موسوعة اللغة العربية

تَمْهيدٌ: السَّرِقاتُ الشِّعريَّةُ


اتَّفقَ الشُّعراءُ والأدَباءُ على اسْتِخدامِ بعضِ الصُّورِ؛ كتَشْبيهِ المَرأةِ الجَميلةِ بالغَزالِ، وتَشْبيهِ وجْهِها بالقمَرِ، ورِيقِها بالخمْرِ، واعْتِدالِ قَوامِها بالرُّمحِ، وتَشْبيهِ الجَوادِ بالبحْرِ، والشُّجاعِ بالأسدِ، والبَليدِ بالحِمارِ، ونحْوِ ذلك ممَّا فاضت به ألْسِنةُ الأدَباءِ.
وكذلك شاع لديهم بعضٌ مِنَ المَعاني في الدَّلالةِ على الغَرَضِ؛ كأنْ يقولَ في الرِّثاءِ: إنَّ هذه المُصيبةَ أوَّلُ مُصِيبةٍ نُصابُ بها، أو: هذا الذَّاهبُ لم يكنْ واحِدًا وإنَّما كان قَبيلةً، وقولُهم في المدْحِ: يُعْطي مِن غيرِ مَسْألةٍ، ويَقْضي بالعدْلِ ولو على نفْسِه، ولو طلَبَ أحدُهم منه رُوحَه لبذَلها له.
فهذه الأمورُ ونَظائِرُها لا عَلاقةَ لها بالسَّرقاتِ والانْتِحالِ والاقْتِباسِ؛ لأنَّها أمورٌ اشْتَركتْ فيها العُقولُ وتَقرَّرتْ بحكْمِ العاداتِ واسْتَوى فيها الفَصيحُ والأعْجَمُ.
فمِن هذا قولُ العَتَّابيِّ: الكامل
ردَّتْ صَنائِعُه إليه حَياتَه
فكأنَّهُ مِن نَشْرِها مَنْشورُ
ثم قولُ أبي تَمَّامٍ بعدَه: البسيط
ألَمْ تَمُتْ يا شَقيقَ الجُودِ مِن زمَنٍ
فقال لي: لم يَمُتْ مَنْ لم يَمُتْ كَرَمُهْ
فالمَعْنى في بيتِ العَتَّابيِّ هو أنَّ الإنْسانَ إذا مات وقد حَسُنتْ أفْعالُه في النَّاسِ، فإنَّ الثَّناءَ الحسَنَ وذكْرَ النَّاسِ له يَجْعلُه كأنَّه لم يَمُتْ. وهُو نفْسُ المَعْنى الَّذي أرادَه أبو تَمَّامٍ، لكنَّ هذه المَعاني ممَّا شاعَ في النَّاسِ اسْتِعمالُها؛ لذلك لا يُوصَفُ أبو تَمَّامٍ فيها بأنَّه سارِقٌ أو آخِذٌ.
وإنَّما تَتعلَّقُ السَّرقاتُ بما لو أعْمَل شاعِرٌ ذِهْنَه، فبادَرَ إلى مَعْنًى لم يَسْبقْه إليه سابِقٌ، ثمَّ أتى بعدَه مَنْ يُحاوِلُ أخْذَه، أو تَطْويعَه، أو قلْبَه، أو نحْوَ ذلك، بما يَعلَمُ به النَّاقِدُ اعْتِمادَه على هذا السَّابِقِ فيما ذهَب إليه.
فمِن ذلك أنَّ أبا تَمَّامٍ لمَّا أنشَدَ في مَديحِ أحْمَدَ ابنِ الخَليفةِ المُعْتصِمِ: الكامل
إقْدامُ عَمْرٍو، في سَماحَةِ حاتِمٍ
في حِلْمِ أحْنفَ، في ذَكاءِ إِياسِ
قال الحَكيمُ الكِنديُّ: وأيُّ فخْرٍ في تَشْبيهِ ابنِ أميرِ المُؤمنينَ بأجْلافِ العَربِ؟! فقالَ أبو تَمَّامٍ بعدَ أنْ أعْمَل ذِهْنَه:
لا تُنْكِروا ضَرْبي له مَن دُونَه
مَثَلًا شَرودًا في النَّدى والباسِ
فاللهُ قد ضرَب الأقلَّ لنُورِه
مَثَلًا مِنَ المِشْكاةِ والنِّبْراسِ
فهذا المَعْنى الَّذي ساقَه، وهُو جَوازُ ضرْبِ المَثلِ بالأقلِّ لاشْتِهارِه وتَصوُّرِه، والاسْتِدلالُ عليه بأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد ضرَب مَثَلًا لنُورِه بالمِشْكاةِ والمِصْباحِ، بغَضِّ النَّظرِ عن أنَّ اللهَ إنَّما ضرَب هذا مثَلًا لنُورِه الَّذي يُلقيه في قلْبِ المُؤمنِ مِنَ الهِدايَةِ واليَقينِ، أو لنُورِ القُرآنِ لا لنُورِه هو [498] ينظر: ((تفسير الطبري)) (17/ 299)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/ 43). ؛ فهذا المَعْنى قد ابْتَكرَه ولم يَتقدَّمْه أحدٌ به، فمن أتَى بعدَه بهذا المَعْنى فهو سارِقٌ.
ويُشْتَرطُ في قَضايا السَّرقاتِ الشِّعريَّةِ أن يكونَ اللَّاحِقُ على علْمٍ بالبيتِ الَّذي سبَقه، وإلَّا فلو أنشَدَ رجُلٌ بيتًا مِنَ الشِّعرِ، ثمَّ تَفاجأ بأنَّ هذا المَعْنى سبَقه إليه غيرُه، أو أنَّه بلفْظِه قد قالَه شاعِرٌ آخَرُ، لم يكنْ هذا مِنَ السَّرقةِ في شيءٍ، وإنَّما يُسمَّى بالتَّوارُدِ أو المُوارَدَةِ.
فمِن ذلك أنَّ ابنَ مَيَّادةَ لمَّا أنشَد بيتَه لابنِ الأعْرابيِّ: الطويل
مُفيدٌ ومِتْلافٌ إذا ما أتَيْتَه
تَهلَّلَ واهْتزَّ اهْتِزازَ المُهنَّدِ
قال له ابنُ الأعْرابيِّ: أين يُذهبُ بكَ؟! هذا للحُطيئَةِ، فقال ابنُ مَيَّادةَ: الآنَ عَلِمتُ أنِّي شاعِرٌ؛ إذْ وافَقْتُه في قولِه ولم أسْمَعْه.
يُشيرُ ابنُ الأعْرابيِّ في هذا إلى بيتِ الحُطيئَةِ: الطويل
كَسُوبٌ ومِتْلافٌ إذا ما سألتَه
تَهلَّلَ واهْتزَّ اهْتِزازَ المُهنَّدِ
فابنُ مَيَّادةَ قد أتى ببيتِ الحُطَيئةِ بمَعانيهِ وألْفاظِه، اللَّهمَّ إلَّا كَلمتَينِ فقط في البيتِ، ومعَ ذلك لم يكنْ قد سمِع البيتَ ولا رُوِي له؛ ولِهذا لم يقلْ له ابنُ الأعْرابيِّ: سرَقتَه.
ومنه أيضًا أنَّ النَّابغةَ الذُّبيانيَّ أنشَد: الكامل
لو أنَّها عرَضَتْ لأشْمطَ راهِبٍ
عبدَ الإلهَ صَرُورةٍ مُتعبِّدِ
لرَنا لبَهْجتِها وحُسْنِ حَديثِها
ولَخالَه رُشْدًا وإنْ لم يَرشُدِ
معَ قولِ رَبيعَةَ بنِ مُقرَمٍ الضَّبِّيِّ:
لو أنَّها عرَضتْ لأشْمَطَ راهِبٍ
عبدَ الإلهَ صَرورةٍ مُتبتِّلِ
لرَنا لبَهْجتِها وحسْنِ حَديثِها
ولَهَمَّ مِن ناموسِه بتَنزُّلِ
مِن غيرِ أنْ يكونَ سمِع بيتَ النَّابِغةِ.
ولِهذا لا يَنْبغي التَّجاسُرُ باتِّهامِ أحدِ الشُّعراءِ أوِ الأدَباءِ بالسَّرقةِ إلَّا إذا ثَبَت أنَّه قد اطَّلعَ على ما اتُّهِمَ بأخْذِه [499] ينظر: ((الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم)) لعصام الدين الحنفي (1/ 121)، ((بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة)) لعبد المتعال الصعيدي (4/ 669). .

انظر أيضا: