موسوعة اللغة العربية

المَبْحَثُ الثَّاني: تَنْكيرُ المُسنَدِ إليه


الأصْلُ أنْ يأتيَ المُسنَدُ إليه مَعْرفةً كما سبَق، لكنَّه قد يَخرُجُ عن ذلك الأصْلِ، ويأتي نِكرَةً لغَرَضٍ بَلاغيٍّ، مِثلُ:
1- الإفْرادِ، تقولُ: مُؤمنٌ خيْرٌ مِن أُمَّةٍ، أيْ: مُؤمِنٌ واحِدٌ، ومنه قولُه تعالى: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى [القصص: 20] ، أيْ: رجُلٌ واحِدٌ.
2- النَّوعيَّةُ، كقَولِه تعالى: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة: 7] ، أيْ: نَوعٌ مِنَ الأغْطيةِ مِن غيرِ ما يَتعارفُه النَّاسُ، وهُو غِطاءُ التَّعامي عن آياتِ اللهِ.
3- التَعْظيمُ أوِ التَّحْقيرُ، كقولِ الشَّاعِرِ: الطويل
فَتًى لا يُبالي المُدلِجونَ بنُورِهِ
إلى بابِهِ ألَّا تُضيءَ الكَواكِبُ
لهُ حاجِبٌ في كلِّ أمرٍ يَشينُهُ
وليس لهُ عِن طالِبِ العُرْفِ حاجِبُ
فتَنْكيرُ "حاجِب" الأُولى يُفيدُ أنَّ له حاجِبًا قويًّا يَمْنعُه عن ارتِكابِ ما يَشينُه، وفي تَنْكيرِ "حاجِب" الأخرى عَكْسُ ذلك؛ فإنَّها تُفيدُ التَّحقيرَ، أيْ: لا يَثنيهِ عنِ الخيْرِ أيُّ حاجِبٍ وإنْ قلَّ أثَرُه.
ومنه قولُه تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة: 179] ؛ فكَلمةُ "حَياة" هنا جاءت نَكِرَةً؛ لتُفيدَ أنَّ الحِكمةَ مِن شَريعةِ القِصاصِ هي تَوْفيرُ سَبيلِ الحَياةِ السَّعيدةِ الآمِنةِ للجَميعِ؛ حيثُ يأمَنُ الإنْسانُ مِن أنْ يُراقَ دمُه بغيرِ وجْهِ حقٍّ؛ إذْ كلُّ مَنْ تُسوِّلُ له نفْسُه الاعْتداءَ على الآخَرين وسَفْكَ دِمائِهم إذا عَلِم أنَّه سوف يُعاقَبُ على هذا بالقتْلِ، فإنَّه يَرتدِعُ عن فِعلتِه تلك، وبهذا يأمَنُ المُجتَمعُ وتَسلَمُ حَياةُ النَّاسِ وتُصانُ دِماؤُهم.
4- التَّكْثيرُ، تقولُ: إنَّ له لَغَنمًا، أيْ: غنَمًا كَثيرةً، ومنه قولُ السَّحَرةِ لفِرعونَ: إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ [الأعراف: 113] ، أيْ: أجرًا كَبيرًا.
ومنه قولُه تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [فاطر: 4] ، جاءت هذه الآيةُ تَسليةً للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتَصْبيرًا له على تَكْذيبِ قومِه له، فإنَّه إنْ كذَّبه قومُه، فقد كذَّبتِ الرُسلَ أقوامُها مِن قبلِها، وجاء هنا بلفْظِ: "رُسُل" نَكرَةً لتُفيدَ التَّكْثيرَ، وهُو ما يُلائِمُ المَوقِفَ مِن تَثْبيتِ القلْبِ وتَطمينِه أنَّ نصْرَ اللهِ قَريبٌ.
5- التَّقْليلُ، كقَولِه تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: 72] ؛ فتَنْكيرُ الرِّضوانِ في الآيةِ يدُلُّ على التَّقْليلِ، أيْ: أفادَ التَّنْكيرُ أنَّ قدْرًا يَسيرًا مِن رِضوانِ اللهِ خيْرٌ مِن ذلك كلِّه؛ لأنَّ رضاه سَببُ كلِّ سَعادةٍ وفَلاحٍ.
ومنه قولُه تعالى: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [مريم: 45] ؛ فإنَّ تَنْكيرَ "عَذاب" قد أفادَ التَّقليلَ، أيْ: أخافُ أنْ يَحُلَّ عليك أقلُّ قدْرٍ مِنَ العَذابِ، وهُو الَّذي يُناسبُ سِياقَ الآيةِ وما قبلَها مِنَ التَّلطُّفِ مِن خليلِ الرَّحمنِ إبْراهيمَ عليه السَّلامُ معَ أبيه، وحرصِه البالِغِ على هِدايتِه؛ ولِهذا بدأ بنِداءِ المُتوسِّلِ المُستعطِفِ "يا أبتِ"، ولم يُصرِّحْ بلُحوقِ العَذابِ بأبيه، فلم يَقُلْ: يَنزِلُ بك العَذابُ، ولكنْ قال: "إنِّي أخافُ"، كما أنَّه اسْتَعملَ الفِعلَ "يمَسُّ" دُونَ "يُصيبُ"، والمَسُّ أقلُّ خطَرًا مِنَ الإصابَةِ، كما أنَّه ذكَر ربَّه باسمِ الرَّحمنِ، فكلُّ هذه الدَّلالاتِ تدُلُّ على أنَّه يُرادُ به التَّقْليلُ، وإنْ كان قد ذهَب البعضُ إلى أنَّ التَّنْكيرَ هنا للتَّعْظيمِ، أيْ: يَحُلَّ عليك عَذابٌ عَظيمٌ مِنَ اللهِ [241] ينظر: ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للخطيب القزويني (2/ 35)، ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) لبهاء الدين السبكي (1/ 202). .

انظر أيضا: