موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ الأوَّلُ: ظاهِرةُ الإعرابِ في اللُّغةِ العَرَبيَّةِ


لقد ورِثَ العَرَبُ لُغَتهم مُعْرَبةً، ومُراعاةُ الإعرابِ في الكَلامِ هو الفارِقُ بَينَ المَعاني المُتَكافِئةِ في اللَّفظِ، وهذا نَقلٌ مُهمٌّ لابنِ فارِسٍ يُبَيِّنُ فيه الأثَرَ العَظيمَ لهذه الظَّاهرةِ بالأمثِلةِ، فيَقولُ: (فأمَّا الإعرابُ فبِه تَمَيَّزُ المَعاني، ويُوقَفُ على أغراضِ المُتَكَلِّمينَ؛ وذلك أنَّ قائِلًا لَو قال: "ما أحسَن زَيد" غَيرَ مُعْرَبٍ، أو "ضَرب عُمَر زَيْد" غَيرَ مُعْرَبٍ؛ لم يُوقَفْ على مُرادِه. فإنْ قال: "ما أحسَنَ زَيدًا!" أو "ما أحسَنُ زَيدٍ؟" أو "ما أحسَنَ زَيدٌ"؛ أبانَ بالإعرابِ عنِ المَعنى الذي أرادَه.
وللعَربِ في ذلك ما ليس لغَيرِها؛ فهم يُفَرِّقونَ بالحَرَكاتِ وغَيرِها بَينَ المَعاني؛ يَقولونَ: (مِفتَحٌ) للآلةِ التي يُفتَحُ بها، و(مَفتَحٍ) لمَوضِعِ الفَتحِ، فيَقولونَ مَثَلًا: (مِقَصٌّ) لآلةِ القَصِّ، و(مَقَصٌّ) للمَوضِعِ الذي يَكونُ فيه القَصُّ، و(مِحلَبٌ) للقَدَحِ يُحلَبُ فيه، و(مَحْلَبٌ) للمَكانِ يُحتَلَبُ فيه ذَواتُ اللَّبَنِ. ويَقولونَ: "امرَأةٌ طاهِرٌ" منَ الحَيضِ -بالتَّذكيرِ-؛ لأنَّ الرَّجُلَ لا يَشرَكُها في الحَيضِ، وطاهِرةٌ -بالتَّأنيثِ- منَ العُيوبِ؛ لأنَّ الرَّجُلَ يَشرَكُها في هذه الطَّهارةِ. وكَذلك امرَأةٌ "حامِلٌ" منَ الحَمْلِ، وامرَأةٌ "قاعِدةٌ" منَ القُعودِ.
ثُمَّ يَقولونَ: "هذا غُلامًا أحسَنُ منه رَجُلًا" يُريدونَ الحالَ في شَخصٍ واحِدٍ. ويَقولونَ: "هذا غُلامٌ أحسَنُ منه رَجُلٌ" فهما إذَن شَخصانِ.
وتَقولُ: "كم رَجُلًا رَأيتَ؟" في الاستِخبارِ، و"كم رَجُلٍ رَأيتَ!" في الخَبَرِ يُرادُ به التَّكثيرُ. و"هنَّ حَواجُّ بَيتِ اللهِ" إذا كُنَّ قد حَجَجْنَ. و"حَواجُّ بَيتَ اللهِ" إذا أرَدْنَ الحَجَّ. ومن ذلك "جاءَ الشِّتاءُ والحَطَبَ" لم يُرِدْ أنَّ الحَطبَ جاءَ، إنَّما أرادَ الحاجةُ إليه، فإنَّ أرادَ مَجيئَهما قال: "والحَطبُ". وهذا دَليلٌ يَدُلُّ على ما وراءَه) [130] يُنظر: ((الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها)) لابن فارس (ص: 143). .
وكَذلك فإنَّ أدِلَّةً كثيرةً لَتَقومُ على شُعورِ العَرَبِ بوِراثَتِهم لُغَتَهم مُعْرَبةً؛ فهذه أماراتُ الإعرابِ باطِّرادِها وسَلامَتِها واضِحةً فيما صَحَّ من أشعارِ الجاهليِّينَ، وذلك هو التَّصَرُّفُ الإعرابيُّ ما فتِئَ يُراعَى بدِقَّةٍ بالغةٍ حتى أوائِلِ القَرنِ الثَّالثِ الهجَريِّ، يَومَ كان الرَّواةُ والإخباريُّونَ يَختَلفونَ إلى الأعرابِ في الباديةِ؛ ليَأخُذوا من أفواههمِ اللُّغةَ، ويُعَوِّدوا ألسِنتَهمُ الفَصاحةَ والبَيانَ، أمَّا تَرتيلُهمُ القُرآنَ مُعْرَبًا فما نَحسَبُ عاقِلًا في الدُّنيا يَرتابُ فيه [131] يُنظر: ((دراسات في فقه اللغة)) لصبحي صالح (ص: 119). .

انظر أيضا: