موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ التَّاسِعُ: الدَّلالةُ الذَّاتيَّةُ والدَّلالةُ المُكتَسَبةُ


نَقصِدُ بالدَّلالةِ الذَّاتيَّةِ: المَعنى الذي تَحمِلُه الوَحدةُ المُعجَميَّةُ في ذاتِها حينَما تَرِدُ مُفرَدةً.
والدَّلالةُ المُكتَسَبةُ: هيَ مَعنًى زائِدٌ على المَعنى الأساسيِّ يُدرَكُ من خِلال سياقِ الجُملةِ [159] يُنظر: ((علم الدلالة أصوله ومباحثه في التراث العربي)) لمنقور عبد الجليل (ص: 64). .
لقد ذَهبَ جُملةٌ من عُلَمائِنا القُدامى إلى وُجودِ مُناسَبةٍ طَبيعيَّةٍ بَينَ اللَّفظِ ومَدلولِه؛ فكان منهمُ الخَليلُ بن أحمَدَ الفَراهيديُّ، وتابَعَه الجاحِظُ، وابنُ جِنِّي، وابنُ فارِس، والثَّعالبيُّ، وغَيرُهم يُنظر: ((البيان والتبيين)) للجاحظ (1/ 39)، ((الخصائص)) لابن جني (1/ 65)، ((الصاحبي في فقه اللغة)) لابن فارس (ص: 193)، ((فقه اللغة وسر العربية)) للثعالبي (ص: 171)..
إنَّ أفضَلَ طَريقةٍ لمَعرِفةِ الفَرقِ بَينَ القيمةِ الذَّاتيَّةِ والقيمةِ المُكتَسَبةِ للَفظٍ ما، هيَ تَقَصِّي الخُطُواتِ المَنسيَّةِ التي مَرَّ بها اللَّفظُ حتى تَداولَتْه الألسِنةُ، وهذه الخُطواتُ المَنسيَّةُ -على صُعوبةِ الجَزمِ بنَوعِ المَراحِلِ التي مَرَّت بها؛ طُولًا وقِصَرًا، واتِّساعًا وضيقًا، وتَصريحًا ورَمزًا- لا تُلقي على اللَّفظِ منَ الأضواءِ ما يَكفي لتَحديدِ اللَّحظةِ التي وُلدَ فيها، ولا لتَعيينِ المَدلولِ الذَّاتيِّ الذي يُناسِبُه بَعدَ أن تَمَّ ميلادُه، ولا لتِبْيانِ القَرائِنِ التي حمَلَتِ النَّاطِقينَ به على نَقلِه من مَفهومٍ إلى آخَرَ، أو على تَوليدِ مَعنًى جَديدٍ من مَعناه الأصليِّ القَديمِ.
وذلك يَعني أنَّ لكُلِّ لَفظٍ نَشأةً وميلادًا، وأنَّ في كُلِّ لَفظٍ اشتِقاقًا وتَوليدًا، وأنَّ المُناسَبةَ الذَّاتيَّةَ لا تُلتَمَسُ إلَّا في اللَّفظِ عِندَ نَشأتِه الأُولى، وأنَّ هذه المُناسَبةَ فيما جَدَّده الاستِعمالُ من مَدلولاتِ ذاك اللَّفظِ إنَّما تَحتَمِلُ حَملًا على المَعنى الأصليِّ الأقدَمِ، ولا يَخفى حينَئِذٍ على الباحِثِ اللُّغَويِّ أنَّ المُناسَبةَ الأخيرةَ لم تَنشَأْ مع اللَّفظِ ولم تَحضُرْ ميلادَه، بَل اكتَسَبَت إيحاءَها ودَلالَتَها من كثرةِ الاستِعمالِ [161] يُنظر: ((دراسات في فقه اللغة)) لصبحي الصالح (ص: 169). .
ومِن أوضَحِ الأمثِلةِ على هذه الظَّاهرةِ اللُّغَويَّةِ العَجيبةِ ما ذَكره ابنُ جِنِّي منِ ازدِحامِ الدَّالِ، والتَّاءِ، والطَّاءِ، والرَّاءِ، واللَّامِ، والنُّونِ؛ إذا مازَجَتْهنَّ الفاءُ على التَّقديمِ والتَّأخيرِ، فأكثَرُ أحوالِها ومَجموعُ مَعانيها أنَّها للوَهْنِ والضَّعْفِ ونَحوِهما [162] يُنظر: ((الخصائص)) لابن جني (2/168). !
يَقولُ صبحي الصَّالح: (لَكِنَّا وقَعْنا من مَعانيها على الطَّبيعيِّ والمُتَكَلَّفِ، ولا تَجِدُ الصِّلةَ بَينَ اللَّفظِ ومَدلولِه إلَّا "مُكتَسَبةً" في كُلِّ ما وصَمْناه بالتَّكَلُّفِ، ولتَجِدَنَّها ذاتيَّةً لا مَحالةَ في واحِدٍ من تلك المَعاني الطَّبيعيَّةِ، وهو الذي يُمكِنُ عَدُّه أصلَ الاشتِقاقِ في تَقاليبِ هذه المادَّةِ وصُوَرِها التي جَرى بها الاستِعمالُ) [163] ((دراسات في فقه اللغة)) لصبحي الصالح (ص: 170). .

انظر أيضا: