موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ الثَّاني: التَّجديدُ في فِقْهِ اللُّغةِ


لا شَيءَ يُضاهي اللُّغةَ العَرَبيَّةَ في كونِها تُظهِرُ خصائِصَ المجتَمَعِ في الحياةِ وتُؤَكِّدُها؛ فاللُّغةُ مَرِنةٌ بطبيعتِها تُعبِّرُ عن حاجاتِ البَشَرِ بالألفاظِ الدَّقيقةِ التي تمتَلِكُها، حتى تُظهِرَ النَّسَبَ الذي إليه ينتَسِبون، والرَّمزَ الذي به يُعرَفون.
وهناك مَنهَجٌ يَصلُحُ في دراسةِ فِقهِ اللُّغةِ، وهو المنهَجُ الاستِقرائيُّ الوَصفيُّ، ويرى أنَّ التجديدَ في اللُّغةِ ظاهِرةٌ إنسانيَّةٌ اجتماعيَّةٌ، بل يُعتَبَرُ دليلًا لنشاطِها، ومحَلًّا لتجارِبِها ما بَينَ الظَّواهِرِ الاجتِماعيَّةِ بأكمَلِها، ويَسمَحُ لنا هذا الطَّريقُ الاجتماعيُّ الذي لم تَزَلِ اللُّغةُ الإنسانيَّةُ تَسلُكُه، وهذا من أجلِ توسيعِ المجالِ أمامَ العُرفِ، وتحديدِ المعاييرِ المناسِبةِ لاستعمالِ اللُّغةِ ومقاييسِها، وهنا نطرَحُ سُؤالًا: أليسَت الألفاظُ العامَّةُ التي نستَخدِمُها تُشبِهُ الرُّموزَ الرِّياضيَّةَ؟ ألم تكُنِ الرُّموزُ الرِّياضيَّةُ والاقتصاديَّةُ وسيلةً من أجلِ الرُّقِيِّ والتَّقَدُّمِ والرِّفعةِ في المَيدانِ الفِكريِّ، وكذلك الاقتصاديُّ [69] يُنظر: ((دراسات في فقه اللغة)) لصبحي الصالح (ص32)، ((فقه اللغة)) لمحمد المبارك (ص: 15). .
لقد حاول العُلَماءُ معرفةَ تلك الرُّموزِ وبَحَثوا جاهِدينَ ولكِنْ دونَ جَدوى، فظَلُّوا يجهلون هذه الرُّموزَ حتَّى أواخِرِ القَرنِ السَّابِعَ عَشَرَ، فحاولوا تأويلَ نشأةِ اللُّغاتِ، حتَّى وصلوا إلى أنَّ كثيرينَ منهم قالوا بجَزمٍ: إنَّ العِبْريَّةَ هي لُغةُ الوَحيِ، وقد تشَعَّبَت منها جميعُ اللُّغاتِ كُلِّها، وآباءُ الكنيسةِ كانوا يستَنِدون إلى الكتابِ المُقَدَّسِ من أجلِ دَعمِ وتأييدِ هذا الرَّأيِ، ووجَدوه في سِفْرِ التَّكوينِ: (واللهُ خَلَق منَ الطِّينِ جَميعَ حَيَواناتِ الحُقولِ وجَميعَ طُيورِ السَّماءِ، ثُمَّ عَرضَها على آدَمِ؛ ليَرى كيفَ يُسَمِّيها...) [70] سفر التكوين، الإصحاح الثاني، الآية 19 وما يليها. . والعَرَبُ أيضًا لجَؤوا إلى آيةٍ قرآنيةٍ، وذلك حينَ أيَّد كثيرون ووافَقوا على أنَّ اللُّغةَ توقيفٌ لا اصطِلاحٌ، ومن أجلِ ذلك اضطُرَّ ابنُ جِنِّي إلى أن يُؤَوِّلَ تلك الآيةَ القرآنيةَ على غيرِ ما فَهِمَها وعَرَفها أشياخُه؛ فغالبيَّةُ أهلِ النَّظَرِ قد نُسِب إليهم القَولُ الذي فيه أنَّ أصلَ اللُّغةِ تواضُعٌ واصطِلاحٌ لا كونُه وَحيًا، ولا كونُه توقيفًا [71] يُنظر: ((الخصائص)) لابن جني (1/ 41)، ((دراسات في فقه اللغة)) لصبحي الصالح (ص: 33). .
وإذا رفَضْنا رأيَ ابنِ جِنِّي الذي ينُصُّ على وَضعِ اللُّغةِ، ووَضْعُها كان على دُفعاتٍ مُتتاليةٍ [72] يُنظر: ((الخصائص)) لابن جني (2/30). ، يُبنى على ذلك أنَّها بدأت وظَهرت بصُورتِها السَّمعيَّةِ الصَّوتيَّةِ، فأصلُ اللُّغاتِ كُلِّها كان أصواتًا مسموعةً [73] يُنظر: ((الخصائص)) لابن جني (1/ 44-54). ، وباقي أئمَّةِ وعُلَماءِ اللُّغةِ العَرَبيَّةِ أجمعوا على أنَّ اللُّغةَ العَرَبيَّةَ مَحضُ إلهامٍ وتوقيفٍ، وليس وضعًا، كما يزعُمُ ابنُ جِنِّي، إلى أنْ وَصَل بهم الأمرُ إلى أنَّهم طَبَّقوا على تصوُّرِهم نشأةَ وقيامَ اللُّغةِ الإنسانيَّةِ باستثناءِ فَرقٍ صغيرٍ لا يُعبَأُ به: وهو أنَّ لُغةَ الوَحيِ كانت لغةَ القُرآنِ الكريمِ، وذلك في منظورِ الإسلامِ، ولكِنْ عِندَ آباءِ الكنيسةِ، فكانت لُغةَ الكتابِ المُقَدَّسِ.
ومن أغرَبِ صُوَرِ التَّلاقي على مستوى الفِكرِ أنَّ العَرَبَ حينَ تَغلْغَلوا في لُغتِهم، لم يَتركْهم الغربيُّون ولكِنْ نافَسوهم بتخصيصِ هذه المناسَبةِ بالعِبْريَّةِ؛ ففي مطلَعِ القرنِ السَّابِعَ عَشَرَ هبَّ كيشارُ يُبرِزُ التَّناسُقَ الصَّوتيَّ في اللُّغاتِ التي تتفَرَّعُ من اللُّغةِ العِبْريَّةِ، وقد تصدَّى ليبنِز لهذا التَّفكيرِ الخياليِّ الذي كان يقومُ في بدايتِه بافتراضِ رأيٍ لا مُستنَدَ له، وما لَبِث أن قُبِل سريعًا، ثمَّ بَعدَ ذلك فُرِض وجرى إجبارُه على النَّاسِ، والعديدُ من الباحثينَ أنكروا القولَ بأصلِ اللُّغاتِ، وأرادوا أن يُرَسِّخوا في عقولِ النَّاسِ نتيجةً حتميَّةً تُظهِرُ الصُّورةَ التي بدأ الإنسانُ يتكَلَّمُ من خِلالِها [74] يُنظر: ((دراسات في فقه اللغة)) لصبحي الصالح (ص: 34). .
وتجديدُ البحثِ في فِقهِ اللُّغةِ أصبح واجِبًا علينا، وأيضًا يجِبُ علينا أن نتابِعَ التطَوُّرَ الذي يطرَأُ على اللُّغةِ، وكيفيَّةَ حُدوثِه وأسبابِه، ومن ذلك أيضًا يجِبُ علينا أن نقومَ بقَدرِ الإمكانِ بجَمعِ المعلوماتِ؛ لكي نخرُجَ بالقوانينِ الثَّابتةِ والسُّنَنِ الواضِحةِ في عِلمِ اللُّغةِ عُمومًا [75] يُنظر: ((دراسات في فقه اللغة)) لصبحي الصالح (ص: 35)، ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 3). .
وتؤكِّدُ الطَّريقةُ الوصفيَّةُ أنهَّ لم يُعثَرْ على قبيلةٍ لا لُغةَ لها، وأنَّ من يُسَمَّون بالمتوحِّشين ليسوا بدائيِّينَ، ولكِنَّهم يتكلَّمون بألفاظٍ ولُغاتٍ بها تعقيدٌ كثيرٌ، وعلى الجانبِ الآخَرِ تكونُ على درجةٍ من البساطةِ والسُّهولةِ.
فلا نستطيعُ أن نستبعِدَ أنَّ هذه اللُّغاتِ تمتَلِكُ خَصائِصَ بسيطةً أو تعقيدًا، ولا نغُضُّ النَّظَرَ عن فَهمِ ودراسةِ عِلمِ فِقهِ اللُّغةِ، ونميِّزُها عن أخواتِها من اللُّغاتِ السَّاميَّةِ الأُخرى [76] يُنظر: ((دراسات في فقه اللغة)) لصبحي الصالح (ص: 35). .
ومن العجيبِ أنَّ عُلَماءَنا القُدامى قد تجاهلوا هذه القضيَّةَ، على الرَّغمِ من إشارةِ الكثيرِ منهم في مواطِنَ مختَلِفةٍ في بعضِ اللُّغاتِ السَّاميَّةِ، بل بالرَّغمِ من ذلك خالَط بعضُهم اليُونانَ والسُّريانَ، وحقَّقوا إفادةً كُبرى من نَقلِ السُّريانِ لفلسفةِ الشَّعبِ اليُونانيِّ إلى اللُّغةِ العَرَبيَّةِ، ويمكِنُ أن تكونَ العصبيَّةُ العَمياءُ لها دَخلٌ في هذا؛ لأنَّهم لا يُريدون أن يقارِنوا لغةَ القُرآنِ الكريمِ بأيَّةِ لُغةٍ أُخرى؛ ويَزعُمون أنَّ لُغةَ العَرَبِ هي من أعرَقِ وأعظَمِ اللُّغاتِ على الإطلاقِ، فمِن أين لهم أن يستطيعوا معرفةَ حقيقةِ خصائِصِ اللُّغةِ العَرَبيَّةِ، وأنَّها من أعظَمِ اللُّغاتِ السَّامِيَّةِ حِفاظًا على مُقَوِّماتِ اللِّسانِ السَّاميِّ [77] يُنظر: ((دراسات في فقه اللغة)) لصبحي الصالح (ص: 36). ؟
ولكي نَعرِفَ السَّبَبَ والسِّرَّ وراءَ إطلاقِ السَّامِيَّةِ على لُغتِنا يجِبُ علينا أن نُلِمَّ بفصائِلِ جميعِ اللُّغاتِ، ثمَّ بَعدَ ذلك ننتَقِلَ إلى مرحلةِ عَقدِ مُقارنةٍ بَيْنَ بعضِ اللَّهَجاتِ العَرَبيَّةِ القديمةِ بَعضِها ببعضٍ؛ من أجْلِ أن نَصِلَ منها إلى لُغَتِنا الفُصحى ونَعيَ خصائِصَ غيرَ موجودةٍ في لغةٍ أُخرى وتتمَيَّزُ لها لُغَتُنا [78] يُنظر: ((دراسات في فقه اللغة)) لصبحي الصالح (ص: 37). .

انظر أيضا: