موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ الأوَّلُ: تَقْديمُ المُسنَدِ إليه


 لكي نَعرِف التَّقديمَ الَّذي تُعنى به البلاغةُ يَجِبُ أنْ نَذكُرَ نوعينِ للتَّقديمِ:
1- تَقديمٌ جارٍ على الأصلِ في تَرتيبِ كَلِماتِ الجُملةِ العربيَّةِ، كتَقديمِ الفعلِ على الفاعلِ، والفاعلِ على المفعولِ في الجُملةِ الفعليَّةِ، وتَقديمِ المبتدأِ على الخبَرِ في الجُملةِ الاسميَّةِ.
2- تَقديمٌ جارٍ على غيرِ الأصلِ، كتَقديمِ الفاعلِ أو المفعولِ على الفعلِ، وتَقديمِ الخبَرِ على المبتدَأِ، وهو التَّقديمُ الَّذي قال عنه عبدُ القاهرِ: "إنَّه على نِيَّةِ التَّأخيرِ"، يعنى أنْ يَبقى المقدَّمُ على صِفتِه وإعرابِه الَّذي كان عليه قبْلَ التَّقديمِ، وذلك كبَقاءِ المفعولِ مَنصوبًا بعْدَ تَقديمهِ على فِعلِه وبَقاءِ الخبرِ خَبرًا بعْدَ تَقديمِه على المبتدأِ، وهذا هو التَّقديمُ الَّذي تُعنى به البلاغةُ وتَهتَمُّ به غايةَ الاهتمامِ؛ لأنَّ فيه عُدولًا عن الأصلِ، ولا يكونُ هذا العدولُ إلَّا لِمَزيةٍ أو غَرَضٍ بَلاغيٍّ [197] - علوم البلاغة وتجلي القيمة الوظيفية في قصص العرب : محمد إبراهيم شادي : 57. .
ومِن هذه الأغْراض البَلاغيَّةِ:
1- تَقْويةُ المَعْنى وتَوْكيدُه:
وذلك حين يَتقدَّمُ المُسنَدُ إليه، ثمَّ يُخبَرُ عنه بجُملةٍ فِعْليَّةٍ، كقَولِه تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الفرقان: 3] .
فالآيةُ تُبيِّنُ مدَى سَفاهةِ الكُفَّارِ الَّذين حادوا عن سَنَنِ العقْلِ والفِطرَةِ، فعَبدوا آلِهةً عاجِزةً لا تضُرُّ ولا تَنفَعُ، ولا تَستطيعُ أنْ تَخلُقَ شيئًا، بل هي نفسُها مَخْلوقةٌ للهِ تعالى؛ فقدَّم المُسنَدَ إليه في قولِه: وَهُمْ يُخْلَقُونَ تأكِيدًا على أنَّهم ليسوا آلِهةً؛ فالإلهُ لا يكونُ مخْلوقًا.
ومنه قولُه سُبحانَه: وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ [المائدة: 61] ، وقولُه: قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [النمل: 38 - 40] ، وقولُه عزَّ وجلَّ: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الأعراف: 196] ، وقولُه سُبحانَه:وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [النمل: 17] ، وقولُه جلَّ شأنُه: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: 5] .
والسَّببُ في أنَّ تَقْديمَ المُسنَدِ إليه يُفيدُ تَقويةَ الحُكمِ وتَوكيدَه في هذه الأمْثلةِ وما أشْبَهَها: هو تَكرارُ الإسْنادِ؛ فقد وقَع الفِعلُ في الأمْثلةِ السَّابِقةِ خبَرًا عنِ المُسنَدِ إليه، وهذا الفِعلُ مُسنَدٌ في الوقتِ نفْسِه إلى الفاعِلِ أو نائِبِه، وهُو ضَميرُ الجُملةِ العائِدُ على المُبْتَدأِ، فكأنَّ الحُكْمَ هنا ذُكِر مرَّتَينِ؛ مرَّةً حين أُسْنِد الفِعلُ إلى المُبْتَدأِ، ومرَّةً حينَ أُسْنِد إلى الفاعِلِ أو نائِبِه، بخِلافِ إنْ تأخَّر المُسنَدُ إليه فلا يَحدُثُ هذا التَّكرارُ، بل يَحدُثُ الإسْنادُ مرَّةً واحِدةً فقَطْ.
ومِن ذلك قولُ عبدِ الرَّحمنِ بنِ الحَكْمِ بنِ هِشامٍ يَلومُ بَني أميَّةَ لمَّا شرَعَ الخليفةُ العادِلُ عُمَرُ بنُ عبدِ العَزيزِ في ردِّ المَظالِمِ، وحِسابِ الأمَويِّينَ -الَّذين هم أهْلُه وعَشيرَتُه- بالعَدلِ: الطويل
فقُلْ لهِشامٍ والَّذين تَجمَّعوا
بدابِقَ: مُوتوا لا سلِمْتُمْ يدَ الدَّهرِ
فأنتم أخَذْتُم حَتْفَكم بأكُفِّكم
كباحِثةٍ عن مُدْيةٍ وهْيَ لا تَدري [198] الشَّطْرُ الثَّاني قريبٌ مِن مَثَلٍ يُضرَبُ للذي يُثيرُ بجَهْلِه ما يؤدِّي به إلى هلاكِه، أو الإضرارِ به. يقال: كالشَّاةِ تبحَثُ عن سكِّينِ جزَّارٍ. ويقالُ: كالباحِثةِ عن حَتْفِها بظِلْفِها. ينظر: ((الأمثال)) للهاشمي (ص: 193).
عَشيَّةَ بايعْتُم إمامًا مُخالِفًا
له شجَنٌ بَيْنَ المَدينةِ والحِجْرِ
فلم يقُلْ: فأخذْتُم، بل أكَّد الجُملةَ بتَقديمِ المُسنَدِ إليه.
فردَّ عليه أحدُ أبْناءِ مَروانَ بأبْياتٍ بها نفْسُ التَّأكيدِ، فقال:
لئنْ كان ما يَدْعو إليه هو الرَّدَى
فما أنتَ فيهِ ذا غَناءٍ ولا وَفْرِ
فأنتَ مِن الرِّيشِ الذُّنابى ولم تكنْ
مِن الجِزلةِ الأُولى ولا وسَطِ الشَّعْرِ
ونحنُ كفَيناكَ الأمورَ كما كفى
أبُونا أباكَ الأمرَ في سالِفِ الدَّهْرِ [199] الرَّدى: الهلاكُ، والوَفْرُ: المَالُ الكَثِيرُ. والذُّنابى: مَنْبِتُ ذَنَبِ (ذيْل) الطائرِ. والجَزْلُ: العاقِلُ الأَصِيلُ الرَّأْيِ. والسَّالِف: الماضي. ينظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/ 170، 5/ 210)، ((تاج العروس)) للزبيدي (23/ 455، 28/ 203).
فقال في الرَّدِّ عليه: (ونحنُ كَفَيناكَ)، فقدَّم المُسنَدَ إليه تَأكيدًا كما فعَل عبدُ الرَّحمنِ في قولِه: (فأنتم أخذْتُم).
وقد يُفيدُ قولُه: (ونحنُ كفَيْناكَ) التَّخْصيصَ أيضًا، كأنَّه يقولُ له: لم يَكْفِكم الأمورَ سِوانا، أيْ: أنتم عاجِزونَ عن كِفايَةِ أمُورِكم، فكيفَ بأمرِ الخِلافَةِ؟!
مَجيءُ (غيْر) و(مِثل) مُسْندًا إليهما لتَقْويةِ المَعْنى وتَأكيدِه:
من التَّراكيبِ الَّتي اسْتَخدمَها العَربُ لتَأكيدِ المَعْنى وتَقْويتِه التَّعْبيرُ بـ(غيْر) و(مِثل)، إذا أرِيدَ بِهما الكِنايَةُ مِن غيرِ تَعْريضٍ بأحدٍ، فيقولونَ: مِثلُك لا يَسرِقُ، ومِثلُك يَعطِفُ على النَّاسِ، وغيرُك يَشرَبُ الخمْرَ، يُريدونَ: أنت لا تَسرِقُ، وأنت تَعطِفُ على النَّاسِ، وأنت لا تَشرَبُ الخمْرَ، فلا يَقصِدُون التَّعْريضَ بأحدٍ أنَّه يَسرِقُ أو يَشرَبُ الخمْرَ، ولكنَّهم يَعْنونَ أنَّ كلَّ مَنْ كان مِثلَه في الحالِ والصِّفةِ كانَ مِن مُقْتضَى القِياسِ ومُوجِبِ العُرْفِ والعادَةِ أنْ يَفعلَ ما ذُكِر أو ألَّا يَفعلَ.
ومنه قولُ أبي تَمَّامٍ: الوافر
وغيْري يَأكُلُ المَعْروفَ سُحْتًا
وتَشحَبُ عندَه بِيضُ الأيادِي [200] شَحب اللونُ: تغيَّر. والأيادي: النِّعَم.
فنسَب الشَّاعرُ هنا لغَيرِه التَّنكُّرَ للمَعْروفِ والنِّعمةِ الَّتي تُقدَّمُ إليه، ولم يُرِدْ شخْصًا بعَينِه، ويَلزَمُ ذلك بالضَّرورةِ أنَّه لا يَتَّصِفُ بتلك الصِّفةِ الذَّمِيمةِ، فأدَّى ذلك المَعْنى بطَريقِ الكِنايةِ.
ومنه قولُ المُتنبِّي يُعزِّي عضُدَ الدَّوْلةِ في وَفاةِ عمَّتِه:
مِثلُك يَثْنِي الحُزنَ عن صَوبِهِ
ويَسترِدُّ الدَّمعَ عَنْ غَرْبِهِ
أيْ: أنت تَقدِرُ أنْ تَصرِفَ الحُزْنَ بصبْرِك وثَباتِك، وأنت تَستطيعُ أنْ تَمنَعَ الدَّمعَ مِن مُتابَعةِ الجرْيِ والسَّيَلانِ.
2- التَّخْصيصُ: أيْ: إفْرادُ المُسنَدِ إليه بالمُسنَدِ، وذلك إذا كان المُسنَدُ جُمْلةً فِعليَّةً، كما في قولِه تعالى: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا [هود: 61] ، وقولِه جلَّ وعَلا: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد: 26] ، وقولِه عزَّ وجلَّ: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [التوبة: 101] ، وقولِه سُبحانَه: نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ [الواقعة: 57] ، وقولِه تَبارَك وتَعالى: نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ [الواقعة: 60-61] ، وقولِه سُبحانَه عن نارِ الدُّنيا: نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ [الواقعة: 73] ، فأفاد تَقْديمُ المُسنَدِ إليه في هذه الآياتِ الحَصْرَ؛ فلم يُنشئِ النَّاسَ مِنَ الأرْضِ إلَّا اللهُ، ولم يبْسُطِ الرِّزْقَ لمَنْ يَشاءُ ويُقلِّلْه لمَنْ يَشاءُ إلَّا هو سُبحانَه، ولا يَعلَمُ الفِئةَ الَّتي استمرَّتْ على النِّفاقِ وأصْبَح سَجِيَّةً لهم إلَّا اللهُ، ولم يُقدِّر الموْتَ بينَنا إلَّا اللهُ...
وممَّا يُفيدُ الاخْتِصاصَ -في الغالِبِ- أنْ يَتقدَّمَ المُسنَدُ إليه ويكونَ مَسْبوقًا بنفيٍ، تقولُ: ما أنا بَنيتُ هذا البيْتَ، فأفادتِ الجُملةُ أنَّ هناك بيْتًا مَبنيًّا، لكنَّك لم تَبْنِه بل بَناه غيرُك؛ لِذلك لا يَصِحُّ أنْ تقولَ: ما أنا بَنيتُ هذا البيْتَ ولا غيرِي؛ لأنَّك في الجُزءِ الأوَّلِ مِنَ الجُملةِ أثْبتَّ بِناءَ البيْتِ وأنَّك لم تَبْنِه، ثمَّ نَفيتَه عن غيرِك أيضًا.
ومنه قولُ المُتَنبِّي: المتقارب
وما أنا أسقَمتُ جِسْمي بهِ
ولا أنا أضْرَمتُ في القلْبِ نارًا
فمَرضُ الجسْمِ وإضْرامُ النَّارِ في القلْبِ أمْرانِ واقِعانِ يُعاني منْهما الشَّاعِرُ، لكنَّه يُريدُ أنْ يُبرِّئَ نفْسَه خاصَّةً مِن كوْنِه الفاعِلَ، فليس هو الَّذي أسْقَم جسَدَه ولا أشْعلَ في قلْبِه النَّارَ، وإنَّما غيرُه.
وممَّا خرَج عن هذا الغالِبِ -الذي هو إفادَةُ التَّخْصيصِ- قولُه تعالى مُخاطِبًا بَني إسْرائِيلَ: وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ [البقرة: 48] ؛ قال ابنُ عاشورٍ: (وإنَّما قُدِّم المُسنَدُ إليه لزِيادةِ التَّأكيدِ المُفيدِ أنَّ انْتفاءَ نصْرِهم مُحقَّقٌ، زِيادةً على ما اسْتُفيدَ مِن نفْيِ الفِعلِ معَ إسْنادِه للمَجهولِ) [201] ((تفسير ابن عاشور)) (1/ 486). .
ومنه قولُه سُبحانَه: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ * بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ [الأنبياء: 39-40] ؛ فقد تقدَّمَ المُسنَدُ إليه في قولِه: وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ وقولِه: وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ، ولم يُفِدِ اخْتِصاصًا، إنَّما أفاد تَقْوِيةَ الحُكمِ.
3- إفادَةُ التَّعْميمِ:
وذلك إذا كان المُسنَدُ إليه أدَاةً مِن أدَواتِ العُمومِ، مِثلُ "كل، جميع"، وجاء بعدَه مُباشرةً أداةٌ مِن أدَواتِ النَّفيِ؛ إذ يدُلُّ تقدُّمُه حِينَذاك على شُمولِ النَّفيِ وعُمومِه، كقولِ أبي النَّجْمِ: الرجز
قدْ أصبحَتْ أمُّ الخِيارِ تَدَّعِي
علِيَّ ذنبًا كلُّه لمْ أصْنَعِ
فتَقديمُ المُسنَدِ إليه (كلُّه) أفاد عُمومَ النَّفيِ، وهو أنَّه بَريءٌ مِن كلِّ الذُّنوبِ المُدَّعاةِ عليه.
بخِلافِ أنْ تَسبِقَ أداةُ النَّفيِ أداةَ العُمومِ، فلو قلتَ: ليس كلُّ إنْسانٍ شاعِرًا، فإنَّه يُفيدُ أنَّ بعضَ النَّاسِ شاعِرٌ، وبعضَهم ليس بشاعِرٍ.
ومنه قولُ البُحْتُريِّ:
وأعلَمُ ما كلُّ الرِّجالِ مُشيَّعٌ
وما كلُّ أسْيافِ الرِّجالِ حُسامُ
أيْ: ليس كلُّ الرِّجالِ شِجْعانًا، بل بعضُهم جَبانٌ، وبعضُهم شُجاعٌ، وكذلك ليست كلُّ السُّيوفِ قَواطِعَ، بل بعضُها يَقْطَعُ، وبعضُها لا.
وقولُه:
وما كلُّ ما بُلِّغتُمُ صِدقَ قائلٍ
وفي البعضِ إزْراءٌ علَيَّ وذامُ
أيْ: إنَّ بعضَه صَحيحٌ، وبعضَه خطَأٌ؛ ولذلك قال في الشَّطرِ الثَّاني: (وفي البعضِ) -وليس: في الكلِّ- عيْبٌ وذمٌّ.
ويُسمَّى الأسْلوبُ الَّذي تَسبِقُ فيه أداةُ النَّفيِ أداةَ العُمومِ: (سلْبَ العُمومِ) و(نفْيَ العُمومِ) و(نفْيَ الشُّمولِ)، والأسْلوبُ الَّذي تَسبِقُ فيه أداةُ العُمومِ أداةَ النفْيِ يُسمَّى (عُمومَ السَّلْبِ) و(عُمومَ النَّفيِ) و(شُمولَ النَّفيِ).
4- التَّشْويقُ إلى المُتأخِّرِ وتَمْكينُ الخبَرِ في ذِهْنِ السَّامِعِ:
وذلك إذا كان المُسنَدُ إليه مُشعِرًا بالغَرابةِ؛ لأنَّه حِينَئذٍ يُثيرُ تَشوُّقَ المُتلقِّي وتَطلُّعَه إلى مَعرفةِ المُسنَدِ، كقَولِ أبي العَلاءِ المَعَرِّي: الخفيف
والَّذي حارَتِ البَريَّةُ فيهِ
حَيوانٌ مُستحدَثٌ مِن جَمادِ [202] يَقُول: (تحيَّرت البَريَّة في المعَادِ الجُسماني والنُّشور الَّذي ليْسَ بنفسانيٍّ، وفي أن أبدانَ الأمواتِ كيْفَ تَحْيا من الرُّفاتِ؟ وَبَعْضُهمْ يَقُولُ به، وبَعْضُهمْ يُنكِرُه... يُرِيد أَنَّ الْجِسْمَ مَواتٌ بطبعِه، وإنَّما يصيرُ حَسَّاسًا متحَرِّكًا باتصالِ النَّفْسِ به). ينظر: ((معاهد التنصيص على شواهد التلخيص)) لأبي الفتح العباسي (1/ 136).
فجاء الشَّاعِرُ بالمُسنَدِ إليه اسمًا مَوْصولًا «الَّذي» وجاء بجُملةِ الصِّلةِ، فطال المُسنَدُ إليه تَشْويقًا للمُسنَدِ.
5- تَعْجيلُ المَسَرَّةِ أوِ المَساءَةِ: تقولُ: سَعْدٌ في دارِك، البَرِيءُ خرَج مِنَ الحَبسِ، جيشُ العَدوِّ انْهزَم، الشُّرطةُ في دارِ صَدِيقِك.
6- التَّلذُّذُ بذكْرِه: يقولُ المُحبُّ: ليلى أحبَّتْني، ليلى وَعَدتْني بالجَميلِ، ليلى هجَرَتْني، ليلى ترَكتْني.
7- التَّبرُّكُ به: ويَظهَرُ هذا في أسْماءِ اللهِ الحُسنَى، تقولُ: اللهُ يَرحَمُ عِبادَه، الغَفورُ يَغفِرُ للمُذنِبينَ المُستَغفِرينَ.
8- كوْنُ المُسنَدِ إليه هو مَحَطَّ الإنْكارِ والتَّعجُّبِ: وذلك بعدَ هَمْزةِ الاسْتِفهامِ، كما في قولِه تعالى: قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء: 62] ؟! قال الجُرْجانيُّ: (لا شُبهةَ في أنَّهم لم يقولوا ذلك له عليه السَّلامُ وهُم يُريدُون أنْ يُقِرَّ لهم بأنَّ كسْرَ الأصْنامِ قد كانَ، ولكنْ أنْ يُقِرَّ بأنَّه منه كان. وقد أشاروا له إِلى الفِعلِ في قولِهم: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا. وقال هو عليه السَّلامُ في الجَوابِ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء: 63] ، ولو كان التَّقْريرُ بالفِعلِ لكان الجَوابُ: فعَلتُ أو لم أَفعَلْ) [203] ((دلائل الإعجاز)) لعبد القاهر (ص: 113). ، وقال أبو حَيَّانَ: (وإذا تَقدَّم الاسمُ في نحْوِ هذا التَّرْكيبِ على الفِعلِ، كان الفِعلُ صادِرًا، واسْتُفهِم عن فاعِلِه، وهو المَشْكوكُ فيه، وإذا تَقدَّم الفِعلُ كان الفِعلُ مَشْكوكًا فيه، فاسْتُفهِم عنه أوَقَع أم لم يَقعْ) [204] ((تفسير أبي حيان)) (7/ 448). .
9- الفَخْرُ: وذلك في المَواضِعِ الَّتي يكونُ ذِكْرُ المُسنَدِ إليه فيها يُشعِرُ بالفخْرِ، ومنه قولُ عليِّ بنِ أبي طالِبٍ رضِي اللهُ عنه في غَزْوةِ خَيْبَرَ:
أنا الَّذي سمَّتْنِي أمِّي حَيْدرَهْ
كليْثِ غاباتٍ كَريهِ المَنْظَرَهْ
أُوفِيهمُ بالصَّاعِ كَيلَ السَّنْدَرَهْ [205] حَيْدرة، واللَّيْثُ: اسمانِ من أسماءِ الأسدِ. (كَرِيهِ المَنْظَرَهْ) يعني: أنَّه كريهُ المنظَرِ في عينِ عَدُوِّه؛ لأنَّ موتَ عَدُوِّه مقرونٌ بنظَرِه إليه. (أُوفِيهِمُ بِالصَّاعِ)؛ أي: أقتُل الأعداءَ قتلًا ذريعًا واسعًا. السَّندَرة: مِكيالٌ واسِعٌ. يُنظَر: ((البحر المحيط الثجاج)) (31/ 528، 529).
فقدَّم المُسنَدَ إليه "أنا" فخْرًا، وهُو مِنَ المَواطِنِ الَّتي يُباحُ فيها التَّفاخُرُ؛ لأنَّه يُقاتِلُ الكفَرةَ أعْداءَ اللهِ [206] يُنظَر: ((الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم)) لعصام الدين الحنفي (1/ 28)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 123)، ((علم المعاني)) لعبد العزيز عتيق (ص: 136 - 141)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكة (1/ 364 وما بعدها)، ((خصائص التراكيب)) لمحمد أبو موسى (ص: 220 - 240). .

انظر أيضا: