موسوعة اللغة العربية

المَبْحَثُ الثَّاني: الأخْذُ غيرُ الظَّاهِرِ


وهُو ما لم يكنْ فيه المَعْنى مَنْقولًا تَمامًا، وإنَّما حدَث فيه تَغييرٌ بنَوعِ تَشابُهٍ أو بنَقْلِ المَعْنى مِن فنٍّ إلى آخَرَ، أو بقلْبِ المَعْنى، أو بالزِّيادةِ عليه، ونحْوِ ذلك.
وظهَر مِن هذا التَّعريفِ أنَّ له أنْواعًا تَخْتلفُ باخْتِلافِ التَّغيُّرِ الحادِثِ في المَعْنى الأوَّلِ، وهِي خَمْسةُ أنْواعٍ:
1- التَّشابُهُ: وهُو أنْ يَتَشابهَ مَعْنى الأوَّلِ ومَعْنى الثَّاني.
فمنه قولُ الطِّرِّماحِ: الطويل
لقد زادَني حُبًّا لنَفْسيَ أنَّني
بَغيضٌ إلى كلِّ امْرئٍ غيرِ طائِلِ
معَ قولِ المُتَنبِّي: الكامل
وإذا أتَتْك مَذمَّتي مِن ناقِصٍ
فهِيَ الشَّهادةُ لي بأنِّي كامِلُ
فمَعْنى قولِ الطِّرِّماحِ أنَّ كونَه بَغيضًا عندَ كلِّ امْرئٍ غيرِ فاضلٍ يَجعلُه يُحبُّ نفْسَه أكْثرَ، ويُدرِكُ قِيمةَ نفْسِه. وهُو قَريبٌ مِن مَعْنى المُتَنبِّي، وهُو أنَّ ذمَّ النَّاقِصِ له شَهادةٌ له بالكَمالِ؛ فالْتَقيا في إثْباتِ الضِّدِّ بالضِّدِّ، وهُو أنَّ ذمَّ النَّاقِصِ أو كَراهِيتَه مُوجِبٌ لحُبِّ النَّفسِ ودَليلٌ على الكَمالِ.
ومنه أيضًا قولُ أبي العَلاءِ المَعرِّيِّ: الطويل
وما كُلفَةُ البدْرِ المُنيرِ قَديمةً
ولكنَّها في وجْهِه أثَرُ اللَّطْمِ
معَ قولِ القَيسرانيِّ: الطويل
وأهْوى الَّذي أهْوى له البدْرُ ساجِدًا
ألستَ تَرى في وجْهِه أثرَ التُّربِ
فقد جعَل أبو العَلاءِ الكُلفَةَ (ما يَظهَرُ على وجْهِه مِن كُدرَةٍ) الحاصِلةَ أمامَ البدْرِ مِن أثَرِ اللَّطْمِ على فِراقِ الحَبيبِ، في حينِ جعَلَها القَيْسرانيُّ مِن أثَرِ سُجودِه لذلك المَحْبوبِ، فاقْتَربا في جعْلِ تلك الكُلفَةِ حاصِلةً بسَببِ المَمْدوحِ، لكنَّ الأوَّلَ جعَلها مِن أثَرِ اللَّطْمِ، والآخَرَ مِن أثَرِ السُّجودِ.
ومنه قولُ جَريرٍ: الوافر
فلا يَمنعْكَ مِن أَرَبٍ لِحاهم
سواءٌ ذُو العِمامةِ والخِمارِ
مع قولِ المُتَنبِّي: الوافر
فمَنْ في كفِّه منْهم قَناةٌ
كمَنْ في كفِّه منْهم خِضابُ
اجْتَمع البيتانِ في ذمِّ القومِ؛ جعَل جَريرٌ صاحِبَ العِمامةِ كصاحِبةِ الخِمارِ؛ الرَّجلُ فيهم كالمَرأةِ، في حينِ جعَل المُتَنبِّي مَنْ في كفِّه رُمْحٌ يَرْمي به كمَنْ في كفِّه خِضابٌ؛ يُريدُ أيضًا أنْ يقولَ: إنَّه ليس فيهم رِجالٌ، فكلُّهم نِساءٌ، سَواءٌ منْهم المُحارِبُ والمُتزيِّنةُ.
2- النَّقْلُ: وهُو أنْ يُنقَلَ مَعْنى الأوَّلِ إلى غيرِ مَحلِّه.
فمنه قولُ البُحْتُريِّ: الكامل
سُلِبُوا وأشْرقتِ الدِّماءُ عليهمُ
مُحْمَرَّةً فكأنَّهم لم يُسْلَبوا
يَعْني أنَّهم سُلِبوا ثِيابَهم فصاروا عُراةً، غيرَ أنَّ الدِّماءَ لمَّا مَلأتْ أجْسادَهم وصَبغَتْها حُمْرةً، صاروا كأنَّهم يَرتدونَ ثِيابًا حَمْراءَ، وكأنَّهم ما سُلِبوا شيئًا مِنَ الثِّيابِ.
أخَذ هذا المَعْنى أبو الطَّيِّبِ المُتَنبِّي، ونقَلَه إلى السَّيفِ فقالَ: الكامل
يَبِسَ النَّجيعُ عليه وهْوَ مُجرَّدٌ
مِن غِمدِه فكأنَّما هو مُغمَدُ
أيْ: قد يَبِستِ الدِّماءُ على السَّيفِ وهُو مُجرَّدٌ، حتَّى أذْهبتْ عنه بَريقَه وكَسَتْه باللَّونِ الأحْمَرِ، فكأنَّه ما زال في غِمْدِه لم يُسَلَّ.
3- أنْ يكونَ المَعْنى الثَّاني أشْمَلَ مِنَ الأوَّلِ:
كقولِ جَريرٍ: الوافر
إذا غَضِبتْ عليكَ بَنو تَميمٍ
وجَدتَ النَّاسَ كلَّهمُ غِضابَا
معَ قولِ أبي نُواسٍ يَسْتعطِفُ الرَّشيدَ لمَّا سجَنَ الفضْلَ بنَ خالِدٍ البَرمَكيَّ: السريع
ليسَ على اللهِ بمُسْتنكَرٍ
أنْ يَجمَعَ العالَمَ في واحِدِ
حيثُ جعَل جَريرٌ غضَبَ بَني تَميمٍ كغضَبِ جَميعِ النَّاسِ، في حينِ توسَّعَ أبو نُواسٍ وجعَل العالَمَ كلَّه يَجْتمِعُ في شخْصٍ واحِدٍ؛ غضَبُه كغضَبِ النَّاسِ جَميعًا، وكَرمُه ككَرمِهم معًا، وفرَحُه فَرَحُهم.
4- القَلْبُ: وهُو أنْ يكونَ مَعْنى الثَّاني نَقيضَ مَعْنى الأوَّلِ:
كقولِ أبي الشِّيصِ: الكامل
أجِدُ المَلامةَ في هواكِ لَذيذةً
حُبًّا لذكْرِك فلْيَلُمني اللُّوَّمُ
معَ قولِ المُتَنبِّي: الكامل
أأُحبُّه وأُحِبُّ فيه مَلامةً
إنَّ المَلامةَ فيه مِن أعْدائِه
فأبو الشِّيصِ قد جعَل مَلامةَ العُذَّالِ في حبِّه لمَحْبوبِه أمرًا لَذيذًا؛ حيثُ يُذَكِّرونه به في مَلامَتِهم. في حينِ عكَس المُتنبِّي ذلك، فقال: كيف أحِبُّه وأحِبُّ المَلامةَ فيه، والمَلامةُ إنَّما هي مِن أعْدائِه.
ومنه أيضًا قولُ الأحْوَصِ: البسيط
فبانَ منِّي شَبابي بعدَ لَذَّتِهِ
كأنَّما كانَ ضَيفًا نازِلًا رحَلا
حيثُ جعَل مِنَ الشَّبابِ ضَيفًا نازِلًا وقد أنِسَ بوُجودِه واسْتهلَّ بمُكثِه معَه، ثمَّ رحَل وترَكَه.
فقَلَبه دِعْبِلٌ وقالَ: الوافر
أحِبُّ الشَّيبَ لمَّا قيلَ ضيْفٌ
لحُبِّي للضُّيوفِ النَّازلِينا
5- أنْ يُؤخَذَ بعضُ المَعْنى، ويُضافَ إليه زِيادةٌ تُحسِّنُه:
كقولِ الأفْوَهِ الأوْديِّ: الرمل
وتَرى الطَّيرَ على آثارِنا
رَأيَ عينٍ ثِقةً أنْ ستُمارُ
أيْ: تَرى الطُّيورَ تَقْتفي آثارَنا ثِقةً منْها أنَّها ستَشبَعُ وتَنالُ غِذاءَها، يُريدُ: كثْرةَ القَتْلى وما يَسْتتبِعُ ذلك مِن نهْشِ الطُّيورِ لِجُثثِهم.
معَ قولِ أبي تَمَّامٍ: الطويل
وقد ظُلِّلَتْ عُقبانُ أعْلامِه ضُحًى
بعُقبانِ طيْرٍ في الدِّماءِ نَواهلِ
أقامتْ معَ الرَّاياتِ حتَّى كأنَّها
مِنَ الجيْشِ إلَّا أنَّها لم تُقاتِلِ
فقد ترَك أبو تَمَّامٍ ممَّا قاله الأفْوَهُ ما أفادَه قولُه: "رأيَ عَينٍ"؛ فإنَّ ذلك يدُلُّ على تَوقُّعِها للفَريسةِ، وتَيقُّنِها بالظَّفَرِ.
أمَّا أبو تَمَّامٍ فلم يَحُمْ حولَ هذا، ولكنَّه زادَ عليه قولَه: "إلَّا أنَّها لم تُقاتِلِ"، وقولَه: "في الدِّماءِ نَواهِلِ"، ثمَّ بإقامَتِها معَ الرَّاياتِ حتَّى كأنَّها مِنَ الجيْشِ، ومِن أجْلِ هذا حسُنَ أنْ يقولَ: "إلَّا أنَّها لم تُقاتِلِ"، وهذه الزِّيادةُ أكْسَبتْ كَلامَه حُسْنًا وطَلاوةً، وإنْ كان قد ترَك بعضَ ما ألمَّ به الأفْوَهُ.
وهذه الصُّوَرُ مِنَ الأخْذِ غيرِ الظَّاهِرِ مَقْبولةٌ كلُّها، بل منْها ما تَزيدُ فيه البَلاغَةُ وتَدِقُّ فيها الصَّنعةُ ويَخْفى فيه مَكانُ الأخْذِ، حتَّى يَخرُجَ بحُسْنِ التَّصرُّفِ وجَودةِ الأخْذِ مِن رِبقَةِ الأخْذِ والاتِّباعِ [501] ينظر: ((الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم)) لعصام الدين الحنفي (2/ 502)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حبنكة (2/ 555). .

انظر أيضا: