موسوعة اللغة العربية

المَبْحَثُ الثَّالثُ: تَقْديمُ مُتعلِّقاتِ العامِلِ عليه، أو على بعضِها


قد يتقدَّمُ أحدُ مُكمِّلاتِ الجُملةِ الاسْميَّةِ أو الفِعليَّةِ على أرْكانِها، فيتقدَّمُ المَعمولُ على العامِلِ، كتقدُّمِ المَفعولِ أوِ الحالِ أو التَّمييزِ على الفِعلِ، ونحْوِ ذلك، وكذلك قد تتقدَّمُ بعضُ المُتعلِّقاتِ على بعضٍ مُخالَفةً للتَّرتيبِ الأصْليِّ؛ فيتقدَّمُ المَفعولُ على الفاعِلِ، أوِ الجارُّ والمَجرورُ على المَفعولِ، إلى غيرِ ذلك، ولا يتقدَّمُ شيءٌ مِن هذا أو يتأخَّرُ إلَّا لسَببٍ فنِّيٍّ وغَرَضٍ بَلاغيٍّ.
أوَّلًا: تَقْديمُ مُتعلِّقاتِ العامِلِ عليه
مِن أسْبابِ تَقدُّمِ مُتعلِّقاتِ العامِلِ -الفِعلِ أو غيرِه- عليه:
1- ردُّ الخَطأ في التَّعْيينِ أو الاشْتِراكِ: تقولُ: "مُحمَّدًا كلَّمتُ" ردًّا على مَنْ ظنَّ أنَّك كلَّمتَ رجُلًا آخَرَ غيرَ مُحمَّدٍ، أو ظنَّ أنَّك كلَّمتَ اثنَين أو أكْثرَ، منهم مُحمَّدٌ.
2- التَّخْصيصُ: وهُو قصْرُ الفِعلِ على المتقدِّمِ، كقَولِه تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] ؛ فتَقديمُ المَفعولِ "إيَّاك" في الجُملتَين على الفِعلَينِ: "نَعبُدُ، نَستَعينُ" يُفيدُ تَخْصيصَه سُبحانَه بالفِعلَينِ، فلا يُعبَدُ سِواه، ولا يُستَعانُ بغيرِه.
ومثلُه أيضًا قولُه تعالى: أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى: 53] ؛ فتَقديمُ الجارِّ والمَجرورِ المُتعلِّقِ بالفِعلِ يُفيدُ أنَّ مَرجِعَ الأمورِ ومردَّها للهِ وحدَه.
ومنه قولُه تعالى: قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا [مريم: 8-9] ، فقال: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، بخِلافِ قولِه سُبحانَه: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27] ؛ فأخَّر الجارَّ والمَجرورَ؛ وذلك لأنَّ مَقامَ خرْقِ العادَةِ في سُورةِ (مَريمَ) اقْتَضى التَّقْديمَ، فقيل: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، يَعْني: كأنَّ العادَةَ تأبَى أنْ يَحصُلَ الولدُ بَيْنَ الشَّيخِ الكَبيرِ والمرأةِ العاقِرِ لِما جُرِّبَ وعُلِمَ بالاسْتِقراءِ؛ فقِيل: أنا القادِرُ وَحدي أنْ أخرِقَ العادةَ دُونَ غيرِي، وأمَّا هاهُنا فلا مَعْنَى للاخْتصاصِ؛ لأنَّ العادَةَ حاكِمةٌ قاطِعةٌ بأنَّ مَن أعاد صَنعةَ شيءٍ كان أسْهلَ عليه وأهْونَ مِن إنْشائِها، لكنَّ الدَّهْريَّ المَخذولَ يُنكِرُ فِعلَه ويقولُ: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] ؛ فجِيءَ بالجُملةِ المُفيدةِ لتَقَوِّي الحُكمِ على مَجْرى العُرْفِ والعادةِ، فلو قُدِّمتِ الصِّلةُ لتغيَّر المَعْنى [214] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/ 476)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/ 235). .
ومن تَقْديمِ اسمِ الزَّمانِ على الفِعلِ قولُك: صَباحًا خرجتُ، ومن تَقْديمِ الحالِ على الفِعلِ قولُك: نَشيطًا اسْتيقظتُ.
3- الاهْتِمامُ بشأنِ المُتقدِّمِ، كما في قولِه تعالى: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة: 87] ؛ فقدَّم الظَّرفَ (كلَّما) للاهْتمامِ؛ لأنَّه مَحلُّ العجَبِ، والتَّقديرُ: أفاسْتَكبرتُم كلَّما جاءَكم رَسولٌ [215] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (1/ 598). ، وأيضًا قدَّم فَرِيقًا في المَوضِعَينِ للاهْتمامِ وتَشويقِ السَّامِعِ إلى ما فعَلوا بهم [216] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (1/ 127). .
ومن ذلك قولُه سُبحانَه: ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ [الروم: 10] ، وقولُه تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: 24] ، وقولُه عزَّ وجلَّ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت: 15] ؛ فقدَّم الجارَّ والمَجرورَ (بها، بِآيَاتِنَا) على الفِعلِ؛ للاهْتِمامِ ولرِعايَةِ فواصِلِ الآياتِ.
ومن ذلك قولُه تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 4] ، فمعَ مُراعاةِ فواصِلِ الآياتِ قُدِّم الجارُّ والمَجرورُ (له) معَ الخبَرِ (كُفُوًا) على اسمِ (يَكُنْ)، وعلَّل ذلك الزَّمَخْشريُّ بأنَّ (الكَلامَ إنَّما سِيق لنفْيِ المُكافأةِ عن ذاتِ الباري سُبحانَه، وهذا المَعْنى مَصبُّه ومَركزُه هو هذا الظَّرفُ [217] أي: الجارُّ والمجرورُ. ، فكان لذلك أهَمَّ شيءٍ وأعْناه، وأحقَّه بالتَّقدُّمِ وأحْراه) [218] ((تفسير الزمخشري)) (4/ 819). .
ومِن ذلك تَقْديرُ المَحْذوفِ في "باسمِ اللهِ" مُؤخَّرًا؛ فيُقدَّرُ: باسمِ اللهِ آكُلُ، باسمِ اللهِ أتحدَّثُ، باسمِ اللهِ أنامُ، باسمِ اللهِ أفْعَلُ... حسَب سِياقِ الكَلامِ؛ للدَّلالةِ على اهْتمامِ المُسلِمِ باسمِ اللهِ الكَريمِ، ولأنَّ الكافِرينَ كانوا يَبدؤونَ بأسْماءِ آلِهتِهم.
4- التَّبرُّكُ به، نحْوُ: مُحمَّدًا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ اتَّبَعتُ؛ فتَبدأُ بذكْرِ المَفْعولِ -وهُو النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- للتَّبرُّكِ باسمِه والبَداءَةِ به.
ومنه: القُرآنَ حفِظتُ، القرآنَ قَرأتُ...
5- التَّلذُّذُ بتَقْديمِ اسم ِالمَحْبوبِ، كقولِك: ليلى قابلْتُ، ليلى كلَّمتُ.
6- إفادَةُ توجُّهِ الإنْكارِ والتَّعجُّبِ إلى المُتقدِّمِ، كقولِك: "أبالزُّورِ تَشهَدُ؟!" فالتَّقْديمُ هنا يُفيدُ أنَّ الإنْكارَ المُستفادَ مِنَ الاسْتِفهامِ إنَّما يَتوجَّهُ إلى المُتقدِّمِ على الفِعلِ، لا على الفِعلِ نفْسِه، فلا يَتوجَّهُ الإنْكارُ إلى الشَّهادَةِ، بل إلى التَّزْويرِ فيها.
ومِنَ الأمْثِلةِ على ذلك في القُرآنِ قولُه تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام: 14] ؛ فتَقْديمُ المَفْعولِ "غيرَ اللهِ" على الفِعلِ "أتَّخِذُ" يُفيدُ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يُنكِرُ على نفْسِه اتِّخاذَ ولِيٍّ، بل يُنكِرُ أنْ يكونَ هذا الولِيُّ غيرَ اللهِ.
ومنه قولُ أبي العَلاءِ المَعرِّيِّ:
أعِندي وقد مارسْتُ كلَّ خَفيَّةٍ
يُصدَّقُ واشٍ أو يُخيَّبُ سائِلُ
فقدَّم الظَّرفَ "عِندي" على عامِلِه "يُصَدَّق" وما عُطِف عليه؛ لأنَّه مَحطُّ الإنْكارِ.
7- مُراعاةُ فواصِلِ الآياتِ، كما في قولِه تعالى: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة: 30-32] ؛ فلم يَقلْ: ثمَّ صلُّوه الجَحيمَ ثمَّ اسْلُكُوه في سِلسلةٍ... للمُحافظَةِ على نظْمِ الكَلامِ ورِعايةِ رُؤوسِ الآياتِ، وأفاد أيضًا تَعْجيلَ المَساءَةِ لهم، وقيل: لإفادَةِ التَّخْصيصِ، أيْ: لا تُصَلُّوه إلَّا الجَحيمَ، ولا تَسلُكُوه إلَّا في هذه السِّلسلةِ، كأنَّها أفْظَعُ مِن سائِرِ مَواضِعِ الإرْهاقِ في الجَحيمِ [219] ينظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/ 604، 605)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/ 138). .
8- الضَّرورةُ الشِّعريَّةُ، كقولِ الأُقَيْشِرِ: الطويل
سَريعٌ إلى ابنِ العمِّ يَلطِمُ وَجهَهُ
وليس إلى داعي النَّدى بِسَريعِ
فكَلمةُ "بسَريعِ" تأخَّرتْ وتقدَّم عليها ما هو مِن مُتعلِّقاتِ الجُملةِ، وهُو عِبارةٌ "إلى داعي النَّدى"؛ لضَرورةِ القافِيةِ والوزْنِ، وإلَّا لقال: وليس بسَريعٍ -أو سَريعًا- إلى داعي النَّدى.
وذهَب بعضُهم إلى أنَّ التَّقْديمَ في تلك الحالِ لغَرَضٍ بَلاغيٍّ، وليس لمُجرَّدِ الوزْنِ والقافِيةِ، وأنَّ البيْتَ لا يَخلو مِن جَمالِ التَّقْديمِ والتَّأخيرِ؛ فإنَّ الشَّاعرَ قدَّم (إلى داعي النَّدى)؛ لكي يُعجِّلَ بذكْرِه حتَّى يَقرُنَه إلى لطْمِ الخدِّ؛ ذلك الحدَثِ الَّذي له صَداه المَريرُ في نفْسِه، وفي هذا الاقْتِرانِ والتَّجاوُرِ بَيْنَ لطْمِ الخدِّ وداعي النَّدى تَبرُزُ المُفارقةُ والتَّناقُضُ بَيْنَ موقفَي ابنِ العمِّ في الاسْتِجابةِ لكِليهما، أيْ: بَيْنَ العَجلةِ والانْدفاعِ معَ اللَّطْمِ وبين التَّباطُؤِ والتَّقاعُسِ معَ البذْلِ، ثمَّ إنَّ تَقْديمَ الجارِّ والمَجْرورِ قد اسْتلزَم تأخيرَ مُتعَلَّقِها (بسَريعِ)، وفي ذلك أيضًا زِيادَةٌ في إبْرازِ تلك المُفارقَةِ، فبينَما ورَدت هذه اللَّفظةُ في جانِبِ اللَّطمِ أوَّلَ الكَلامِ إذا بها تأتي في جانِبِ النَّدى والعَطاءِ مُتأنِّيةً مُتَخاذِلةً في آخِرِ البيتِ؛ وذلك للإيْحاءِ بأنَّ السُّرعةَ هي كالغَريزةِ لدى ابنِ العمِّ في جانِبِ الشَّرِّ دُونَ الخيْرِ [220] ينظر: ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) لبهاء الدين السبكي (1/ 379 - 392)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 106)، ((علم المعاني في الموروث البلاغي)) لحسن طبل (ص: 132). .
ثانيًا: تَقْديمُ بعضِ مُتعلِّقاتِ الفِعلِ على بعضٍ
1- تَقْديمُ ما هو أوثَقُ صِلَةً بسِياقِ الكَلامِ، كما في قولِه تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام: 151] ، وقولِه سُبحانَه: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [الإسراء: 31] ؛ فقال في الأُولى: مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ فقدَّم ضَميرَ الآباءِ نَرْزُقُكُمْ على ضَميرِ الأبْناءِ وَإِيَّاهُمْ، وقال في الثَّانيةِ: خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ فقدَّم ضَميرَ الأبْناءِ نَرْزُقُهُمْ على ضَميرِ الآباءِ وَإِيَّاكُمْ؛ ووَجْهُ ذلك: أنَّ هذا التَّعبيرَ مَبنيٌّ على اخْتِلافِ الحالَين؛ ففي آيةِ سُورةِ (الأنعامِ) جاء قولُه تعالى: مِنْ إِمْلَاقٍ أيْ: مِن فقْرٍ، يَعْني: إذا كُنتُم فُقراءَ فلا تَقتلوا أولادَكم، ثمَّ قال: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ فبَدأَ بالآباءِ؛ لأنَّهم فُقراءُ، وجَعَلَ رِزقَهم قبْلَ ذِكْرِ رِزْقِ الأولادِ المقْتولينَ، أمَّا في آيةِ سُورةِ الإسْراءِ فقال: خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ فالآباءُ القاتِلون هنا ليْسوا فُقراءَ، بل هم أغْنياءُ لكنَّهم يَخشَونَ الفقْرَ، فكان الأنْسبُ أنْ يُبْدَأَ بذِكْرِ رِزْقِ الأولادِ قبْلَ ذِكْرِ رِزْقِ الآباءِ؛ لأنَّ الآباءَ رِزقُهم مَوجودٌ [221] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/664)، ((تفسير أبي حيان)) (4/687)، ((تفسير أبي السعود)) (5/169)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/87). .
2- أنَّ التَّأخيرَ قد يؤدِّي إلى لَبْسٍ في المَعْنى، كما في قولِه تعالى: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ [غافر: 28] ، فلو أُخِّرَ الجارُّ والمَجْرورُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وصار الكَلامُ: (وقالَ رجُلٌ مُؤمِنٌ يَكتُمُ إيمانَهُ مِن آلِ فِرْعَونَ)؛ لتُوهِّمَ أنَّ المُرادَ أنَّ الرَّجلَ يكتُمُ إيْمانَه مِنهم، أيْ: مِن آلِ فِرْعونَ.
3- مُراعاةُ تَقْديمِ الأفْضلِ فالأفْضلِ، ومنه قولُه سُبحانَه: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ [الحج: 27] ؛ قيل: قدَّم الحُجَّاجَ الماشِينَ على الحُجَّاجِ الرَّاكِبينَ لأنَّهم أفْضلُ مَنْزِلةً؛ لأنَّهم يُعانون في الحجِّ جُهدًا ومَشقَّةً أكْبرَ. قال ابنُ عبَّاسٍ: ما آسى على شيءٍ فاتَني ألَّا أكونَ حجَجْتُ ماشِيًا.
وقيل: قدَّم رِجَالًا لكوْنِ هذه الحالِ أغرَبَ، ثمَّ ذَكَرَ بعْدَه وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ؛ تَكْملةً لتَعْميمِ الأحْوالِ؛ إذْ إتيانُ النَّاسِ لا يَعْدو أحدَ هذَينِ الوصْفَينِ. وقيل: قدَّم الماشِين على الرُّكْبانِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى شرَط في الحجِّ الاسْتِطاعةَ -ولا بُدَّ مِن السَّفرِ إليه لغالِبِ النَّاسِ- فذَكَر نوعَيِ الحُجَّاجِ؛ لقَطْعِ تَوهُّمِ مَنْ يَظنُّ أنَّه لا يجِبُ إلَّا على راكِبٍ، فقَدَّم الرِّجالَ اهْتِمامًا بهذا المَعْنى وتأكيدًا. وقيل: قدَّمهم جَبْرًا لهم؛ لأنَّ نُفوسَ الرُّكْبانِ تَزدَريهم وتوَبِّخُهم، وتقولُ: «إنَّ اللهَ تعالى لم يكتُبْه عليكم، ولم يُرِدْه منْكم!»، وربَّما توَهَّموا أنَّه غيرُ نافِعٍ لهم، فبدأ بهم؛ جَبْرًا لهم ورحْمةً. ولم يذكُرِ اللهُ عزَّ وجلَّ راكبي السُّفُنِ؛ لأنَّ مكَّةَ ليست على بحْرٍ، وإنَّما يُتوصَّلُ إليها على إحْدى هاتَينِ الحالَتينِ؛ مَشْيٍ أو رُكوبٍ، فذكَر تعالى ما يُتوصَّلُ به إليها [222] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/ 502)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/69)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/243، 244). .
4- تَقْديمُ السَّببِ على المُسبَّبِ، كما في قولِه تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا [الفرقان: 48-49] ؛ (فقدَّم حَياةَ الأرْضِ وإسْقاءَ الأنْعامِ على إسْقاءِ النَّاسِ، وإنْ كانوا أشْرفَ مَحلًّا؛ لأنَّ حياةَ الأرْضِ هي سَببٌ لحَياةِ الأنْعامِ والنَّاسِ، فلمَّا كانت بهذِه المَثابةِ جُعِلتْ مُقدَّمةً في الذِّكرِ، ولمَّا كانتِ الأنْعامُ مِن أسْبابِ التَّعيُّشِ والحياةِ للنَّاسِ قدَّمها في الذِّكرِ على النَّاسِ؛ لأنَّ حياةَ النَّاسِ بحياةِ أرْضِهم وأنْعامِهم، فقدَّم سقْيَ ما هو سَببُ نمائِهم ومَعاشِهم على سقْيِهم) [223] ((المثل السائر)) لابن الأثير (2/ 43). .
ومنه قولُه سُبحانَه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] ؛ فقد (قدَّم العِبادةَ على الاسْتعانَةِ؛ لأنَّ تَقْديمَ القُربةِ والوَسيلةِ قبل طلَبِ الحاجَةِ أنْجَحُ لحُصولِ الطَّلَبِ، وأسْرعُ لوُقوعِ الإجابةِ، ولو قال: (إيَّاك نَسْتعينُ، وإيَّاك نَعبُدُ) لكان جائِزًا، إلَّا أنَّه لا يسُدُّ ذلك المَسَدَّ، ولا يَقعُ ذلك المَوقِعَ) [224] ((المثل السائر)) لابن الأثير (2/ 43). .
5- تَقْديمُ الأكْثرِ على الأقَلِّ، كما في قولِه تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر: 32] ؛ فقُدِّم الظَّالِمُ، ثمَّ المُقتصِدُ، ثمَّ السَّابِقُ؛ للإيْذانِ بكثْرةِ الفاسِقينَ وغَلبَتِهم، وأنَّ المُقتَصِدينَ قَليلٌ بالإضافةِ إليهم، والسَّابِقونَ أقَلُّ مِنَ القَليلِ، ولأنَّ الظُّلمَ بمَعْنى الجهْلِ والرُّكونِ إلى الهَوى مُقتَضى الجِبلَّةِ، والاقْتِصادُ والسَّبْقُ عارِضانِ [225] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/ 613)، ((تفسير البيضاوي)) (4/ 259)، ((تفسير أبي حيان)) (9/ 33)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/ 157). . أو قُدِّم في التَّفْصيلِ ذِكْرُ الظَّالِمِ لنفْسِه؛ لدفْعِ تَوهُّمِ حِرْمانِه مِنَ الجنَّةِ، وتَعْجيلًا لمَسرَّتِه [226] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/ 312). .
6- الاهْتِمامُ بالمُقدَّمِ، كما في قولِه تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر: 32] ، أيْ: جعَلناهم آخِذِينَ الكِتابَ مِنَّا، فـ(مُقْتضَى الظَّاهِرِ أنْ يكونَ أحدُ المَفْعولِين -الَّذي هو الآخِذُ في المَعْنى- هو المَفْعولَ الأوَّلَ، والآخَرُ ثانيًا، وإنَّما خُولِف هنا فقدَّم المَفْعولَ الثَّانيَ لأمْنِ اللَّبْسِ قصْدًا للاهْتمامِ بالكِتابِ المُعْطى) [227] ((تفسير ابن عاشور)) (22/ 311). .
7- تَقديمُ الأحَبِّ إلى النَّفْسِ (تَقْديمُ الأهَمِّ فالمُهمِّ)، كما في قولِه تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [آل عِمْران: 14] ؛ فإنَّ (اللهَ تعالى لمَّا صدَّر الآيةَ بذكْرِ الحُبِّ، وكان المَحْبوبُ مُخْتلِفَ المَراتِبِ مُتفاوِتَ الدَّرَجِ، اقْتضتِ الحِكمةُ الإلهيَّةُ تَقْديمَ الأهمِّ فالأهمِّ مِنَ المَحْبوباتِ؛ فقدَّم النِّساءَ على البَنينَ؛ لِما يظهَرُ فيهنَّ مِن قوَّةِ الشَّهوةِ ونُزوعِ الطَّبعِ وإيثارِهنَّ على كلِّ مَحْبوبٍ، وقدَّم البَنينَ على الأمْوالِ لتَمكُّنِهم في النُّفوسِ واخْتلاطِ مَحبَّتِهم بالأفْئدةِ، وهكذا القولُ في سائِرِ المَحْبوباتِ؛ فالنِّساءُ أقعَدُ في البُيوتِ، والبَنونَ أقعَدُ في المحبَّةِ مِنَ الأمْوالِ، والذَّهبُ أكْثرُ تَمكُّنًا مِنَ الفِضَّةِ، والخَيلُ أدخَلُ في المحبَّةِ مِنَ الأنْعامِ، والمواشي أدخَلُ مِنَ الحرْثِ، فأمَّا قولُه تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن: 15] ؛ فإنَّما قدَّم الأمْوالَ هاهنا لأنَّه في مَعرِضِ ذكْرِ الافْتتانِ، ولا شكَّ أنَّ الافْتتانَ بالمالِ أدْخَلُ مِنَ الافْتتانِ بالأولادِ؛ لما فيه مِن تَعْجيلِ اللَّذَّةِ، والوُصولِ إلى كلِّ مَسرَّةٍ، والتَّمكُّنِ مِن البَسطَةِ والقوَّةِ، بخِلافِ آيةِ القناطيرِ؛ فإنَّه إنَّما قدَّم البَنينَ فيها لمَّا ذكَرها في مَعرِضِ الشَّهوةِ وتَمكينِ المحبَّةِ) [228] ((الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز)) ليحيى العلوي (2/ 36). .
8- مُراعاةُ التَّرْتيبِ الوُجوديِّ، ومنه قولُه تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] ؛ فـ (قدَّم ذكْرَ الظُّلُماتِ مُراعاةً للتَّرتُّبِ في الوُجودِ؛ لأنَّ الظُّلمةَ سابِقةٌ النُّورَ) [229] ((تفسير ابن عاشور)) (7/ 127). .
9- مُراعاةُ أحْوالِ النَّفْسِ، ومنه قولُه تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء: 12] ؛ فقُدِّمتِ الوصيَّةُ على الدَّينِ، والدَّينُ مُقدَّمٌ عليها في الشَّريعةِ؛ لأنَّه لمَّا كانتِ الوَصيَّةُ مُشبِهةً للمِيراثِ في كوْنِها مَأخوذةً مِن غيرِ عوَضٍ، كان إخْراجُها ممَّا يشُقُّ على الوَرثةِ ويتَعاظَمُ عليهم، ولا تَطيبُ أنْفُسُهم بها، فكان أداؤُها مَظِنَّةً للتَّفريطِ، بخِلافِ الدَّينِ؛ فإنَّ نُفوسَهم مُطْمئنَّةٌ إلى أدائِه؛ فلذلك قُدِّمتْ على الدَّينِ حثًّا على وُجوبِها والمُسارَعةِ إلى إخْراجِها معَ الدَّينِ، ولذلك جِيء بكَلمةِ «أو» للتَّسويةِ بينَهما في الوُجوبِ [230] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/ 483، 484). .
ومن ذلك قولُه تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [عبس: 34-36] ؛ فتَدرَّج القُرآنُ في وصْفِ فِرارِ الإنْسان ِمِن أحبَّائِه؛ فيَفِرُّ أوَّلَ الأمرِ مِن أخيه، ثمَّ أمِّه وأبيه، ثمَّ زوجتِه وأبنائِه الَّذين هم أحَبُّ النَّاسِ إليه؛ فمَحبَّةُ الأخِ أدْنى مِن محبَّةِ الأبوَينِ، ومحبَّةُ الأبوَينِ أقَلُّ مِن محبَّةِ الزَّوجةِ والأولادِ، ومحبَّةُ الأولادِ أعْلى شيءٍ.
10- تَقْديمُ الأعْجَبِ فالأعْجَبِ، كما في قولِه تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ [النور: 45] ؛ فقدَّم الماشيَ على بَطنِه؛ لأنَّه أدَلُّ على القُدرةِ مِنَ الماشي على رِجْلَين؛ إذْ هو ماشٍ بغيرِ الآلةِ المَخْلوقةِ للمَشيِ، ثمَّ ذكَر الماشيَ على رِجْلَين وقدَّمه على الماشي على أرْبعٍ؛ لأنَّه أدَلُّ على القُدرةِ أيضًا حيثُ كثُرتْ آلاتُ المَشيِ في الأرْبعِ [231] يُنظر: ((المثل السائر)) (2/ 43، 45)، ((الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز)) ليحيى العلوي (2/ 33 - 37)، ((علم المعاني)) لعبد العزيز عتيق (ص: 145)، ((خصائص التراكيب)) لمحمد أبو موسى (ص: 364 - 372). .

انظر أيضا: