موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الثَّاني: أقْسامُ التَّوريةِ


التَّوريةُ أرْبعةُ أنْواعٍ:
1- التَّوريةُ المُجرَّدةُ:
وهِي الَّتي لم يُذكَرْ فيها لازِمٌ مِن لوازِمِ المُوَرَّى به "المَعْنى القَريب" ولا المُورَّى عنه "المَعْنى البَعيد".
فمنْها قولُ أبي بكْرٍ رضِي اللهُ عنه وقتَ الهِجْرةِ لمَّا سُئل عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((هذا الرَّجلُ يَهديني السَّبيلَ )) [396] أخرجه البخاري (3911) مطولاً من حديث أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عنه. ؛ فالمَعْنى القَريبُ الَّذي يُريدُهم أنْ يَفهَموه: أنَّه دَليلٌ يَسيرُ به في الصَّحراءِ، ويَهديه الطَّريقَ، أمَّا المَعْنى البَعيدُ الَّذي ورَّى عنه أنَّه يَهديه السَّبيلَ إلى اللهِ تعالى، وإنَّما وَرَّى أبو بكْرٍ رضِي اللهُ عنه لئلَّا يَكذِبَ، ولأنَّه لو أخبَرهم الحَقيقةَ لهَمُّوا بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
ولم يَذكُرْ أبو بكْرٍ رضِي اللهُ عنه شيئًا مِن لَوازِمِ المَعْنى القَريبِ ولا المَعْنى البَعيدِ، بل ترَك الاحْتِمالَين مَفْتوحَينِ هكذا بلا تَرْجيحٍ لأحدِ المَعْنَيينِ.
ومنه قولُ القاضي عِياضٍ: البسيط
كأنَّ نَيْسانَ أهْدى مِن مَلابِسِه
لشَهرِ كانونَ أنْواعًا مِنَ الحُلَلِ
أوِ الغَزالةَ مِن طُولِ المَدى خَرُفت
فما تُفَرِّقُ بينَ الجَدْيِ والحَمَلِ
فالمَعاني القَريبةُ هي أنَّ الغَزالةَ والجَديَ والحَمَلَ أسْماءٌ للحَيواناتِ المَعْروفةِ، والمَعْنى البَعيدُ المُرادُ هي تلك الأبْراجُ الفَلَكيَّةُ المُسماةُ بتلك الأسْماءِ. والشَّاعِرُ لم يذكُرْ شيئًا مِن مُواصفاتِ تلك الحَيواناتِ؛ فيكونَ ذاكِرًا للَوازِمِ المُوَرَّى به، ولا ذكَر شيئًا مِن صِفاتِ تلك الأبْراجِ؛ فيكونَ مِن ذكْرِ لَوازِمِ المُوَرَّى عنه.
2- التَّوريةُ المُرشَّحةُ:
وهِي التَّوريةُ الَّتي يُذكَرُ فيها لازِمُ المُوَرَّى به، وهو المَعْنى القَريبُ. وسُمِّيتْ مُرشَّحةً لأنَّها تَقوى بذكْرِ لازِمِ المُورَّى به. ولها حالانِ:
أ- أنْ يَقعَ اللَّازِمُ قبلَ لفْظِ التَّوريةِ، كقولِ الشَّاعِرِ:
يا سائِلي عن حِرْفتي في الوَرَى
وصَنْعتي فيهم وإفْلاسي
ما حالُ مَنْ دِرهَمُ إنْفاقِه
يَأخذُه مِن أعْيُنِ النَّاسِ
فقولُه: مِن أعْيُنِ النَّاسِ؛ يَحْتملُ الحسَدَ وضِيقَ العَينِ، وهُو المَعْنى القَريبُ المُورَّى به، وقد تقدَّم لازِمُه على جِهةِ التَّرشيحِ، وهُو دِرهَمُ الإنْفاقِ؛ لأنَّه مِن لَوازِمِ الحسَدِ، ويَحْتمِلُ العُيونَ الَّتي يُلاطِفُها بالكُحْلِ، وهذا هو المَعْنى المُورَّى عنه.
ومنه قولُ الشَّاعِرِ:
وإذا رَجوْتَ المُسْتحيلَ فإنَّما
تَبني الرَّجاءَ على شَفيرٍ هارِ
فقولُه: وإذا رَجوتَ المُسْتحيلَ، يَحْتملُ أنْ يكونَ مِن رَجوتُ الأمرَ، وهُو المُورَّى به، فلمَّا ذكَر الشَّفيرَ كان في الرَّجاءِ توريةٌ بِرَجَا البِئرِ (جانِبِها).
ب- أنْ يَقعَ ذكْرُ اللَّازِمِ بعدَ لفْظِ التَّوريةِ، كقولِ الشَّاعِرِ: السريع
مُذ هِمْتُ مِن وجْدِيَ في خالِها
ولم أصِلْ منه إلى اللَّثَمِ
قالت قِفوا واسْتَمعوا ما جرَى
خاليَ قد همَّ به عمِّي
فالخالُ هنا له مَعنيانِ؛ المَعْنى القَريبُ، وهُو أخو الأمِّ، والمَعْنى البَعيدُ المُرادُ، وهُو الشَّامةُ الَّتي تكونُ في الخدِّ، وهِي عَلامةُ حُسْنٍ. لكنْ أتى الشَّاعرُ بلازِمٍ مِن لَوازِمِ المَعْنى القَريبِ بعدَ لفْظِ التَّوريةِ، وهُو قولُه: "عَمِّي".
3- التَّوريةُ المُبيَّنةُ:
وهِي التَّوريةُ الَّتي ورَد فيها ذكْرُ لازِمِ المُورَّى عنه، وهُو المَعْنى البَعيدُ، وسُمِّيت بذلك لأنَّها تُبَيِّنه وتَجعَلُه أقَلَّ خَفاءً. وهِي على نَوعَين أيضًا:
أ- أنْ يَأتيَ اللَّازِمُ قبلَ لفْظِ التَّوريةِ: كقولِ البُحْتُريِّ: الكامل
ووراءَ تَسدِيةِ الوِشاحِ مَلِيَّةٌ
بالحُسْنِ تَملُحُ في القُلوبِ وتَعذُبُ
فالتَّوريةُ في كَلمةِ "تَملُحُ"؛ فإنَّها تَحتملُ المُلوحةَ الَّتي هي ضِدُّ العُذوبةِ، وهُو المَعْنى القَريبُ غيرُ المُرادِ، وتَحْتملُ المَلاحةَ وهِي الحُسْنُ والجَمالُ، وهِي المُرادةُ، واللَّازِمُ قبلَها: "مَليَّةٌ بالحُسْنِ".
ومنها قولُ الشَّاعِرِ: السريع
قالوا أمَا في جِلَّقٍ نُزهةٌ
تُنْسيكَ مَنْ أنت به مُغرَى
يا عاذِلي دُونَك مِن لَحظِهِ
سهمًا ومِن عارِضِهِ سطْرَا
ففي قولِه: "سهْم"، و"سَطْر" تَوريةٌ؛ فالمَعْنى القَريبُ غيرُ المُرادِ هو سهْمُ اللَّحظِ وسطْرُ العارِضِ، والمَعْنى البَعيدُ المُرادُ هو أن السَّهمَ والعارِضَ اسمانِ لمَوضِعَين مَشْهورَين مِن مُتنَزَّهاتِ دِمشقَ، و"جِلَّق" اسمٌ قَديمٌ لدِمشقَ.
ب- أن يُذكَرَ اللَّازِمُ بعد لفْظِ التَّوريةِ: كقولِ الشَّاعِرِ: الطويل
أرى ذَنَبَ السِّرحانِ في الأفقِ طالِعًا
فهل مُمْكنٌ أنَّ الغَزالةَ تَطلُعُ
ففي البيتِ تَوريتانِ، وكلاهُما مِنَ التَّوريةِ المَبيَّنةِ الَّتي ذُكِر اللَّازِمُ فيها بعدَ لفْظِها؛ فالأوَّلُ في قولِه: "ذَنَب السِّرحانِ"؛ فإنَّه يَحتمِلُ أنْ يكونَ ذَيْلَ الذِّئبِ، وهو المَعْنى القَريبُ غيرُ المُرادِ، وأنْ يُريدَ به أوَّلَ ضوْءِ النَّهارِ، وهو المَعْنى البَعيدُ المُرادُ، والقَرينةُ الَّتي دلَّت على إرادتِه قولُه: "في الأفُقِ طالِع"، وقد ذُكِرتْ بعدَ لفْظِ التَّوريةِ.
والتَّوريةُ الأخرى قولُه: "غَزالة"؛ فإنَّه يَحْتمِلُ أنْ يكونَ المُرادُ منها ذلك الحيوانَ المَشهورَ، وهُو المَعْنى القَريبُ غيرُ المُرادِ، والمَعْنى البَعيدُ المُرادُ هو الشَّمسُ، والقَرينةُ ذُكِرت بعدَها، وهِي قولُه: "تَطلُعُ".
4- التَّوريةُ المُهيَّأةُ:
وهي الَّتي لا تَقعُ فيها التَّوريةُ ولا تَتهيَّأ إلَّا باللَّفظِ الَّذي قبلَها أو باللَّفظِ الَّذي بعدَها، أو تكونُ التَّوريةُ في لفْظَين لولا كلٌّ منْهما لَما تَهيَّأتِ التَّوريةُ في الآخَرِ.
وهي ثَلاثةُ أنْواعٍ:
أ- التَّوريةُ المُهيَّأةُ باللَّفظِ قبلَها: كقولِ الشَّاعِرِ: الطويل
وسَيرُك فينا سِيرةٌ عُمَريَّةٌ
فروَّحتَ عن قلْبٍ وفرَّجتَ عن كرْبِ
وأظْهرتَ فينا مِن سَمِيِّك سُنَّةً
فأظْهَرْتَ ذاك الفَرْضَ مِن ذلك النَّدْبِ
فالتَّوريةُ هنا في ذِكْرِه الفرْضَ والنَّدبَ؛ فإنَّهما يَحْتملانِ الحُكمَينِ الشَّرعيَّينِ؛ فالفرْضُ ما يُثابُ على فعلِه ويُعاقَبُ على ترْكِه، والنَّدبُ ما يُثابُ على فعْلِه ولا يُعاقَبُ على ترْكِه. ويَحْتمِلُ أنْ يكونَ الفرْضُ بمَعْنى العَطاءِ، والنَّدبُ: الرَّجلُ السَّريعُ في قَضاءِ حَوائِجِ النَّاسِ، وهذا هو المَعْنى البَعيدُ المُرادُ، ولولا ذِكْرُ "سُنَّة" لَما كان هناك تَوريةٌ، ولَما ظنَّ السَّامِعُ أنَّه يُريدُ بالفرْضِ والنَّدبِ الأحْكامَ الشَّرعيَّةَ.
ب- التَّوريةُ المهيَّأةُ باللَّفظِ الَّذي بعدَها، كقولِ الشَّاعِرِ: الكامل
لولا التَّطيُّرُ بالخِلافِ وأنَّهم
قالوا مَريضٌ لا يَعودُ مَريضَا
لقَضيْتُ نَحْبي في جَنابِك خِدمةً
لِأكونَ مَنْدوبًا قضَى مَفْروضَا
فالتَّوريةُ في قولِه: "مَنْدوبًا"؛ فإنَّها تَحْتَمِلُ المَنْدوبَ الَّذي هو بمَعْنى المُستحَبِّ شَرعًا، مُقابَلةً للمَفْروضِ المَذْكورِ بعدَ ذلك، وهُو المَعْنى القَريبُ غيرُ المُرادِ، ويَحتمِلُ أنْ يكونَ المَنْدوبُ بمَعْنى الميِّتِ الَّذي يَندُبُه النَّاسُ ويَبكونَه، وهُو المَعْنى البَعيدُ المُرادُ، ولولا قولُه: "مَفْروضًا" بعدَ ذلك لَما كان هناك تَوريةٌ، ولا ظنَّ أحدٌ أنْ يكونَ معناه المُستحَبَّ.
ج- التَّوريةُ الَّتي تَقعُ بينَ لفْظَين، لولا كلُّ واحِدٍ منْهما لَما كان هناك في الآخَرِ تَوريةٌ. ومنْها قولُ عُمَرَ بنِ أبي رَبيعَةَ: الخفيف
أيُّها المُنْكِحُ الثُّرَيَّا سُهَيْلًا
عَمْرَكَ اللهَ كيف يَلتقيانِ؟
هي شاميَّةٌ إذا ما اسْتقلَّتْ
وسُهيلٌ إذا اسْتقلَّ يَماني
فمَوضِعُ التَّوريةِ هنا في الثُّريَّا وسُهيلٍ؛ فإنَّ المَعْنى القَريبَ الظَّاهِرَ النَّجمانِ المَعروفانِ بثُريَّا وسُهيلٍ، والمَعْنى البعيدَ المُرادَ هو أنَّ ثُريَّا هي مَعْشوقةُ عُمرَ بنِ أبي رَبيعَةَ، وهِي بنتُ عليِّ بنِ عبدِ اللهِ بنِ الحارِثِ بنِ أميَّةَ الأصْغرِ، وسُهيلٌ هو الرَّجلُ الَّذي زوَّجوه بها، ولولا ذكْرُ الثُّريَّا لَما تَنبَّه السَّامِعُ لسُهيلٍ وأنَّه ربَّما يُرادُ به النَّجمُ المَعْروفُ، وكذا الحالُ في سُهيلٍ، فلولا ذكْرُه لَما تَنبَّه النَّاسُ في ثُريَّا أنَّها ربَّما يُرادُ بها النَّجمُ المَعْروفُ، ولَمَا كان الأمرُ إلَّا تَصْريحًا لا يَحْتمِلُ إلا مَعنًى واحِدًا [397] ينظر: ((علم البديع)) لعبد العزيز عتيق (ص: 126). .

انظر أيضا: