موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ الثَّاني: الأوزانُ الموسيقيَّةُ للُّغةِ


وتَتَميَّزُ اللُّغةُ العَربيَّةُ بأنَّها لُغةٌ موسيقيَّةٌ، فجَميعُ ألفاظِها تَرجِعُ إلى نَماذِجَ منَ الأوزانِ الموسيقيَّةِ، والكَلامُ العَرَبيُّ نَثرًا كان أم شِعرًا هو مَجموعٌ منَ الأوزانِ ولا يَخرُجُ عن أن يَكونَ تَركيبًا مُعَيَّنًا لنَماذِجَ موسيقيَّةٍ.
وقَدِ استَثمَرَ الشُّعراءُ والكُتَّابُ العَرَبُ هذه الخاصَّةَ الموسيقيَّةَ، فقابلوا بَينَ نَغمةِ الكَلامِ ومَوضوعِه مُقابَلةً لها أثَرٌ منَ الوِجهةِ الفَنِّيَّةِ. فمَثَلًا يَقولُ النَّابِغةُ الذُّبيانيُّ [319] يُنظر: ((الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري)) لأبي القاسم الآمدي (1/ 442). :
مِيْلُوا إِلَى الدَّارِ مِنْ لَيْلَى نُحَيِّيها
نَعَمْ وَنَسْأَلُهَا عَنْ بَعَضِ أَهْلِيْهَا
حيث يَنقُلُكَ إلى جَوِّ عاشِقٍ يَهِيمُ ويَتَأمَّلُ وتَهفو نَفسُه برقَّةٍ وحنانٍ إلى آثارِ الحَبيبِ بما في البَيتِ من نُعومةِ الحُروفِ وكَثرةِ المُدودِ وحُسنِ تَوزُّعِها وجَمالِ تَركيبِ الألفاظِ.
ويَقولُ البُحتريُّ مُتَحَدِّثًا عنِ الذِّئبِ [320] يُنظر: ((ديوان المعاني)) لأبي هلال العسكري (2/ 135)، ((الدر الفريد وبيت القصيد)) للمستعصمي (7/ 321). :
عَوَى ثُمَّ أَقْعَى فَارْتَجَزْتُ فَهِجْتُهُ
فَأقْبَلَ مِثْلَ الْبَرْقِ يَتْبَعُهُ الرَّعْدُ
فيَنقُلُ تَتابُعَ حَرَكاتِ الذِّئبِ السَّريعِ في ألفاظٍ قَصيرةِ الأوزانِ مُتَواليةِ الحَرَكاتِ.
وقد بَلَغَت هذه الخاصَّةُ الموسيقيَّةُ ذِرْوتَها في التَّركيبِ القُرآنيِّ، فأنتَ تُحِسُّ مَثَلًا في سورةِ العادياتِ عَدْوَ الخَيلِ في قَولِه تَعالى: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا [العاديات: 1-5] .
وكان لأوزانِ الألفاظِ أثَرٌ في جمالِ الكِتابةِ العَربيَّةِ؛ فالكَلِماتُ التي على وزنٍ واحِدٍ تَتَشابَهُ ألفاظُها الكِتابيَّةُ؛ مِثلُ الكَلماتِ على وزنِ فاعِلٍ أو على وزنِ مَفعولٍ، إنَّ هذه الكَلِماتِ في التَّركيبِ يَكونُ منها ما يُشبِهُ الزَّخارِفَ العَربيَّةَ.
وتَتَأرجَحُ الصِّيَغُ بَينَ الثَّباتِ والتَّطَوُّرِ، والثَّباتُ غالبٌ ولا يُسَبِّبُ هذا جُمودَ العَرَبيَّةِ، فإنَّ لها على حالَتِها الحاضِرةِ منَ الصِّيَغِ والأبِنْيةِ غِنًى لا تُضارِعَها فيه لُغةٌ أُخرى منَ اللُّغاتِ الرَّاقيةِ التي تَفي بحاجاتِ الإنسانِ في مِثلِ هذا العَصرِ.
وإنَّ الإخلالَ بهذه الأبنيةِ وإفسادَها إفسادٌ لنِظامِ اللُّغةِ؛ فلذلك كان العَرَبُ إذا أدخَلوا كلمةً أعجَميَّةً احتاجوا إليها صاغوها على نَماذِجِ ألفاظِهم وبَنَوها على أحَدِ أبنَيتِهم وجَعلوها على أحَدِ أوزانِهم.
وبينَ أوزانِ العَرَبيَّةِ وأوزانِ الطَّبيعةِ صِلةٌ وُثقى كما أشَرْنا سابِقًا؛ فالأجسامُ في الطَّبيعةِ على كثرَتِها تَرجِعُ إلى عناصِرَ بَسيطةٍ مَحدودةِ العَدَدِ تَتَشابَهُ وتَختَلفُ بحَسَبِ تَشابُهِ تَركيبِ مادَّتِها واختِلافِه. وكَذلك اللُّغةُ العَربيَّةُ تَرجِعُ كَلِماتُها التي لا تَكادُ تُحصى إلى عناصِرَ مَحدودةٍ ثابِتةٍ هيَ الحُروفُ. وفي الطَّبيعةِ تَشابُهٌ ونَمَطيَّةٌ وتَكَرُّرٌ؛ فللشَّجَرةِ -مهما كان نَوعُها- أوراقٌ وأغصانٌ، جِذعٌ وثَمَرٌ. وفي اللُّغةِ أيضًا تَشابُهٌ بَينَ أبنيةِ الفاعِلين والمَفعولِينَ والمَكانِ والزَّمانِ. ولكُلِّ فردٍ من أفرادِ الجِنسِ الواحِدِ في الطَّبيعةِ ذاتيَّتُه مع مُشابَهتِه لسائِرِ أفرادِ الجِنسِ. وكَذلك للَّفْظِ ذاتيَّتُه مع مُشابَهتِه لسائِرِ الألفاظِ المُشتَرَكةِ معه في الأصلِ أوِ البِناءِ والصِّيغةِ. وفي الطَّبيعةِ تَسَلسُلٌ وتَوارُثٌ يُقابِلُه تَسَلسُلٌ وتَوارُثٌ في اللُّغةِ. وفي الطَّبيعةِ مُحافَظةٌ وتَجديدٌ، وكَذلك في اللُّغةِ مُحافَظةٌ وتَجديدٌ أيضًا [321] يُنظر: ((المعجم المفصل في تصريف الأفعال العربية)) لعيون السود (ص: 190). .

انظر أيضا: