ التي تُثبِتُ الصِّلةَ بَينَ الخَطِّ المُسْنَدِ والخَطِّ العَرَبيِّ.
وقد حاولَ حَسَّان صُبحي مُراد الجَمعَ بَينَ الرَّأيَينِ؛ حيث إنَّ الخَطَّ المُسْنَدَ غَيرُ بَعيدِ الشَّبَه عنِ الخَطِّ الآراميِّ، وأنَّ لُغةَ المُسْنَدِ تَأثَّرَت باللُّغةِ الآراميَّةِ، وأنَّ أبجَديَّتَنا العَرَبيَّةَ تَرتَبِطُ بأبجَديَّةِ العَرَبِ الأصليَّةِ، وهيَ المُسْنَدُ، وتَقومَ فِكرَتُه في الجَمعِ على أنَّ النَّبطَ قَومُ عَرَبٌ، تَأثَّروا بالخَطِّ المُسْنَدِ والآراميِّ، ثُمَّ اشتَقُّوا منَ الخَطِّ الآراميِّ خَطًّا جَديدًا سَمَّوه بالخَطِّ النَّبَطيِّ [383] يُنظر: ((تاريخ الخط العربي بين الماضي والحاضر)) لحسان صبحي مراد (ص: 35). .

انظر أيضا: