موسوعة اللغة العربية

المَطلَبُ الأوَّلُ: العربيَّةُ الباقيةُ


يُقصَدُ بالعربيَّةِ الباقيةِ؛ العَرَبيَّةَ الفُصحى الَّتي تتحدث بها اليَومَ، وهي بمنزلة اللُّغةِ المُشتَرَكةِ الَّتي شَمِلَت نَواحيَ شِبهِ الجَزيرةِ العَربيَّةِ كلِّها، واتَّخَذَها الشُّعراءُ والخُطَباءُ للتَّعبيرِ، سواءٌ أكانوا مِن قُرَيشٍ، أم مِن تَميمٍ، أم مِن غَيرِها مِنَ القَبائِل العَربيَّةِ [85] يُنظر: ((بحوث ومقالات في اللغة)) لرمضان عبد التواب (ص: 263)، ((دراسات في فقه اللغة)) لصبحي صالح (ص: 59). .
لقدْ وُلِدَت ونَمَت قبْلَ الإسلامِ، فكانت فَريدةً مُنتقاةً، ويَجدُرُ بها أنْ تَكونَ وَسيلةَ التَّعبيرِ عِندَ العَربِ خاصَّتِهم لا عامَّتِهم، فقَوَّاها نُزولُ القُرآنِ الكَريمِ بلِسانٍ عَرَبيٍّ مُبينٍ [86] يُنظر: ((اللهجات العربية)) لإبراهيم أنيس (ص:41)، ((دراسات في فقه اللغة)) صبحي صالح (ص: 59). .
يَقولُ إبراهيم أنِيس: (أقدَمُ ما نَستَطيعُ تَصَوُّرَه في شَأنِ شِبهِ الجَزيرةِ العَربيَّةِ هو أنْ نَتَخَيَّلها وقَدِ انتَظَمَتها لَهَجاتٌ مَحلِّيَّةٌ كثيرةٌ، انعَزلَ بَعضُها عن بَعضٍ، واستَقَلَّ كُلٌّ منها بصِفاتٍ خاصَّةٍ، ثُمَّ كانت تلك الظُّروفُ الَّتي هيَّأت لِبِيئةٍ مُعَيَّنةٍ في شِبهِ الجَزيرةِ العَربيَّةِ فُرصةَ ظُهورٍ لهجَتِها، ثُمَّ ازدِهارِها والتَّغَلُّبِ على اللَّهَجاتِ الأُخرى، وتِلكَ البيئةُ هيَ بيئةٌ مكَّةَ وما حَوْلها مِن مُعظَمِ مَناطِقِ الحِجازِ) [87] يُنظر: ((مستقبل اللغة العربية)) لأحمد بن محمد الضبيب (ص: 9). .
وتَجدُرُ الإشارةُ إلى عَوامِلَ ساعَدَت على أنْ تَحظَى مكَّةُ بمَنزلةٍ عاليةٍ، حيث قَبيلةُ قُرَيشٍ الَّتي كانت لُغَتُها تَتَبَوَّأُ المَنزلةَ الأُولى بيْنَ سائرِ اللَّهَجاتِ، وهذه العَوامِلُ تَتمثَّلُ في:
1- العامِلِ الدِّينيِّ: إذ تَشمَلُ مكَّةُ البَيتَ الحَرامَ الَّذي كانتِ تُبجِّله العَرَبُ وتَحَجُّ إليه في الجاهليَّةِ.
2- العامِلِ الاقتِصاديِّ: تُعَدُّ مكَّة مَركزًا تِجاريًّا مُهِمًّا، وكانتِ قُرَيشٌ تَترأَّس التِّجارةَ، ورِحْلاتُها في الشِّتاءِ والصَّيفِ مَعروفةً أشارَ القُرآنُ الكَريمُ إليها.
3- العامِلِ السِّياسيِّ: كانتِ القَبائِلُ تُقِرُّ لمَكَّةَ بالرِّياسةِ؛ لأنَّها احتَوَت الدِّينَ أوَّلًا، ومَلَكَتِ المالَ ثانيًا.
تَتَمِيَّزُ الفُصحى المُشتَرَكةُ بسِماتٍ مُحدَّدةٍ، ومِن سِماتِها [88] يُنظر: ((تاريخ الفكر الديني الجاهلي)) محمد إبراهيم الفيومي (ص: 450)، ((المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي)) لرمضان عبد التواب (ص: 167-168). :
1- أنَّها لُغةٌ مُشتَرَكةٌ تُمثِّلُ مُستَوًى أرْقى مِن لَهَجاتِ الخِطابِ، وتفُوق مُستَوى العامَّةِ، ولم يُجِدْها إلَّا خاصَّةُ العَرَبِ.
2- أنَّها لم تَكُنْ ذاتَ طابَعٍ مَحَلِّيٍّ، فلا تعودُ في ظَواهرِها وعَناصِرِها إلى أُناسٍ بأعيُنِهم أو إلى بيئةٍ مُحدَّدةٍ.
ونَخلُصُ مِن هذا إلى أنَّ العَرَبيَّةَ المُشتَرَكةَ ليْست لُغةَ القُرشيِّين وَحْدَهم، أو تَميمٍ، أو غَيرِها مِن سائرِ القَبائِل، بَل مَزيجٌ مِن هذا كُلِّه.
3- أنَّ الإعرابَ في العَربيَّةِ لم يَكُنْ شَكلًا مِن أشكالِ السَّليقةِ لجميعِ العَرَبِ، ولكنَّه كان لَوْنَ سَليقةٍ لقِلَّةٍ مُنتقاةٍ مِن خاصَّةِ العَربِ، ومَعنى السَّليقةِ: أنْ تَتَحدَّثَ لُغةً مِن اللُّغاتِ دونَ أنْ تَشعُرَ بما لَدَيها مِن سِماتٍ.
والدَّليلُ على أنَّ العَرَبيَّةَ المُشتَرَكةَ ليْست لُغةَ سَلِيقةٍ للعَرَبِ كُلِّهم: هو انتشارُ اللَّحنِ مِن العَرَبِ قُبَيلَ الإسلامِ وبَعدَه، وفي تلك العُصورِ التي سُمِّيَت بعُصورِ الاحتِجاجِ [89] يُنظر: ((فقه اللغة)) لحاتم صالح الضامن (ص: 42 - 44). .
وأشارُ الدُّكتور إبراهيم أنيس إلى أنَّ لُغةَ التَّخاطُبِ اليَوميِّ كانت نَفسُها لُغةَ الأدَبِ، باستثناء بعض الاختِلافاتِ الأدائيَّةِ اليسيرة، وقال عن ابنِ جِنِّي: (وفَوقَ هذا لم يُبَيِّنْ لَنا ابنُ جِنِّي ما عنى بكَلامِ الفَصيحِ، ألُغةُ تَخاطُبِه بَينَ أبناءِ قَبيلَتِه تلك التي تَخضَعُ لصِفاتٍ خاصَّةٍ مُمَيَّزةٍ عن غَيرِها منَ القَبائِل، أم كان يَعني لُغةَ الأدَبِ والشِّعرِ، وهيَ اللُّغةُ التي اكتَسَبَت مُعظَمَ صِفاتِها من لهجةِ قُرَيشٍ؟) [90] ((في اللهجات العربية)) لإبراهيم أنيس (ص: 164). إذنْ، يَرى إبراهيم أنيس أنَّ ابنَ جِنِّي أغفَلَ هذا الأمرَ. وقد قَرَّرَ ابنُ جِنِّي نَفسه أنَّ الاختِلافاتِ اللَّهجيَّةَ بَينَ قَبائِل العَرب تكاد لا تُذكر، فيَقولُ: (هذا القَدْرُ منَ الخِلافِ على قِلَّتِه ونزارَتِه مُحتَقَرٌ غَيرُ مُحتَفَلٍ به ولا مَعِيج عليه، وإنَّما هو في شَيءٍ منَ الفُروعِ يَسيرٍ، فأمَّا الأُصولُ وما عليه العامَّةُ والجُمهورُ فلا خِلافَ فيه) [91] ((الخصائص)) لابن جني (1/ 245). .
فالفُصحى لم تَكُن لُغةَ الأدَبِ والطَّبَقةِ الرَّاقيةِ فحسب، ولَو اقتصرَت على طَبَقةٍ بعينها لَما نقل الرُّواةُ عن الأعرابِ الحُفاةِ؛ لأنَّ الأعرابَ لا يُعَدُّون ضمن الطَّبَقةِ الرَّاقيةِ، ولم يجد أحَدٌ منَ اللُّغَويِّينَ والنَّحويِّين فرقًا بَينَ هذَينِ المُستَويَينِ، ولم يصل إلينا أنَّ أحَدًا منهم تعسَّرَ عليه فهمُ القُرآنِ الكَريمِ الذي نَزَلَ للنَّاسِ كافَّة [92] يُنظر: ((اللغة العربية المشتركة واللهجات العامية)) لمحمد الحباس (ص: 276). .

انظر أيضا: