موسوعة اللغة العربية

تمهيدٌ: عِلمُ المَعاني


تَعريفُ عِلمِ المَعاني:
هو "العِلمُ الَّذي يُعرَفُ بِه أحوالُ اللَّفْظِ العَربيِّ الَّتي بِها يُطابِقُ مُقتضَى الحالِ".
والمَقصودُ بِالمعاني ما يُسمَّى بـ(مَعاني النَّحْوِ)؛ فهو يَدرُسُ الفُروقَ في المَعاني بينَ صُوَرِ التَّراكيبِ المُختلِفةِ ليَدُلَّنا على التَّركيبِ الأَنسبِ لمَوقِفٍ مُعَيَّنٍ [40] يُنظَر: ((نصوص بلاغية في مباحث المعاني)) لعبد الحكيم راضي (ص: 6). .
و(المُرادُ بأحْوالِ اللَّفْظِ العَربيِّ: ما يشمَلُ أحوالَ الجُملةِ وأجزاءَها؛ فأحوالُ الجُملةِ؛ كالفصْلِ والوصْلِ، والإيجازِ، والإطْنابِ، والمُساواةِ. وأحوالُ أجزائِها: كأحوالِ المُسنَدِ إليه، وأحوالِ المُسنَدِ، وأحوالِ مُتعلِّقاتِ الفِعلِ) [41] ((بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح)) لعبد المتعال الصعيدي (1/ 33). ؛ مِنَ الذِّكْرِ والحذْفِ، والتَّقديمِ والتَّأخيرِ، والتَّعريفِ والتَّنكيرِ، والإظْهارِ والإضْمارِ، إلى غيرِ ذلك.
ولمَّا كانتِ البَلاغةُ هي "مُطابَقةُ الكَلامِ لمُقتضَى الحالِ..."، كان أَوْلى ما يقومُ بِه البَلاغيُّ أنْ ينظُرَ في اللَّفظِ العَربيِّ ليَنظُرَ كيف يَتطابقُ معَ مُقتضَى الحالِ. والحالُ -كما عرَّفه البَلاغيُّون-: (الأمْرُ الدَّاعي للمُتكلِّمِ إلى أنْ يُمَيِّزَ كَلامَه بمِيزةٍ تَعبيريَّةٍ خاصَّةٍ)، ومَعنى ذلك أنَّ الأحْوالَ أوِ المَقاماتِ هي مَجموعةُ المُؤشِّراتِ (غيرِ اللُّغويَّةِ) الَّتي تُؤثِّرُ في لُغةِ الكَلامِ البَلِيغِ، بحيْثُ تَترُكُ فيه بَصَماتٍ أو ظَواهرَ تَعبيريَّةً تُوائمُها، وتَتنوَّعُ بتَنوُّعِها.
والحالُ بِهذا المَفهومِ تشمَلُ أمورًا كثيرةً؛ مِنها:
أ- أحْوالُ المخاطَب:
فذَكاءُ المخاطَبِ أو غَباؤُه، وتَردُّدُه أو إنْكارُه، وطَبَقتُه الاجْتماعيَّةُ، ومُيولُه وآراؤُه المَذهَبيَّةُ، وعَلاقتُه بالمُتكلِّمِ أو بمَوضوعِ الكَلامِ؛ كلُّها أحْوالٌ أو مَقاماتٌ يَتنوَّعُ الكَلامُ بتَنوُّعِها، ولا تَتمثَّلُ البَلاغَةُ إلَّا في مُطابَقةِ الكَلامِ لها ومُشاكَلتِه إيَّاها، بِحيثُ يَكونُ وَفقَ الغَرَضِ الَّذي سِيقَ له؛ (فذَكاءُ المُخاطَب حالٌ تَقْتضي إيجازَ القوْلِ، فإذا أوَجزْتَ في خِطابِه كان كَلامُك مُطابِقًا لمُقتضَى الحالِ، وغَباوتُه حالٌ تَقتَضي الإطْنابَ والإِطالةَ، فإذا جاء كَلامُك في مُخاطَبتِه مُطنَبًا فهو مُطابِقٌ لمُقْتضَى الحالِ، ويَكونُ كَلامُك في الحالَينِ بَليغًا، وَلو أنَّك عكسْتَ لانْتفَتْ عن كَلامِك صِفةُ البَلاغَةِ) [42] ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 41). .
ب- طَبيعَةُ المَعْنى أوِ الغَرَضِ:
كلُّ غَرَضٍ مِنَ الأغْراضِ له ما يُلائِمُه من الصُّورِ، وما يَلِيقُ بِه مِنَ الأشْكالِ التَّعْبيريَّةِ الَّتي لا تَليقُ بسِواه، ولِهذا قال القاضي الجُرْجانيُّ: (ولا آمرُك بإجْراءِ أنْواعِ الشِّعرِ كلِّه مَجرًى واحِدًا، ولا أنْ تَذهبَ بجَميعِه مَذْهبَ بَعضِه؛ بل أرى لك أنْ تَقسِمَ الألْفاظَ على رُتَبِ المَعاني، فلا يَكونُ غَزَلُك كافْتخارِك، ولا مَديحُك كوَعيدِك، ولا هِجاؤُك كاسْتبطائِك، ولا هزْلُك بمَنزِلةِ جِدِّك، ولا تَعريضُك مِثْلَ تَصْريحِك؛ بل تُرتِّبُ كُلًّا مَرتَبتَه، وتُوفِّيه حقَّه، فتُلْطِفُ إذا تَغزَّلْتَ، وتُفَخِّمُ إذا افْتخَرتَ، وتَتصرَّفُ للمَديحِ تَصرُّفَ مَواقعِه؛ فإنَّ المَدحَ بالشَّجاعةِ والبأسِ يتميَّزُ مِنَ المَدحِ باللَّباقةِ والظَّرْفِ، ووصْفُ الحرْبِ والسِّلاحِ ليس كوصْفِ المَجْلسِ والمُدامِ [43] المُدامُ: الخَمْرُ. ينظر: ((القاموس المحيط)) (ص: 1109). ؛ فلُكلِّ واحِدٍ مِنَ الأمْرَينِ نهْجٌ هو أملَكُ به، وطَريقٌ لا يُشارِكُه الآخَرُ فيه) [44] ((الوساطة بَيْنَ المُتنبِّي وخصومه ونقد شعره)) للقاضي الجرجاني (ص: 1). .
ج- مَجْموعةُ الظُّروفِ والاعْتباراتِ الخارِجيَّةِ الدَّاعِيةِ إلى الكَلامِ، أو المُصاحِبةِ له؛ كمُناسَبةِ القَصيدةِ، وسَببِ نُزولِ الآيةِ الكَريمةِ، والبِيئةِ الزّمانِيَّةِ والمَكانيَّةِ للنَّصِّ، وما إلى ذلك مِمَّا لا يُمكِنُ إغْفالُ أثَرِه في الكَلامِ.
د- أحْوالُ المُتكلِّمِ:
وهذا هو المَرَدُّ الأوَّلُ والجَوْهَريُّ للمُطابَقةِ؛ فكلُّ ما سبَق إنَّما هو بمَنزلةِ "الواقِعِ الخارِجيِّ" للتَّجرِبةِ، والعَملُ لا يكونُ رصْدًا مَباشِرًا للواقِعِ الخارجيِّ، وإنَّما تَصويرٌ فنِّيٌّ لرُؤيةِ المُبدِعِ له، وانْفِعالِه الخاصِّ به، ومَوقفِه المُتفرِّدِ منه [45] ينظر: ((علم المعاني في الموروث البلاغي، تأصيل وتقديم)) لحسن طبل (ص: 12- 14). .
فيَبحثُ عِلمُ المَعاني: في السَّببِ الَّذي يَدعُو إلى التَّقديمِ والتَّأخيرِ، والحذْفِ والذِّكْرِ، والإيجازِ والإطْنابِ، والفَصْلِ والوَصْلِ، إلى غيرِ ذلك، ومنه تَعرِفُ أنَّ العَربَ تَميلُ إلى الإيجازِ عندَ الشُّكرِ والاعْتذارِ، وتُطنِبُ في المدْحِ، وأنَّ الجُملةَ الاسْميَّةَ تُفيدُ الثُّبوتَ، والجُملةَ الفِعليَّةَ تُفيدُ التَّجدُّدَ والحُدوثَ. فمَتى وضَع المُتكلِّمُ تِلك القَواعِدَ نُصْبَ عَينيه لم يَزِغْ عن أساليبِهم ونَهْجِ تراكيبِهم، وجاء كَلامُه مُطابِقًا لمُقْتضَى الحالِ الَّتي يُورَدُ فيها [46] ينظر: ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 41). .
قال عبْدُ القاهِرِ: (إِذا ثبَتَ الآنَ أنْ لا شَكَّ ولا مِرْيَةَ في أنْ ليسَ "النَّظْمُ" شَيئًا غيرَ تَوخِّي مَعاني النَّحْوِ وأحْكامِه فيما بَينَ مَعاني الكَلِمِ، ثبَتَ مِن ذلك أنَّ طالِبَ دَلِيلِ الإِعْجازِ مِنْ نَظْمِ القُرآنِ، إِذا هو لم يَطلبْهُ في مَعاني النَّحْوِ وأحْكامِه ووُجوهِه وفُرُوقِه، ولم يَعْلمْ أنَّها مَعْدِنُه ومَعَانُه [47] المَعَانُ -وِزَانُ كَلَامٍ- المَنْزِلُ. ينظر: ((المصباح المنير)) (2/ 576). ، ومَوضِعُه ومكانُه، وأنَّه لا مُستنبَطَ له سِواها، وأنْ لا وجْهَ لطَلبِه فيما عداها- غارٌّ نفْسَه بالكاذِبِ مِنِ الطَّمَعِ، ومُسْلِمٌ لها إِلى الخِدَعِ، وأنَّهُ إِنْ أبَى أنْ يكونَ فيها كان قدْ أبَى أنْ يكونَ القُرآنُ مُعجِزًا بنَظْمِه، ولَزِمه أنْ يُثبِتَ شيئًا آخَرَ يكونُ مُعجِزًا به، وأنْ يَلْحَقَ بأصْحابِ "الصَّرْفةِ" [48] القائِلُ بالصَّرْفة بعضُ المعتَزِلةِ، وعلى رأسِهم النَّظَّامُ، ومعنى الصَّرْفةِ: أنَّ العَرَبَ كانوا يستطيعون نَظْمَ مِثْلِ القُرآنِ الكريمِ، لكِنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ صَرَفَهم عن ذلك، وإعجازُ القرآنِ يكونُ في مضمونِه ومعناه وإخبارِه بالغَيبِ. وهناك آراءٌ وتعريفاتٌ أخرى للصَّرْفةِ. ينظر: ((القول بالصرفة في إعجاز القرآن - عرض ونقد)) لعبد الرحمن الشهري. فيَدفَعَ الإِعْجازَ مِن أصْلِه) [49] ((دلائل الإعجاز)) للجرجاني (ص: 526). .
فإعْجازُ القُرآنِ الكَريمِ -الذي هو بَلاغَتُه- يُطلَبُ -كما قال عبْدُ القاهِرِ- في مَعاني النَّحْوِ وأحْكامِه ووُجوهِه وفُروقِه...
وقدِ انْحصَرت مَوضوعاتُ عِلمِ المَعاني -كما تَناولَها العُلَماءُ- على النَّحوِ التَّالي:
1- الخبَرُ وأغْراضُه وأنْواعُه.
2- الإنْشاءُ. ويَندرِجُ تَحتَه:
أنْواعُ الإنْشاءِ الخَمْسةُ: التَّمنِّي، والاسْتِفهامُ، والأمرُ، والنَّهيُ، والنِّداءُ، وأدَواتُ كلِّ نوعٍ منها، ووظَائِفُها، والأغْراضُ البَلاغيَّةُ أوِ المَعاني الإضافِيَّةُ الَّتي يَخرُجُ الإنْشاءُ عن مَعانيه الأصْليَّةِ مِن أجْلِ الدَّلالةِ عليها.
4- الإسْنادُ وبَيانُ أحْوالِ المُسنَدِ إليه والمُسنَدِ مِن حيثُ: الحذْفُ والذِّكرُ، والتَّنكيرُ والتَّعريفُ، والتَّقديمُ والتَّأخيرُ، والتَّخْصيصُ والمُقتضِياتُ البَلاغيَّةُ لذلك.
5- الفِعلُ ومُتعلِّقاتُه.
6- القَصْرُ، وأنْواعُه، وطُرقُه.
7- الفَصْلُ والوَصْلُ.
7- الإيجازُ والإطْنابُ والمُساواةُ [50] ينظر: ((علم المعاني)) لعبد العزيز عتيق (ص: 29). .

انظر أيضا: