الموسوعة العقدية

 الْغَيْرَةُ

يُوصَفُ اللهُ عزَّ وجلَّ بالغَيْرةِ، وهي صِفةٌ فعليَّةٌ تَليقُ بجَلالِه وعَظمتِه، لا تُشبهُ غَيْرَةَ المخلوقِ، ولا نَدري كيف؛ فـلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
الدَّليلُ:
1- حديثُ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه مرفوعًا: ((إنَّ اللهَ يَغارُ، وغَيْرةُ اللهِ أنْ يَأتيَ المؤمن ما حَرَّم اللهُ )) [2620] أخرجه البخاري (5223) واللفظ له، ومسلم (2761). .
2- حديثُ سَعدِ بنِ عُبادةَ رَضِيَ اللهُ عنه مرفوعًا: ((أَتَعجبُونَ من غَيرةِ سعدٍ؟! فواللهِ لأَنَا أغيرُ، واللهُ أغيرُ منِّي؛ مِن أجْلِ غَيرةِ اللهِ حَرَّمَ الفواحشَ ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ، ولا شَخْصَ أغيَرُ مِن اللهِ... )) [2621] أخرجه البخاري (7416)، ومسلم (1499) واللَّفظُ له. .
قال أبو يَعلَى الفَرَّاءُ -بعدَ ذِكر الحديثينِ السَّابقينِ-: (اعلَمْ أنَّ الكلامَ في هذا الخبرِ في فَصلينِ:
أحَدُهما: إطلاقُ صِفةِ الغَيْرةِ عليه.
والثَّاني: في إطلاقِ الشَّخصِ.
أمَّا الغَيرةُ فغَيرُ مُمتنِعٍ إطلاقُها عليه سُبحانَه؛ لأنَّه ليسَ في ذلك ما يُحيلُ صِفاتِه، ولا يُخرِجُها عمَّا تَستحقُّه؛ لأنَّ الغَيرةَ هي الكراهيةُ للشَّيءِ، وذلك جائزٌ في صِفاته؛ قال تَعالَى: وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ [التوبة: 46] ) [2622] يُنظر: ((إبطال التأويلات)) (1/165). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (في الصَّحيحِ عن عائِشةَ: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يا أُمَّةَ مُحمَّدٍ، والله ما أحدٌ أغيرَ مِن اللهِ أنْ يَزنيَ عَبدُه أو تزنيَ أَمَتُه )) [2623] أخرجه مطولاً البخاري (1044) واللفظ له، ومسلم (901) ، فلمْ يصفْه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمُطلَقِ الغَيرةِ، بل بيَّن أنَّه لا أحدَ أغيرُ منه، وأنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أغيرُ من المؤمنين، وقدْ قدَّمْنا غيرَ مَرَّةٍ أنَّ اللهَ لا يُساوَى في شيءٍ مِن صِفاتِه وأسمائِه، بل ما كان مِن صِفاتِ الكَمالِ فهو أكمَلُ فيه، وما كان مِن سَلْبِ النَّقائصِ فهو أنزَهُ منه؛ إذ لهُ المَثَلُ الأعلى سُبحانَه وتعالى، فوَصَفَه بأنَّه أغيرُ مِن العِبادِ، وأنَّه لا أغيرَ منه) [2624] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) (7/410). .
وقال ابنُ القيِّمِ: (إنَّ الغَيرةَ تَتضمَّنُ البُغضَ والكَراهةَ، فأَخبرَ أنَّه لا أحدَ أغيرُ منه، وأنَّ مِن غَيْرتِه حَرَّم الفواحشَ، ولا أحدَ أحبُّ إليه المِدْحَةُ منه، والغَيرةُ عندَ المُعطِّلةِ النُّفاةِ مِن الكَيفيَّاتِ النَّفْسيَّة؛ كالحياءِ والفَرَحِ، والغَضبِ والسُّخْطِ، والمقتِ والكَراهيةِ؛ فيستحيلُ وصْفُه عندَهم بذلك، ومعلومٌ أنَّ هذه الصِّفاتِ مِن صِفاتِ الكَمالِ المحمودةِ عقلًا وشرعًا، وعُرفًا وفِطرةً، وأضدادُها مذمومةٌ عقلًا وشرعًا، وعُرفًا وفطرةً؛ فإنَّ الذي لا يَغارُ بل تستوي عندَه الفاحشةُ وتركُها: مذمومٌ غايةَ الذَّمِّ، مُستَحِقٌّ للذمِّ القَبيحِ) [2625] يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) (4/1497). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (6/119)، (4/181)؛ حيث نقَل كلامَ شيخ الحرمين الكرجيِّ في إثباتِ جُملةٍ مِن صفاتِ الله عزَّ وجلَّ، منها صِفة (الغَيْرة). .
قال البُخاريُّ: (بابُ قولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (لا شَخصَ أغيَرُ مِن اللهِ)) [2626] يُنظر: ((صحيح البخاري)) كتاب التوحيد، باب 20. .
وعلَّق ابنُ عُثَيمين بقَولِه: (هذا البابُ أرادَ المؤلِّفُ رحمه الله أن يُبيِّنَ فيه صِفةَ الغَيرةِ للهِ عزَّ وجلَّ، وهي من صِفاتِه التي جاءَ بها الحديثُ عن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. والغَيرةُ: هي أنْ يغارَ الإنسانُ على فِعلِ ما يَكرَهُه، يعني: كأنْ يَطلُبَ تغييرَ ما حصَلَ ممَّا يَكرَهُه، هذا أصلُ اشتقاقِ الغَيرَةِ؛ أنَّ الغائرَ كذا، ويعني: الغَيُورَ يَكرَهُ ما حصَلَ ويُريدُ تَغييرَه؛ فهلْ يُوصَفُ الله بالغَيرةِ؟
الجوابُ: نعَمْ، يُوصَفُ اللهُ بالغَيرةِ، كما يُوصَفُ بالفرَحِ والضَّحِكِ والعَجَبِ، وما أَشبَهَه، وهذه الصِّفةُ من الصِّفاتِ الفِعليَّةِ التي تتعلَّقُ بمشيئتِه؛ لأنَّ الضابطَ: أنَّ كُلَّ صِفةٍ لها سَبَبٌ فهي مِن الصِّفاتِ الفِعليَّةِ، فالضَّحِكُ صِفةٌ فِعليَّةٌ، والفَرَحُ صِفةٌ فِعليَّةٌ، والعجَبُ صِفةٌ فِعليَّةٌ؛ فكلُّ صِفةٍ لها سببٌ فإنَّها صِفةٌ فِعليَّةٌ؛ لدُخُولِها في الضَّابطِ المعروفِ عند العُلَماء: أنَّ كُلَّ صِفةٍ تتعلَّقُ بمشيئتِه فهي صِفةٌ فعليَّةٌ) [2627] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (8/409). .
وقال المظهريُّ: (الغَيْرةُ: كراهةُ الرَّجُلِ اشتراكَ غَيْرِه فيما هو حَقُّه، وغَيْرةُ اللهِ تعالى: أن يَكْرَهَ مخالَفةَ أَمْرِه ونَهْيِه.
أن يَزنيَ عَبْدُه أو تزنيَ أَمَتُه"، يعني: لو زنى عبدُ أحَدِكم أو تزني أَمَةُ أَحَدِكم، يَكرَهُ ويَغارُ، فإذا زنى عبدٌ مِن عبادِ اللهِ تعالى، أو أَمَة ٌمِن إمائِه، تكونُ غَيرتُه وكراهيتُه أشَدَّ مِن غَيرتِكم وكراهِيَتِكم) [2628] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (2/ 362). .
وقال الصنعانيُّ: (غَيْرةُ اللهِ: كراهتُه انتِهاكَ حُرمةٍ؛ فالغَيْرةُ مِن صِفاتِ الرَّبِّ، وصِفاتِ أهلِ الإيمانِ) [2629] يُنظر: ((التنوير شرح الجامع الصغير)) (10/ 451). .
وقال الغُنَيمانُ: (وغَيرةُ اللهِ تعالى مِن جِنسِ صِفاتِه التي يَختَصُّ بها؛ فهي ليستْ مُماثِلةً لغَيرةِ المخلوقِ، بل هي صِفةٌ تَليقُ بعَظمتِه؛ مِثلُ الغَضبِ والرِّضا... ونحوِ ذلك مِن خصائِصِه التي لا يُشارِكُه الخَلقُ فيها) [2630] يُنظر: ((شرح كتاب التوحيد)) (1/335). .

انظر أيضا: