موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ الثَّاني: تَقْديمُ المُسنَدِ


قد يَتأخَّرُ المُسنَدُ إليه ويَتقدَّمُ المُسنَدُ لأغْراضٍ بَلاغيَّةٍ كذلك؛ منْها:
1- التَّخْصيصُ: أيْ: تَخْصيصُ المُسنَدِ بالمُسنَدِ إليه، وقصْرُ المُسنَدِ إليه على المُسنَدِ المُتقدِّمِ، كقَوْلِه تعالى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون: 6] ، فتلك الآيةُ رَدٌّ على المُشرِكينَ الَّذين دعَوُا النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى اتِّباعِ دِينِهم كي يَتَّبِعوا دِينَه، فجاء الرَّدُّ يُبيِّنُ أنَّ لكلٍّ نَهجَه الخاصَّ به، وقد أفَاد تَقْديمُ المُسنَدِ -وهُو الجارُّ والمَجْرورُ- التَّخْصيصَ، أيْ: دِينُكم خاصٌّ بِكم مقصورٌ عليكم، لا حاجةَ لي فيه؛ فالآيةُ الأخيرةُ مِن سُورةِ "الكافرون" فيها قَصْرانِ بتَقديمِ المسنَدِ، يَتضمَّنانِ معنى الآيةِ الأُولى والثَّانيةِ في السُّورةِ، وهذا نوعٌ خَفِيٌّ مِن رَدِّ الأعجازِ على الصُّدورِ يُسمَّى بالإرصادِ.
ومنه أيضًا قولُه تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [المائدة: 120] ؛ حيثُ قدَّم الخبَرَ "للهِ" على المُبْتَدأ "مُلْكُ" ليدُلَّ على تَخْصيصِ المُلْكِ للهِ وحدَه.
وقولُه سُبحانَه: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية: 25-26] ؛ أفاد تَقْديمُ المُسنَدِ (إلينا، علينا) على المُسنَدِ إليه (إيابَهم، حِسابَهم) اخْتِصاصَ رُجوعِهم وحِسابِهم باللهِ سُبحانَه وتَعالى.
ومنه قولُه سُبحانَه في وصْفِ خمْرِ الجَنَّةِ: لَا فِيهَا غَوْلٌ [الصافات: 47] ؛ فـ (تَقْديمُ الظَّرفِ المُسنَدِ على المُسنَدِ إليه لإفادَةِ التَّخْصيصِ، أي هو مُنْتَفٍ عن خمْرِ الجنَّةِ فقطْ دُونَ ما يُعرَفُ من خمْرِ الدُّنْيا، فهُو قصْرُ قلْبٍ) [207] ((تفسير ابن عاشور)) (23/ 113). .
وقد عقَد الزَّمَخْشريُّ مُقارَنةً في الفرْقِ بَيْنَ تَقْديمِ الظَّرفِ في قولِه: لَا فِيهَا غَوْلٌ، وتأخيرِه في قولِه لَا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2] ؛ بأنَّ القَصْدَ في ذكْرِ الرَّيبِ بعدَ حرْفِ النَّفيِ هو نفْيُ الرَّيْبِ عنِ القُرآنِ، وإثْباتُ أنَّه حقٌّ وصدْقٌ لا باطِلٌ وكذِبٌ، كما كان المُشْرِكون يَدَّعونَه، ولو جاء الظَّرفُ بعد حرْفِ النَّفيِ لأدَّى إلى مَعْنًى غيرِ مُرادٍ هنا، وهُو أنَّ كتابًا آخَرَ فيه الرَّيْبُ، أمَّا قولُه تعالى: لَا فِيهَا غَوْلٌ فالمُرادُ منه تَفْضيلُ خمْرِ الجنَّةِ على خُمورِ الدُّنيا بأنَّها لا تَغْتالُ العُقولَ كما تَغْتالُها هي، فكأنَّه قيل: ليس فيها ما في غيرِها مِن هذا العَيبِ والنَّقيصةِ؛ فلذلك قُدِّم الظَّرفُ على المُسنَدِ إليه [208] ينظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/ 34، 35). .
2- التَّفاؤُلُ بتَقْديمِ ما يَسُرُّ، كأنْ تقولَ لمَريضٍ: في عافِيةٍ أنت. ومنه قولُ الشَّاعِرِ: الكامل
سَعِدَتْ بغُرَّةِ وجهِكَ الأيَّامُ
وتَزيَّنتْ ببقائِكَ الأعْوامُ
حيثُ أخَّر الشَّاعرُ هنا المُسنَدَ إليه –وهُو "الأيَّامُ، "الأعْوامُ"-، وقدَّم المُسنَدَ -وهُو "سَعِدتْ، تَزيَّنتْ"-؛ لِبَثِّ التَّفاؤُلِ بتَقديمِ ما يَسُرُّ؛ فقد كان يَجوزُ تَقديمُ المُسنَدِ إليه، فيقولُ: الأيَّامُ سَعِدتْ والأعْوامُ تَزيَّنتْ، لكنْ في تَقديمِ: "سَعِدتْ، وتَزيَّنتْ" إبْهاجٌ للسَّامِعِ، وهُو المَمْدوحُ.
3- المَساءَةُ، ومنه قولُ المُتَنبِّي:
ومِن نكَدِ الدُّنيا على الحُرِّ أن يَرى
عدوًّا لهُ ما مِن صَداقتِهِ بُدُّ
وقيل: قدَّم المُسنَدَ لإظْهارِ التَّألُّمِ.
4- التَّشْويقُ إلى ذكْرِ المُسنَدِ إليه؛ وذلك إذا كان المُسنَدُ يُشَوِّقُ إلى ذكْرِ المُسنَدِ إليه، كقولِ الشَّاعِرِ: البسيط
ثَلاثةٌ تُشرِقُ الدُّنيا ببَهجتِها
شَمسُ الضُّحى وأبو إسْحاقَ والقمَرُ
فقولُه: "ثَلاثةٌ تُشرِقُ الدُّنيا ببَهجتِها" يَبعَثُ على التَّرْكيزِ واسْتعجالِ الوقتِ لمَعْرفةِ تلك الثَّلاثةِ الَّتي هي أحَبُّ الأشْياءِ عند الشَّاعِرِ، فيَحصُلُ التَّشويقُ بتَقْديمِ المُسنَدِ وتأخيرِ المُسنَدِ إليه.
ومنه قولُه تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة: 164] ؛ وقولُه سُبحانَه: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [آل عمران: 190] ؛ فتَقدَّم المُسنَدُ في الآيَتَين فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ ...، وجاء المُسنَدُ إليه في آخِرِهما لَآيَاتٍ تَشْويقًا له.
ومنه قولُ أبي العَلاءِ المَعَرِّي الوافر
وكالنَّارِ الحَياةُ فمِن رَمادٍ
أواخِرُها وأوَّلُها دُخَانُ
فاسْتِهلالُه البيْتَ بكَلمةِ: "وكالنَّارِ" للتَّهويلِ والتَّخويفِ بما تُوحيه شدَّةُ النَّارِ وحَرارتُها، فيَحصُلُ عند المُخاطَبِ بَيانٌ لحَقيقةِ الدُّنْيا مَمزوجٌ بالخوْفِ والتَّذكيرِ بالآخِرةِ وما فيها من جنَّةٍ ونارٍ.
5- الاهْتِمامُ بالمُسنَدِ، ومنه قولُه تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22-23] ؛ فـ (تَقْديمُ المَجْرورِ مِن قولِه: إِلَى رَبِّهَا على عامِلِه للاهْتِمامِ بهذا العَطاءِ العَجيبِ، وليس للاخْتِصاصِ؛ لأنَّهم لَيَروُنَّ بَهَجاتٍ كَثيرةً في الجنَّةِ) [209] ((تفسير ابن عاشور)) (29/ 355). .
ومثله قولُه سُبحانَه: إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة: 30] ؛ فـ (تَقْديمُ إِلَى رَبِّكَ على مُتعلَّقِه –وهُو المَسَاقُ- للاهْتمامِ به؛ لأنَّه مَناطُ الإنْكارِ منْهم) [210] ((تفسير ابن عاشور)) (29/ 357). .
وقيل: قُدِّم المُسنَدُ لمُراعاةِ المُشاكَلةِ بَيْنَ فَواصِلِ الآياتِ؛ فجاء قولُه تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22-23] ليُطابِقَ قولَه: بَاسِرَةٌ [القيامة: 24] وقولَه: فَاقِرَةٌ [القيامة: 25] ، وجاء قولُه: إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ليُطابِقَ قولَه: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة: 29-30] ، وجاء قولُه تعالى: إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [القيامة: 12] ليُطابِقَ قولَه: بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة: 13] .
وقيل: إن تَقديمَ المُسنَدِ في هذه الآياتِ أفاد التَّخْصيصَ معَ مُراعاةِ فَواصِلِ الآياتِ؛ فالمَساقُ والمُسْتقَرُّ ليْس إلَّا إلى اللهِ.
6- التَّنْبيهُ مِن أوَّلِ الأمرِ -دُونَ حاجَةٍ إلى تأمُّلٍ في الكَلامِ- على أنَّه خبَرٌ لا نعْتٌ، ومنه قولُ حسَّانَ بنِ ثابِتٍ يصِفُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
لهُ هِمَمٌ لا مُنتهًى لكِبارِها
وهمَّتُهُ الصُّغرى أجَلُّ مِنَ الدَّهرِ
فقدَّم الخبَرَ (له) على المُبْتَدأ (هِمَمٌ)؛ فإنَّه لو قال: (هِمَمٌ له) لتُوهِّمَ -في أوَّلِ الأمرِ- أنَّ (له) نعْتٌ وليست خبَرًا؛ لأنَّ النَّكرةَ تَحتاجُ إلى الصِّفةِ أكْثرَ ممَّا تَحتاجُ إلى الخبَرِ.
وقيل: بل التَّقْديمُ للاهْتمامِ بالمُسنَدِ، كما تقدَّمَ (لهم) على المُسنَدِ إليه في قولِه تعالى: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا [211] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/ 222). [الأعراف: 195] .
7- كونُ المُسنَدِ مَحطَّ الإنْكارِ والتَّعجُّبِ، ومنه قولُه تعالى: أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ [مريم: 46] ، أيْ: أمُعرِضٌ ومُنصرِفٌ أنت عنْها؟! قدَّم الخبَرَ على المُبْتَدأ، وصدَّرَه بالهمْزةِ لإنْكارِ نفْسِ الرَّغبةِ معَ ضرْبٍ مِنَ التَّعجُّبِ، كأنَّ الرَّغبةَ عنها ممَّا لا يَصدُرُ عنِ العاقِلِ فضْلًا عن ترْغيبِ الغيرِ عنها [212] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/ 12)، ((تفسير أبي السعود)) (5/ 268). .
ومنه قولُ الشَّاعِر:
أمنكَ اغْتيابٌ لمَنْ في غِيابِـ
ـكَ يُثْني عليك ثَناءً جَميلًا؟! [213] ينظر: ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 136)، ((بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة)) لعبد المتعال الصعيدي (1/ 192، 193)، ((خصائص التراكيب)) لمحمد أبو موسى (ص: 311 - 316).

انظر أيضا: