موسوعة اللغة العربية

تمهيدٌ: المَجازُ


اعتادَ النُّحاةُ واللُّغَويُّونَ على التَّفرِقةِ بَينَ الحَقيقةِ والمَجازِ بأنَّ الحَقيقةَ: استِعمالُ اللَّفظِ فيما وُضِعَ له، والمَجازُ ضِدُّ ذلك.
وقد أكثَرَ العَربُ منِ استِعمالِ المَجازِ، كما قال الثَّعلَبيُّ نَقلًا عنِ الجاحِظِ: (للعَرَبِ إقدامٌ على الكَلامِ ثِقةً بفَهمِ المُخاطَبِ من أصحابِهم عنهم، كما جَوَّزوا قَولَه: أكَله الأسودُ، وإنَّما يَذهَبونَ إلى النَّهشِ واللَّذعِ والعَضِّ. وأكَلَ المالَ، وإنَّما يَذهبونَ إلى الإفناءِ، إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء: 10] ، ولَعَلَّهم شَرِبوا بتِلكَ الأموالِ الأنبِذةَ ولَبِسوا الحُلَلَ ورَكِبوا الهماليجَ، ولم يُنفِقوا منها دِرهمًا في سبيلِ الأكلِ! وجَوَّزوا أيضًا أن يَقولوا: ذُقتُ لِما ليس يُطعَمُ، ومنه قَولُه تَعالى: لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء: 56] ) [309] ((فقه اللغة وسر العربية)) لأبي منصور الثعالبي (ص: 255). .
قال ابنُ جِنِّي: (الحَقيقةُ: ما أُقِرَّ في الاستِعمالِ على أصلِ وَضْعِه في اللُّغةِ، والمَجازُ: ما كان بضِدِّ ذلك. وإنَّما يَقَعُ المَجازُ ويُعْدَلُ إليه عنِ الحَقيقةِ لمَعانٍ ثَلاثةٍ، وهيَ: الاتِّساعُ، والتَّوكيدُ، والتَّشبيهُ، فإنْ عُدِمَ هذه الأوصافُ كانتِ الحَقيقةُ البَتَّةَ.
فمن ذلك قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الفَرَسِ: ((هو بَحرٌ)) [310] أخرجه البخاري (2627)، ومسلم (2307) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه؛ بلفظ: ((... وإنْ وجدناه لَبَحْرًا ...)). ، فالمَعاني الثَّلاثةُ مَوجودةٌ فيه. أمَّا الاتِّساعُ فلأنَّه زادَ في أسماءِ الفَرَسِ -التي هيَ: فرَسٌ وطَرفٌ وجَوادُ ونَحوها- البَحرَ، حتى إنَّه إنِ احتِيجَ إليه في شِعرٍ أو سَجعٍ أوِ اتِّساعٍ، استُعمِلَ استِعمالَ بَقيَّةِ تلك الأسماءِ، لَكِن لا يُفضي إلى ذلك إلَّا بقَرينةٍ تُسقِطُ الشُّبهةَ... وأمَّا التَّشبيهُ فلأنَّ جَرْيَه يَجري في الكَثرةِ مَجرى مائِه، أمَّا التَّوكيدُ فلأنَّه شَبَّه العَرَضَ بالجَوهرِ، وهو أثبَتُ في النُّفوسِ منه، والشُّبَهُ في العَرَضِ مُنتَفيةٌ عنه؛ ألا تَرى أنَّ منَ النَّاسِ من دَفعَ الأعراضَ وليس أحَدٌ دَفعَ الجَواهرَ؟!) [311] يُنظر: ((الخصائص)) لابن جني (2/ 444). .
قال السُّيوطيُّ نَقلًا عنِ ابنِ جِنِّي: (ومنَ المَجازِ في اللُّغةِ أبوابُ الحَذفِ والزِّياداتِ، والتَّقديمُ والتَّأخيرُ، والحَمْلُ على المَعنى، والتَّحريفُ، نَحوُ: وَاسْأَلِ الْقَريّةَ [يوسف: 82] ، ووَجهُ الاتِّساعِ فيه أنَّه استَعمَلَ لَفظَ السُّؤالِ مع ما لا يَصِحُّ في الحَقيقةِ سُؤالُه، والتَّشبيهُ أنَّها شُبِّهَت بمَن يَصِحُّ سُؤالُه لَمَّا كان بها، والتَّوكيدُ أنَّه في ظاهرِ اللَّفظِ أحالَ بالسُّؤالِ على من ليس من عادَتِه الإجابةُ، فكَأنَّهم ضَمِنوا لأبيهم أنَّه إن سألَ الجَماداتِ والجِمالَ أنبَأَتْه بصِحَّةِ قَولِهم. وهذا تَناهٍ في تَصحيحِ الخَبَرِ!) [312] يُنظر: ((الخصائص)) لابن جني (2/ 448، 449)، ((المزهر في علوم اللغة وأنواعها)) للسيوطي (1/ 283). .

انظر أيضا: