الموسوعة العقدية

 الرَّحْمَةُ

صِفةٌ ذاتيَّةٌ فعليَّةٌ ثابتةٌ للهِ عزَّ وجلَّ بالكِتابِ والسُّنَّةِ، و(الرَّحمنُ) و(الرَّحيمُ) مِن أسمائِه تعالى، تكرَّرَا في الكِتابِ والسُّنَّةِ مراتٍ عديدةً.
الدَّليلُ مِن الكِتابِ:
1- قولُ اللهِ تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة: 2، 3].
2- قولُه سُبحانَه: يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة: 218].
3- قَولُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ [الكهف: 58] .
قال الزَّجَّاجُ: (الرَّحمنُ والرَّحيمُ اسمانِ رقيقانِ وأحَدُهما أرَقُّ من الآخَرِ، الرَّحمنُ يختَصُّ باللهِ سُبحانَه وتعالى، ولا يجوزُ إطلاقُه في غيرِه، وقال بعضُ أهلِ التفسيرِ: الرَّحمنُ الذي رَحِمَ كافَّةَ خَلْقِه بأن خَلَقَهم وأوسَعَ عليهم في رِزْقِهم، والرَّحيمُ خاصٌّ في رحمتِه لعبادِه المؤمِنينَ بأن هداهم إلى الإيمانِ، وهو يثيبُهم في الآخِرةِ الثَّوابَ الدَّائِمَ الذي لا ينقَطِعُ) [2161] يُنظر: ((تفسير أسماء الله الحسنى)) (ص: 28). .
وقال الزَّجَّاجيُّ: (الرَّحمنُ الرَّحيمُ: صفتانِ للهِ عَزَّ وجَلَّ مُشتقَّتانِ مِنَ الرَّحمةِ؛ فالرَّحمنُ فَعْلان، والرَّحيمُ فَعِيل.
قال أبو عُبَيدةَ مَعمَرُ بنُ المثَنَّى: «قد يَبْنُون الكَلِمتينِ مِن أصلٍ واحدٍ لمعنًى واحدٍ؛ للمُبالَغةِ، وهما بمَنزلةِ نَديمٍ ونَدْمان. يذهَبُ إلى أنَّ مَعناهما واحِدٌ، كما أنَّ معنى النَّديمِ والنَّدْمان عندَه واحِدٌ... فالنَّدمانُ والنَّديمُ سواءٌ، وكذلك الرَّحمنُ والرَّحيمُ عند أبي عُبَيدةَ... وقيل: إنَّه قال: رَحمنُ الدُّنيا ورحيمُ الآخِرةِ، والرَّحمنُ اسمٌ خاصٌّ، والرَّحيمُ اسمٌ عامٌّ؛ فلذلك قَدَّم الرَّحمنَ على الرَّحيمِ فقيل: بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ؛ ولذلك أيضًا قيل: رجُلٌ رحيمٌ، ولم يُقَلْ: رَحْمنٌ.
وذكَرَ بَعضُهم أنَّه لا يجوزُ أن يُجمَعَ الرَّحمنُ بالرَّحيمِ إلَّا للهِ عَزَّ وجَلَّ، وأنَّه جائِزٌ أن يُقالَ: «رجلٌ رَحْمَنٌ» كما قيل: «رجُلٌ رَحِيمٌ»، وأكثَرُ العُلَماءِ على القَولِ الأوَّلِ، وهو الصَّوابُ؛ لأنَّ «فَعْلان» أَشُّد مبالغةً مِن «فَعِيل»، كما يقال: غَضْبانُ: للمُمتلئِ غَضَبًا، وعَطْشانُ: للمُمتلئِ عَطَشًا، وكذلك الرَّحْمنُ: ذو النِّهايةِ في الرَّحمةِ، الذي وَسِعَت رحمتُه كُلَّ شَيءٍ. وكُلُّ اسمٍ كان عن طريقةِ الفِعلِ أشَدَّ انعِدالًا كان في المَدحِ أبلَغَ، فرَحْمَن أشَدُّ انعِدالًا عن طريقِة الفِعلِ مِن رحيمٍ؛ فلذلك كان أبلَغَ في المدْحِ) [2162] يُنظر: ((اشتقاق أسماء الله)) (ص: 38 - 40). .
وقال السَّعْديُّ: (الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [الفاتحة: 3] اسمانِ دالَّانِ على أنَّه تعالى ذو الرَّحمةِ الواسِعةِ العَظيمةِ التي وَسِعَت كُلَّ شَيءٍ، وعَمَّت كُلَّ حَيٍّ، وكتَبَها للمتَّقينَ المتَّبِعينَ لأنبيائِه ورُسُلِه، فهؤلاء لهم الرَّحمةُ المُطلَقةُ، ومَن عداهم فلهم نصيبٌ منها. واعلَمْ أنَّ مِن القواعِدِ المتَّفَقِ عليها بيْن سَلَفِ الأمَّةِ وأئمَّتِها: الإيمانَ بأسماءِ اللهِ وصِفاتِه، وأحكامِ الصِّفاتِ.
فيُؤمِنونَ مثَلًا بأنَّه رَحْمنٌ رحيمٌ، ذو الرَّحمةِ التي اتَّصَف بها، المتعَلِّقةِ بالمرحومِ؛ فالنِّعَمُ كُلُّها أثَرٌ من آثارِ رحمتِه، وهكذا في سائِرِ الأسماءِ) [2163] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 39). .
وقال ابنُ عُثَيمين: (الرَّحْمَنُ أي: ذو الرَّحمةِ الواسِعةِ؛ ولهذا جاء على وَزْن "فَعْلان" الذي يدُلُّ على السَّعةِ.
والرَّحِيمُ أي: الموصِلُ للرَّحمةِ من يشاءُ مِن عبادِه؛ ولهذا جاءت على وَزْن «فعيل» الدَّالِّ على وُقوعِ الفِعلِ.
فهنا رحمةٌ هي صِفَتُه، هذه دَلَّ عليها الرَّحْمَنُ، ورحمةٌ هي فِعْلُه، أي: إيصالُ الرَّحمةِ إلى المرحومِ، دَلَّ عليها الرَّحِيمُ. والرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ: اسمانِ من أسماءِ اللهِ يدُلَّانِ على الذَّاتِ، وعلى صِفةِ الرَّحمةِ، وعلى الأثَرِ، أي: الحُكمِ الذي تَقتَضيه هذه الصِّفةُ.
والرَّحمةُ التي أثبَتَها اللهُ لنَفْسِه رحمةٌ حقيقيَّةٌ دَلَّ عليها السَّمعُ، والعَقلُ؛ أمَّا السَّمعُ: فهو ما جاء في الكِتابِ والسُّنَّةِ مِن إثباتِ الرَّحمةِ للهِ، وهو كثيرٌ جِدًّا، وأمَّا العَقلُ: فكُلُّ ما حَصَل مِن نِعمةٍ، أو اندَفَع مِن نِقمةٍ، فهو من آثارِ رحمةِ اللهِ.
هذا وقد أنكَرَ قَومٌ وَصْفَ اللهِ تعالى بالرَّحمةِ الحقيقيَّةِ، وحَرَّفوها إلى الإنعامِ، أو إرادةِ الإنعامِ؛ زَعمًا منهم أنَّ العَقلَ يُحيلُ وَصْفَ اللهِ بذلك! قالوا: «لأنَّ الرَّحمةَ انعِطافٌ ولِينٌ، وخُضوعٌ ورِقَّةٌ، وهذا لا يليقُ باللهِ عَزَّ وجَلَّ». والرَّدُّ عليهم مِن وَجهَينِ:
الوَجهُ الأوَّلُ: مَنْعُ أن يكونَ في الرَّحمةِ خُضوعٌ وانكِسارٌ ورِقَّةٌ؛ لأنَّنا نَجِدُ مِن الملوكِ الأقوياءِ رَحمةً دونَ أن يكونَ منهم خضوعٌ ورِقَّةٌ وانكِسارٌ.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّه لو كان هذا مِن لوازِمِ الرَّحمةِ ومُقتَضَياتِها فإنَّما هي رَحمةُ المخلوقِ، أمَّا رحمةُ الخالِقِ سُبحانَه وتعالى فهي تليقُ بعَظَمتِه وجَلالِه وسُلطانِه، ولا تقتضي نقصًا بوَجهٍ مِن الوُجوهِ.
ثمَّ نقولُ: إنَّ العَقلَ يَدُلُّ على ثُبوتِ الرَّحمةِ الحقيقيَّةِ لله عَزَّ وجَلَّ؛ فإنَّ ما نشاهِدُه في المخلوقاتِ مِن الرَّحمةِ بينها يدُلُّ على رحمةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ولأنَّ الرَّحمةَ كَمالٌ، واللهُ أحَقُّ بالكمالِ، ثمَّ إنَّ ما نشاهِدُه مِنَ الرَّحمةِ التي يختَصُّ اللهُ بها، كإنزالِ المطَرِ، وإزالةِ الجَدْبِ، وما أشبَهَ ذلك: يدُلُّ على رحمةِ اللهِ) [2164] يُنظر: ((تفسير العثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/ 5). .
الدَّليلُ من السُّنَّةِ:
1- تحيَّةُ الإسلامِ: (السَّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه)، وقد وردَتْ في أحاديثَ صحيحةٍ كثيرةٍ.
2- حديثُ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لَمَّا خلَقَ اللهُ الخَلْقَ، كتَب في كِتابٍ، فهو عندَه فوقَ العرشِ: إنَّ رَحْمَتي تغلِبُ أو: غلَبَتْ غضَبي )) [2165] أخرجه البخاري (3194)، ومسلم (2751). .
قال البرَّاكُ: (فإنَّه سُبحانَه ذو الرَّحمةِ التي لم يَزَلْ مُتَّصِفًا بها، وهي لازمةٌ لذَاتِه، وهو ذو رحمةٍ يَرحَمُ بها مَن يَشاءُ؛ فالأُولى هِي الصِّفةُ الذَّاتيَّة، والثَّانيةُ هي الصِّفةُ الفِعليَّةُ، وكِلاهما قائمٌ بذاتِه سُبحانَه وتَعالَى) [2166] يُنظر: ((تعليقات الشيخ البَرَّاك على المُخالفات العَقَديَّة في فتح الباري)) (ص: 111). .

انظر أيضا: