موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ الرَّابِعُ: اللُّغةُ العَرَبيَّةُ الشَّماليَّةُ واللُّغةُ العَرَبيَّةُ الجَنوبيَّةُ


لقد قَسَّم المُستَشرِقون اللُّغاتِ التي ظهَرت في جزيرةِ العرَبِ إلى أصلَينِ؛ أصلٌ شَماليٌّ: اللُّغاتُ أو اللُّغةُ العربيَّةُ الشَّماليَّةُ، وأصلٌ جَنوبيٌّ: اللُّغاتُ أو اللُّغةُ العَرَبيَّةُ الجَنوبيَّةُ، وهذا التَّقسيمُ التَّقليديُّ للَهَجاتِ العَرَبِ إنَّما خطَر ببالِ المُستَشرِقين من النَّظَريَّةِ العَرَبيَّةِ الإسلاميَّةِ التي تُرجِعُ العَرَبَ إلى أصلَينِ: أصلٌ عَدنانيٌّ، وأصلٌ قَحطانيٌّ، ويرجِعُ سَبَبُ تَقسيمِهم لعُثورِهم على كتاباتٍ عَرَبيَّةٍ جَنوبيَّةٍ تختَلِفُ في لُغتِها وفي خَطِّها عن العَرَبيَّةِ القرآنيَّةِ، رسَخ في أذهانِهم هذا التَّقسيمُ، وقسَّموا لُغاتِ العَرَبِ إلى مجموعتَينِ؛ لسُهولةِ البحثِ حينَ النَّظَرِ في اللُّغاتِ واللَّهَجاتِ [100] يُنظر: ((المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام)) لجواد علي (16/ 307). .
وتُمثِّل العَرَبيَّةُ الجَنوبيَّةُ واللُّغاتُ السَّاميَّةُ في الحَبَشةِ الفَرْعَ الجَنوبيَّ للُّغاتِ السَّاميَّةِ، ويسمِّي العُلَماءُ العَرَبيّةَ الجَنوبيَّةَ: (اليَمنيَّة القَديمة)، أوِ (القَحْطانيَّة)، أو (السَّبَئيَّةَ)، وأرشَدَتْنا كثيرٌ منَ النُّقوشِ المُدَوَّنةِ إلى أُصولِ العَرَبيَّةِ الجَنوبيَّةِ، وإلى طَريقةِ رَسمِها، فعَرَفْنا منها أنَّ هذه اللُّغةَ تَختَلِفُ عنِ العَربيَّةِ الشَّماليَّةِ اختِلافًا جَوهريًّا في المُستَوياتِ النَّحْويَّةِ، والصَّوتيَّةِ، والدَّلالاتِ المَعنَويَّةِ.
وهناكَ صفاتٌ مُشتَرَكةٌ لا نَجِدُها خارِجَ لُغاتِ الفَرعِ الجَنوبيِّ لِلُّغاتِ السَّاميَّةِ، كظاهرة جَمعِ التَّكسيرِ؛ فإنَّ كُلَّ الجُموعِ في اللُّغاتِ السَّاميَّةِ الأُخرى يُمكِنُ أن تُوصَفَ بأنَّها منَ الجَمعِ السَّالمِ، أمَّا في المَجموعةِ الجَنوبيَّةِ فقَدِ طوَّرَت أبنيةً لجُموعِ التَّكسيرِ بعد أن استَفادَت منَ الجَمعِ السَّالمِ، وقَدِ اكتُشِفَتِ النُّقوشُ العَربيَّةُ الجَنوبيَّةُ في القَرنِ التَّاسِعَ عَشَرَ، وأمكَنَ بَعدَ حلِّ رُموزِ خَطِّها التَّعَرُّفُ على محتوى هذه النُّقوشِ، وتَحليلُ خَصائِصِها اللُّغَويَّةِ.
وتُعَدُّ أهمّ اللَّهَجاتِ العَربيَّةِ الجَنوبيَّةِ قَديمًا: القتبانيَّةُ، والحَضرَميَّةُ، والمعينيَّةُ، والهرَميَّةُ، والسَّبَئيَّةُ، وتُشكِّل مُعظَمُ النُّقوشِ المَوجودةِ اللُّغةَ السَّبئيَّةَ؛ لذا فإنَّ معرفتها يَفوقُ معرفة ما عداها.
ومنَ الصِّفاتِ الأصلية في اللَّهجةِ السَّبئيَّةِ: استعمال الهاءِ في تَكوينِ عَدَدٍ منَ الصِّيَغِ الصَّرفيَّةِ؛ فوزنُ التَّعديةِ في العَرَبيَّةِ الشَّماليَّةِ (أفْعَل) يُقابِلُه في السَّبَئيَّةِ وزنُ (هَفعل)؛ ولذا يُعَدُّ الفِعلُ (أَراقَ) بوزنِ (أَفْعَل) أصيلًا في العَرَبيَّةِ الشَّماليَّةِ، بَيْنَما يُعَدُّ الفِعلُ (هَرَاقَ) دَخيلًا منَ العَرَبيَّةِ الجَنوبيَّةِ إلى العَرَبيَّةِ الشَّماليَّةِ.
أمَّا بالنِّسبةِ لِلَّهجةِ المَعِينيَّةِ فيَبدو أنَّها لم تُعمَّرْ طَويلًا، بَيْنَما ظلَّت السَّبَئيَّةُ لعِدَّةِ قُرونٍ، والفارق بين بِنيَتَيْهما هو: استِخدامُ الهاءِ في السَّبئيَّةِ، والسِّينِ في المَعينيَّةِ.
أمَّا اللَّهَجاتُ الأُخرى وهيَ الحَضرَميَّةُ والهرَميَّةُ والقتبانيَّةُ، فيَبدو أنَّها أقلُّ انتشارًا؛ حيث سُجِّلَت آخِرُ النُّقوشِ القتبانيَّةِ في القَرنِ الأوَّلِ الميلاديِّ، في حينِ ظَلَّتِ الحَضرَميَّةُ إلى القَرنِ الثَّالثِ الميلاديِّ تَقريبًا.
وتُعدُّ اللَّهجةُ الهرَميَّةُ أحد أقَلِّ اللَّهَجاتِ العَربيَّةِ الجَنوبيَّةِ أهمِّيَّةً، ومن أهمِّ خَصائِصِها استعمال حَرفِ الجَرِّ (من) على غِرارِ استِخدامِه في العَرَبيَّةِ الشَّماليَّةِ، وهيَ بذلك خالَفَتْ باقيَ اللَّهَجاتِ العَربيَّةِ الجَنوبيَّةِ؛ لأنَّها تَستَعمل كلمةَ (بن) بَدَلًا من هذا الحَرفِ، فليست كُلُّ النُّقوشِ المَكتوبةِ في منطَقةِ هرَم كُتِبَت بالهرَميَّةِ، بَل وُجِدَ فيها أيضًا ما كُتِبَ بالمعينيَّةِ والسَّبَئيَّةِ [101] يُنظر: ((فقه اللغة)) لعلي عبد الواحد وافي (ص: 70)، ((دراسات في فقه اللغة)) لصبحي صالح (ص: 52، 53)، ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 183-186). .

انظر أيضا: