الموسوعة العقدية

 التَّرَدُّدُ فِي قَبْضِ نَفْسِ المُؤْمِنِ

صفةٌ فِعليَّةٌ ثابتةٌ للهِ تعالى على ما يَليقُ به؛ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] .
الدَّليلُ:
حديثُ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه مرفوعًا: ((إنَّ اللهَ قال: مَن عادَى لي وليًّا فقد آذَنْتُه بالحربِ... وما تردَّدْتُ عن شيءٍ أنا فاعِلُه ترَدُّدي عن نَفْسِ المُؤمِنِ؛ يكرَهُ الموتَ، وأنا أكرَهُ مَسَاءَتَه )) [1757] أخرجه البخاري (6502). .
سُئِلَ ابنُ تيميَّةَ عن معنى تردُّدِ اللهِ في هذا الحَديثِ؟ فأجاب:
(هذا حديثٌ شريفٌ، قد رواه البُخاريُّ مِن حديثِ أبي هُرَيرةَ، وهو أشرفُ حديثٍ رُوِيَ في صفةِ الأولياءِ، وقد ردَّ هذا الكلامَ طائفةٌ، وقالوا: إنَّ اللهَ لا يُوصَفُ بالتَّردُّدِ، وإنَّما يتردَّدُ مَن لا يعلَمُ عواقِبَ الأمورِ، واللهُ أعلَمُ بالعواقبِ، وربَّما قال بعضُهم: إنَّ اللهَ يُعامِلُ مُعامَلةَ المُتردِّدِ. والتَّحقيقُ: أنَّ كلامَ رَسولِه حقٌّ، وليس أحدٌ أعلَمَ باللهِ مِن رَسولِه، ولا أنصَحَ للأمَّةِ منه، ولا أفصَحَ ولا أحسَنَ بيانًا منه، فإذا كان كذلك كان المُتحَذْلِقُ والمُنكِرُ عليه مِن أضَلِّ النَّاسِ وأجهَلِهم وأسوَئِهم أدبًا، بل يجِبُ تأديبُه وتَعزيرُه، ويجِبُ أن يُصانَ كلامُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ الظُّنونِ الباطلةِ، والاعتقاداتِ الفاسدةِ، ولكنِ المُتردِّدُ منَّا وإنْ كان تردُّدُه في الأمرِ لأجلِ كونِه ما يعلَمُ عاقبةَ الأمورِ، لا يكونُ ما وصَفَ اللهُ به نَفْسَه بمنزلةِ ما يُوصَفُ به الواحدُ منَّا؛ فإنَّ اللهَ ليس كمِثلِه شيءٌ، لا في ذاتِه، ولا في صِفاتِه، ولا في أفعالِه، ثمَّ هذا باطِلٌ؛ فإنَّ الواحدَ منَّا يتردَّدُ تارةً لعدمِ العِلمِ بالعواقبِ، وتارةً لِما في الفِعلينِ مِن المَصالحِ والمفاسدِ، فيُريدُ الفِعلَ لِما فيه مِن المصلحةِ، ويكرَهُه لِما فيه مِن المَفسَدةِ، لا لجهلٍ منه بالشَّيءِ الواحدِ الَّذي يُحَبُّ مِن وجهٍ، ويُكرَهُ مِن وجهٍ، كما قيل:
الشَّيْبُ كُرْهٌ، وكُرْهٌ أَنْ أُفَارِقَهُ
فاعْجَبْ لِشَيْءٍ عَلَى البَغْضَاءِ مَحْبُوبُ
وهذا مِثلُ إرادةِ المريضِ لدوائِه الكَريهِ، بل جميعُ ما يُريدُه العبدُ مِن الأعمالِ الصَّالحةِ الَّتي تكرَهُها النَّفسُ هو مِن هذا البابِ، وفي الصَّحيحِ: ((حُفَّتِ النَّارُ بالشَّهواتِ، وحُفَّتِ الجنَّةُ بالمَكارِهِ ))، وقال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة: 216] الآيةَ.
ومِن هذا البابِ يظهَرُ معنى التَّردُّدِ المذكورِ في هذا الحديثِ؛ فإنَّه قال: (لا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافلِ حتَّى أُحِبَّه)؛ فإنَّ العبدَ الَّذي هذا حالُه صار محبوبًا للحقِّ، مُحبًّا له، يتقرَّبُ إليه أوَّلًا بالفرائضِ وهو يُحِبُّها، ثمَّ اجتهَدَ في النَّوافلِ الَّتي يُحِبُّها ويُحِبُّ فاعِلَها، فأتى بكلِّ ما يقدِرُ عليه مِن محبوبِ الحقِّ؛ فأحَبَّه الحقُّ لفِعلِ محبوبِه مِن الجانبينِ بقَصدِ اتِّفاقِ الإرادةِ؛ بحيث يُحِبُّ ما يُحِبُّه محبوبُه، ويكرَهُ ما يكرَهُه محبوبُه، والرَّبُّ يكرَهُ أن يسوءَ عبدَه ومحبوبَه، فلزِمَ مِن هذا أن يكرَهَ الموتَ؛ ليزدادَ مِن مَحابِّ محبوبِه، واللهُ سُبحانَه وتعالى قد قضى بالموتِ، فكلُّ ما قضى به فهو يُريدُه، ولا بدَّ منه؛ فالرَّبُّ مُريدٌ لموتِه؛ لِما سبَقَ به قضاؤُه، وهو مع ذلك كارهٌ لِمَساءَةِ عبدِه، وهي المَساءَةُ الَّتي تحصُلُ له بالموتِ، فصار الموتُ مُرادًا للحقِّ مِن وجهٍ، مكروهًا له مِن وجهٍ، وهذا حقيقةُ التَّردُّدِ، وهو أن يكونَ الشَّيءُ الواحدُ مُرادًا مِن وجهٍ، مكروهًا مِن وجهٍ، وإنْ كان لا بدَّ مِن ترجُّحِ أحَدِ الجانبينِ، كما تُرجَّحُ إرادةُ الموتِ، لكن مع وجودِ كراهةِ مَساءَةِ عبدهِ، وليس إرادتُه لموتِ المُؤمنِ الَّذي يُحِبُّه ويكرَهُ مَساءَتَه كإرادتِه لموتِ الكافرِ الَّذي يُبغِضُه ويُريدُ مَساءَتَه) [1758] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (18/129-131). .
ثمَّ قال: (والمقصودُ هنا: التَّنبيهُ على أنَّ الشيءَ المُعيَّنَ يكونُ محبوبًا مِن وجهٍ مكروهًا مِن وجهٍ، وأنَّ هذا حقيقةُ التَّردُّدِ، وكما أنَّ هذا في الأفعالِ فهو في الأشخاصِ. واللهُ أعلَمُ) [1759] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (18/135). .
وقال ابنُ باز: (الترَدُّدُ وَصفٌ يليقُ باللهِ تعالى، لا يَعلَمُ كيفيَّتَه إلَّا هو سُبحانَه، وليس كترَدُّدِنا، والترَدُّدُ المنسوبُ للهِ لا يشابِهُ تَرُدَّدَ المخلوقينَ، بل هو ترَدُّدٌ يليقُ به سُبحانَه كسائِرِ صِفاتِه جَلَّ وعلا) [1760] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (9/ 417). .
وقال ابنُ عُثَيمين: (إثباتُ التَّردُّدِ للهِ عزَّ وجلَّ على وجهِ الإطلاقِ لا يجوزُ؛ لأنَّ اللهَ تعالى ذكَر التَّردُّدَ في هذه المسألةِ: ((ما تردَّدْتُ عن شيءٍ أنا فاعِلُه كتَردُّدي عن قَبْضِ نَفْسِ عبدي المُؤمِنِ ))، وليس هذا التَّردُّدُ مِن أجلِ الشَّكِّ في المصلحةِ، ولا مِن أجلِ الشَّكِّ في القُدرةِ على فِعلِ الشَّيءِ، بل هو مِن أجلِ رحمةِ هذا العبدِ المُؤمِنِ؛ ولهذا قال في نَفْسِ الحديثِ: ((يكرَهُ الموتَ، وأكرَهُ إساءَتَه، ولا بدَّ له منه))، وهذا لا يعني أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ موصوفٌ بالتَّردُّدِ في قُدرتِه أو في عِلمِه، بخلافِ الآدَميِّ، فهو إذا أراد أن يفعَلَ الشَّيءَ يتردَّدُ؛ إمَّا لشَكِّه في نتائجِه ومصلحتِه، وإمَّا لشكِّه في قُدرتِه عليه: هل يقدِرُ أو لا يقدِرُ؟ أمَّا الرَّبُّ عزَّ وجلَّ فلا) [1761] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) (رقم اللقاء: 59). .

انظر أيضا: