موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الثَّاني: أقْسامُ حُسْنِ التَّعليلِ


يَنْقسِمُ حُسْنُ التَّعليلِ إلى أرْبعةِ أقْسامٍ بحسَبِ الوصْفِ نفْسِه؛ فقد يكونُ الوصْفُ ثابِتًا أو غيرَ ثابِتٍ، والثَّابِتُ إمَّا أنْ يكونَ له علَّةٌ ظاهِرةٌ أو لا، وغيرُ الثَّابِتِ إمَّا مُمكِنٌ وإمَّا غيرُ مُمكِنٍ:
1- الوصْفُ ثابِتٌ غيرُ ظاهِرِ العلَّةِ:
كقولِ أبي تَمَّامٍ: الكامل
لا تُنْكِري عُطْلَ الكَريمِ عنِ الغِنى
فالسَّيلُ حرْبٌ للمَكانِ العالي
جعَل الشَّاعرُ علَّةَ فقْرِ الكَريمِ هي ذاتَها علَّةَ امْتِناعِ وُصولِ الماءِ للأماكِنِ العالِيةِ؛ فعُلوُّ قدْرِ الكَريمِ واحْتِياجُ النَّاسِ له هو المانِعُ مِن ذلك.
ومنه أيضًا قولُ أبي هِلالٍ العَسْكريِّ: الكامل
زعَم البَنفْسَجُ أنَّه كعِذارِه
حُسْنًا فسَلُّوا مِن قَفاه لِسانَهُ
علَّل الشَّاعرُ هنا خُروجَ وَرقِ البَنفْسَج ِمِنَ الخلْفِ بأنَّه افْترى على المَحْبوبةِ وزعَم أنَّه جَميلٌ مِثلُ عِذارِها (خَدِّها)، فكانت عُقوبةُ ذلك أنْ أخْرَجوا لِسانَه مِن قَفاه. وخُروجُ وَرقِ البَنفسَجِ مِنَ الخلْفِ ممَّا لا علَّةَ له ظاهِرةٌ.
2- الوصْفُ ثابِتٌ وله علَّةٌ ظاهِرةٌ:
كقولِ المُتَنبِّي: الرمل
ما به قتْلُ أعاديه ولكِنْ
يتَّقي إخْلافَ ما تَرجو الذِّئابُ
قتْلُ المُلوكِ لأعدائِها أمرٌ شائِعٌ مُسْتفيضٌ، جرَتِ العادةُ أنَّ المُلوكَ تَتخلَّصُ مِن أعدائِها وكلِّ مَنْ يُنغِّصُ عليها حُكْمَها مِنَ الدَّاخِلِ والخارِجِ؛ لتَسلَمَ مِن شُرورِهم وأذاهم، وليَصفوَ لهم حكْمُ البِلادِ، لكنَّ المُتنبِّيَ يَنفي تلك العلَّةَ عَنِ المَمْدوحِ ويَجْعلُ له علَّةً لَطيفةً أخرى، وهي أنَّه إنَّما يَقتُلُهم ليُحقِّقَ للذِّئابِ ما ترجو؛ فهِي تَطمَعُ أوْقاتَ الحُروبِ في أنْ تَنالَ مِن دِماءِ الأعْداءِ ولُحومِها؛ فلِهذا لا يُخَيِّبُ المَمْدوحُ أملَها.
ومنه قولُ ابنِ المُعتزِّ: المنسرح
قالوا اشْتكَتْ عَينُه فقُلتُ لهم
مِن كثْرةِ القتْلِ نالَها الوَصَبُ
حُمْرتُها مِن دِماءِ مَن قتَلتْ
والدمُ في النَّصلِ شاهِدٌ عجَبُ
فشَكوى العَينِ له علَّةٌ ظاهِرةٌ؛ إمَّا أنْ يكونَ أصابَها قذًى أو مرَضٌ أو نحْوُ ذلك، لكنَّ الشَّاعرَ جعَل لها علَّةً أخرى، وهِي أنَّها مِن كثْرةِ مَن قتَلَتْهم المَحْبوبةُ بعَينِها وأودَتْ بهم بسِحْرِ جُفونِها قد نالَها الوَصَبُ، وهذه الحُمرَةُ في عَينِها إنَّما هي مِن دِماءِ شُهدائِها.
3- وصفٌ غيرُ ثابِتٍ ولكنَّه مُمكِنٌ:
كقولِ مُسلِمِ بنِ الوَليدِ: البسيط
يا واشِيًا حَسُنَتْ فينا إساءَتُه
نجَّى حِذارُك إنْساني مِنَ الغَرَقِ
فإنَّ اسْتِحسانَ إساءَةِ الواشِي مُمْكِنٌ عادةً وإنْ كان غيرَ حاصِلٍ؛ ولِذلك لمَّا خالَفَ الشَّاعرُ عُمومَ النَّاسِ في اسْتِحسانِ الوِشايةِ أتْبَعها بذكْرِ العلَّةِ على ذلك، وهو أنَّ حِذارَه مِنَ الوِشايَةِ منَعه مِنَ البُكاءِ، فسلِمَ إنْسانُ عينِه مِنَ الغَرقِ في الدُّموعِ؛ فلذلك اسْتُحسنَ.
ومنه قولُ الآخَرِ: الكامل
ولقد همَمْتُ بقتْلِها مِن حبِّها
كيْما تكونَ خَصيمَتي في المَحْشَرِ
حتَّى يَطولَ على الصِّراطِ وُقوفُنا
فتَلَذَّ عَيني مِن لَذيذِ المَنظَرِ
فقتْلُ المُحبِّ لحَبيبتِه أمرٌ غيرُ ثابِتٍ ولا مُعْتادٍ، لكنَّه مُمكِنٌ؛ ولِذا علَّل ذلك بأنَّه إنَّما أراد قتْلَها لتُخاصِمَه أمامَ اللهِ جلَّ شأنُه، فتَقفَ أمامَه ويَستمْتِعَ بالنَّظرِ إليها!
4- وصْفٌ غيرُ ثابِتٍ ولا مُمكِنٍ:
كقولِ الشَّاعِرِ: البسيط
لو لم تكنْ نيَّةُ الجَوزاءِ خِدمتَه
لَمَا رأيْتَ عليها عقْدَ مُنْتطِقِ
فنيَّةُ الجَوزاءِ خِدمةَ المَمدوحِ وصْفٌ غيرُ ثابِتٍ ولا مُمكِنٍ، لكنَّه أراد إثْباتَه وجعَل انْتِطاقَ الجَوزاءِ علَّةً له [440] ينظر: ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) لبهاء الدين السبكي (2/ 266)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 340). .

انظر أيضا: