موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ الأوَّلُ: أصلُ الخَطِّ العَرَبيِّ


لقد اختَلَفَ المُؤَرِّخونَ من عَرَبٍ ومُستَشرِقينَ في أصل الخُطوطِ ومَنشَئِها عامَّةً، وفي أصل الخَطِّ العَرَبيِّ خاصَّةً، ويَظهرُ من خِلال البَحثِ والتَّحَرِّي عِدَّةُ آراءٍ مُتَناقِضةٍ، لَعَلَّ مَردَّها إلى قِلَّةِ النُّصوصِ المَكتوبةِ التي وصَلَت إلينا، والتي لم تَكُن دَليلًا مُؤَكَّدًا لبَيانِ أصلِ هذا الخَطِّ.
فقد ذَهبَ بَعضُ الباحِثينَ إلى أنَّ الكِتابةَ تَوقيفٌ منَ اللهِ عزَّ وجَلَّ، أُنزِلَتْ على آدَمَ عليه السَّلامُ في إحدى وعِشرينَ صَحيفةً [355] يُنظر: ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء))، للقلقشندي (3/9)، ((نهاية الأرب في فنون الأدب))، للنويري (13/31). ، وقيلَ: إنَّ آدَم عليه السَّلامُ هو من وضعَها، كتَبَها في طَينٍ وطَبَخَه قَبلَ أن يَموتَ بثَلاثِمِائةِ سنةٍ، ولَمَّا كان غَرَقُ الطُّوفانِ أصابَ كُلُّ قَومٍ كِتابَهم [356] يُنظر: ((الفهرست)) لابن النديم (ص:14)، ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء))، للقلقشندي (3/9)، ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (4/239). .
وقَدِ استَدَلَّ القائِلونَ بالتَّوقيفِ بأدِلَّةٍ عَديدةٍ؛ منها: ما ورَدَ في القُرآنِ الكَريمِ من إشاراتٍ يُمكِنُ أن يُستَدَلَّ بها على أصلِ القِراءةِ والكِتابةِ، ففي قَولِه تَعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة: 31] ، وقَولِه تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [القلم: 1] ، وقَولِه تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1 - 5] ؛ دَليلٌ على تلك المَعرِفةِ، وأنَّ اللُّغاتِ كُلَّها تَوقيفيَّةٌ منَ اللهِ سُبحانَه وتَعالى، وتَبَعًا لهذا يَكونُ الخَطُّ تَوقيفيًّا كذلك.
وبِناءً عليه فيَكونُ آدَمُ عليه السَّلامُ هو أوَّلَ من خَطَّ بالقَلَمِ منَ البَشَرِ، وعلى رِوايةِ أنَّه كَتَبَ في الطِّينِ ثُمَّ لَمَّا أصابَ الطَّوفانُ الأرضَ أخذَ كُلُّ قَومٍ كِتابَهم، يَكونُ آدَمُ عليه السَّلامُ هو أوَّلَ من كَتَبَ العَرَبيَّةَ كذلك وسائِرَ اللُّغاتِ، ويَدُلُّ عليه قَولُ من قال: إنَّ الكِتابةَ العَربيَّةَ ظَلَّت مَطموسةً حتى جاءَ إسماعيلُ عليه السَّلامُ وخَصَّه اللهُ بالكِتابِ العَرَبيِّ فتَعَلَّمَه وكَتَب به. وقيلَ: إنَّ إسماعيلَ أوَّلُ من كَتَبَ الكِتابةَ العَربيَّةَ على لَفظِه ومَنطِقِه، وقيلَ: أوَّلُ من كَتَبَ بالعَربيَّةِ قَومٌ منَ الأوائِلِ أسماؤُهم "أبجَد، هَوَّز، حطِّي، كَلِمُن، سعفص، قرشت" [357] يُنظر: ((أدب الكتاب)) للصولي (ص: 28-29). .
والحَقُّ أنَّ مَعرِفةَ أصلِ الكِتابةِ وكَيفيَّةِ نَشأتِها وهل هيَ تَوقيفيَّةٌ أم مِن وَضعِ البَشَرِ ليس بالأمرِ السَّهْلِ؛ فإنَّه ليس ثَمَّةَ دَليلٌ على شَيءٍ من هذا، بَيْدَ أنَّ المُطَّلِعَ على النُّقوشِ والآثارِ التي خَلَّفَتها الحَضاراتُ القَديمةُ يَرى الفَرقَ بَينَ ما كانت عليه الكِتابةُ في كُلِّ زَمَنٍ أو حقْبةٍ وما صارَت عليه في الزَّمَنِ الذي بَعدَه، وُصولًا بزَمَنِنا هذا، ومن هنا يَتَبَيَّنُ له أن الكِتابةَ لم تَكُن تَوقيفيَّةً؛ إذ لَو كانت لَمَا استَحالَت من صورَتِها الأُولى إلى أكثَرَ من صورةٍ، ولَظَلَّت باقيةً على الوضعِ الأوَّلِ. وتَتَّفِقُ الدِّراساتُ على أنَّ ظُهورَ أوَّلِ كِتابَتَينِ كان في الشَّرقِ الأدنى القَديمِ، وقد قُدِّمَ للعالَمِ أوَّلُ كِتابَتَينِ هامَّتَينِ، وهما الكِتابةُ المِسماريَّةُ، والكِتابةُ الهيروغليفيَّةُ في مِصرَ [358] يُنظر: ((مجلة جامعة أم القرى 14-19)) (9/ 448)، ((علم اللغة مقدمة للقارئ العربي)) لمحمود السعران (ص: 257-258). .

انظر أيضا: