الموسوعة العقدية

المَطلَبُ السَّابِعُ: الاستِدلالُ بقياسِ الأَوْلى

قال اللهُ تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [النحل: 60] .
قال ابنُ جرير: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى يَقولُ: ولله المثَلُ الأعلى، وهو الأفضَلُ والأطيَبُ، والأحسَنُ، والأجمَلُ، وذلك التَّوحيدُ والإذعانُ له بأنَّه لا إلهَ غَيرُه) [1100] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/ 258). .
وقال السَّمعانيُّ: (قَولُه: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى أي: الصِّفةُ العُلْيا، وذلك مِثلُ قَولِهم: عالمٌ وقادِرٌ ورازِقٌ وحَيٌّ، وغيرَ هذا) [1101] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/ 181). .
وقال البَغَويُّ: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى الصِّفةُ العُليا، وهي التَّوحيدُ، وأنَّه لا إلهَ إلَّا هو. وقيل: جميعُ صِفاتِ الجلالِ والكَمالِ؛ مِنَ العِلْمِ والقُدرةِ والبَقاءِ، وغَيرِها مِنَ الصِّفاتِ) [1102] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/ 84). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (العِلْمُ الإلهيُّ لا يجوزُ أن يُستَدَلَّ فيه بقياسٍ تمثيليٍّ يستوي فيه الأصلُ والفَرعُ، ولا بقياسٍ شُموليٍّ تَستوي فيه أفرادُه؛ فإنَّ الله سُبحانَه ليس كمِثْلِه شَيءٌ، فلا يجوزُ أن يُمَثَّلَ بغَيرِه، ولا يجوزُ أن يَدخُلَ تحتَ قَضيَّةٍ كُلِّيَّةٍ تستوي أفرادُها؛ ولهذا لَمَّا سَلَك طوائِفُ مِن المتفَلْسِفةِ والمتكَلِّمةِ مِثلَ هذه الأقيِسةِ في المطالِبِ الإلهيَّةِ، لم يَصِلوا بها إلى اليقينِ، بل تناقَضَت أدِلَّتُهم، وغَلَب عليهم بعد التَّناهي الحَيرةُ والاضطرابُ؛ لِما يَرَونَه مِن فَسادِ أدِلَّتِهم أو تكافُئِها، ولكِنْ يُستعمَلُ في ذلك قياسُ الأَوْلى) [1103] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/29). .
وقياسُ الأَولى يُستعمَلُ في الإثباتِ وفي التَّنزيهِ.
قال ابنُ تَيميَّةَ: (ذَكَر الوزيرُ أبو المظَفَّرِ بنُ هُبَيرةَ في كتابِ "الإيضاحِ في شَرحِ الصِّحاحِ" أنَّ أهلَ السُّنَّةِ يَحكُونَ أنَّ النُّطقَ بإثباتِ الصِّفاتِ وأحاديثِها يَشتَمِلُ على كَلِماتٍ مُتداوِلاتٍ بين الخالِقِ وخَلْقِه، وتحَرَّجوا من أن يَقولوا مُشتَرِكة؛ لأنَّ الله تعالى لا شَريكَ له، بل لله المَثَلُ الأعلى، وذلك هو قياسُ الأَولى والأَحرى؛ فكُلُّ ما ثبت للمخلوقِ مِن صِفاتِ الكَمالِ فالخالِقُ أحَقُّ به وأَولى وأَحرى به منه؛ لأنَّه أكمَلُ منه، ولأنَّه هو الذي أعطاه ذلك الكَمالَ، فالمُعطي الكَمالَ لِغَيرِه أَولى بأن يكونَ هو موصوفًا به... وكذلك ما كان منتفيًا عن المخلوقِ؛ لكَونِه نَقصًا وعيبًا، فالخالِقُ هو أحَقُّ بأن يُنَزَّه عن ذلك) [1104] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) (2/348). .
وقال أيضًا: (قياسُ الأَولى، وهو الذي جاء به الكِتابُ والسُّنَّةُ؛ فإنَّ اللهَ لا يُماثِلُ غَيرَه في شَيءٍ مِن الأشياءِ حتى يتساويا في حُكمِ القياسِ، بل هو سُبحانَه أحَقُّ بكُلِّ حمدٍ، وأبعَدُ عن كُلِّ ذَمٍّ، فما كان من صِفاتِ الكَمالِ المحضةِ التي لا نَقْصَ فيها بوَجهٍ مِنَ الوُجوهِ، فهو أحَقُّ به من كُلِّ ما سِواه، وما كان من صِفاتِ النَّقص ِفهو أحَقُّ بتنزيهِه عنه من كُلِّ ما سِواه) [1105] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/ 154). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (الرَّبُّ تعالى لا يَدخُلُ مع خَلْقِه في قياسِ تمثيلٍ، ولا قياسِ شُمولٍ يستوي أفرادُه، فهذان النَّوعانِ مِن القياسِ يَستحيلُ ثُبوتُهما في حَقِّه، وأمَّا قياسُ الأَولى فهو غيرُ مُستحيلٍ في حَقِّه، بل هو واجِبٌ له، وهو مُستعمَلٌ في حَقِّه عَقلًا ونَقلًا؛ أمَّا العَقلُ فكاستِدلالِنا على أنَّ مُعطيَ الكَمالِ أحَقُّ بالكمالِ، فمَن جَعَل غَيرَه سَميعًا بصيرًا عالِمًا متكَلِّمًا حَيًّا حكيمًا قادِرًا مريدًا رحيمًا مُحسِنًا، فهو أَولى بذلك وأحَقُّ منه، ويَثبُتُ له من هذه الصِّفاتِ أكمَلُها وأتمُّها.
وهذا مُقتَضى قَولِهم: «كمالُ المعلولِ مُستفادٌ مِن كمالِ عِلَّتِه»، ولكِنْ نحن نُنَزِّهُ اللهَ عزَّ وجَلَّ عن إطلاقِ هذه العبارةِ في حَقِّه، بل نقول: كُلُّ كمالٍ ثَبَت للمخلوقِ غيرِ مُستلزمٍ للنَّقصِ فخالِقُه ومُعطيه إيَّاه أحَقُّ بالاتِّصافِ به، وكُلُّ نَقصٍ في المخلوقِ فالخالِقُ أحَقُّ بالتنَزُّهِ عنه؛ كالكَذِبِ والظُّلمِ والسَّفَهِ والعَبَثِ، بل يجِبُ تنزيهُ الرَّبِّ تعالى عن النَّقائِصِ والعُيوبِ مُطلقًا، وإن لم يتنَزَّهْ عنها بعضُ المخلوقينَ.
وكذلك إذا استدَلْلنا على حِكمتِه تعالى بهذه الطَّريقِ، نحوُ أن يقالَ: إذا كان الفاعِلُ الحكيمُ الذي لا يَفعَلُ فِعلًا إلَّا لحِكمةٍ وغايةٍ مطلوبةٍ له من فِعْلِه؛ أكمَلَ مِمَّن يَفعَلُ لا لغايٍة ولا لحكمةٍ ولا لأجْلِ عاقبةٍ محمودةٍ، وهي مطلوبةٌ مِن فِعْلِه في الشَّاهِدِ، ففي حَقِّه تعالى أَولى وأَحرى، فإذا كان الفِعلُ للحِكمةِ كَمالًا فينا، فالرَّبُّ تعالى أَولى به وأحَقُّ، وكذلك إذا كان التنَزُّهُ عن الظُّلمِ والكَذِبِ كَمالًا في حَقِّنا، فالرَّبُّ تعالى أَولى وأحَقُّ بالتنَزُّهِ عنه) [1106] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 1050). .
وقال السَّعْديُّ: (أهْلُ العِلْمِ يَستَعمِلونَ في حَقِّ الباري قياسَ الأَولى، فيَقولونَ: كُلُّ صِفةِ كَمالٍ في المخلوقاتِ، فخالِقُها أحَقُّ بالاتِّصافِ بها على وَجهٍ لا يُشارِكُه فيها أحدٌ، وكُلُّ نَقصٍ في المخلوقِ يُنَزَّهُ عنه، فتنزيهُ الخالِقِ عنه من بابِ أَولى وأَحْرى) [1107] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 640). .  
أوَّلًا: استِعمالُ قياسِ الأَولى في الإثباتِ
كُلُّ كَمالٍ ثَبَت للمخلوقِ فالخالِقُ أَولى به منه [1108] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/81). . ولكِنْ يُشتَرَطُ في هذا الكَمالِ:
1- ألَّا يكونَ فيه نَقصٌ بوَجهٍ مِنَ الوُجوهِ، فمَثَلًا القُدرةُ على إنجابِ الوَلَدِ كمالٌ في حَقِّ المخلوقِ، ولكِنْ ليست كمالًا مُطلَقًا؛ لأنَّ الوالِدَ مُحتاجٌ إلى وَلَدِه، ولا يستغني عنه، واللهُ تعالى غَنِيٌّ عن كُلِّ أحَدٍ، كما قال: قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ [يونس: 68] .
2- ألَّا يكونَ مُستَلزِمًا للعَدَمِ، فهذا لا يوصَفُ اللهُ به، والواجِبُ وَصْفُه سُبحانَه بصِفاتٍ كامِلةٍ وُجوديَّةٍ، لا صِفاتٍ مُستَلزِمةٍ للعَدَمِ [1109] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (4/338). .
ويُمكِنُ الاستِدلالُ لقاعدةِ استعمالِ قياسِ الأَولى في الإثباتِ بالآتي:
1- قَولُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأصحابِه: ((أَتُرونَ هذه المرأةَ طارِحةً ولَدَها في النَّارِ؟ قُلْنا لا واللهِ، وهي تَقدِرُ على ألَّا تَطرَحَه، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: للهُ أرحَمُ بعبادِه مِن هذه بوَلَدِها )) [1110] أخرجه البخاري (5999)، ومسلم (2754) من حديثِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
2- قَولُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأبي مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه لَمَّا ضَرَب مملوكَه: ((اعلَمْ أبا مَسعودٍ أنَّ اللهَ أقدَرُ عليكَ منك على هذا الغُلامِ )) [1111] أخرجه مسلم (1659) من حديثِ أبي مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
3- قَولُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((للهُ أفرَحُ بتوبةِ عَبدِه مِن أحَدِكم يَجِدُ ضالَّتَه بالفَلاةِ )) [1112] أخرجه البخاري، (6308) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ومسلم (2675) واللَّفظُ له، من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
ثانيًا: استِعمالُ قياسِ الأَولى في التَّنزيهِ
كلُّ نَقصٍ وعَيبٍ يُنزَّه عنه المخلوقُ، فتَنزيهُ الخالِقِ عنه أَوْلى وأَحْرى [1113] انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/29). .
ومِثلُ ذلك قَولُ اللهِ تعالى: ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 28] .
وعن قتادةَ في قَولِه تعالى: ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّْن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ [الروم: 28] قال: (مَثَلٌ ضَرَبه اللهُ لِمن عَدَل به شيئًا مِن خَلْقِه، يَقولُ: أكان أحَدُكم مشارِكًا مملوكَه في فِراشِه وزَوجتِه، فكذلكم اللهُ لا يرضى أن يُعدَلَ به أحَدٌ مِن خَلْقِه) [1114] أخرجه الطبري في ((التفسير)) (20/95). .   
قال ابنُ تَيميَّةَ: (يَقولُ تعالى: إذا كُنتُم أنتم لا تَرضَونَ بأنَّ المملوكَ يُشارِكُ مالِكَه؛ لِما في ذلك من النَّقصِ والظُّلمِ، فكيف تَرضَونَ ذلك لي وأنا أحَقُّ بالكَمالِ والغِنى منكم؟!... فكُلُّ كَمالٍ ثَبَت للمَخلوقِ فالخالِقُ أحَقُّ بثُبوتِه منه إذا كان مجرَّدًا عن النَّقصِ، وكُلُّ ما يُنَزَّهُ عنه المخلوقُ مِن نَقصٍ وعَيبٍ فالخالِقُ أَولى بتنزيهِه عنه) [1115] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/80). .
وقال السَّعْديُّ: (هذا مَثَلٌ ضَرَبه اللهُ تعالى لقُبحِ الشِّرْكِ وتهجينِه مَثَلًا مِن أنفُسِكم لا يحتاجُ إلى حِلٍّ وتَرحالٍ وإعمالِ الجِمالِ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ أي: هل أحَدٌ مِن عَبيدِكم وإمائِكم الأرِقَّاءِ يُشارِكُكم في رِزْقِكم، وتَرَون أنَّكم وهم فيه على حَدٍّ سواءٍ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي: كالأحرارِ الشُّرَكاءِ في الحقيقةِ الذين يخافُ مِن قَسْمِه واختِصاصِ كُلِّ شَيءٍ بحالِه؟ ليس الأمرُ كذلك؛ فإنَّه ليس أحدٌ مِمَّا ملكت أيمانُكم شريكًا لكم فيما رَزَقَكم اللهُ تعالى. هذا، ولستُم الذين خلَقْتُموهم ورَزَقْتُموهم، وهم أيضًا مماليكُ مِثْلُكم، فكيف تَرضَونَ أن تَجعَلوا لله شَريكًا مِن خَلْقِه وتَجعَلونَه بمَنزلتِه، وعديلًا له في العبادِة، وأنتم لا تَرضَونَ مُساواةَ مماليكِكم لكم؟! هذا من أعجَبِ الأشياءِ، ومِن أدَلِّ شيءٍ على سَفَهِ مَن اتَّخَذ شريكًا مع اللهِ، وأنَّ ما اتخَذَه باطِلٌ مُضمَحِلٌّ ليس مساويًا لله، ولا له مِنَ العبادةِ شَيءٌ. كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ بتوضيحِها بأمثِلَتِها لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ الحقائِقَ ويَعرِفونَ، وأمَّا من لا يَعقِلُ فلو فَصَّلْتَ له الآياتِ وبَيَّنْتَ له البَيِّناتِ لم يكُنْ له عَقلٌ يُبصِرُ به ما تُبَيِّنُ، ولا لُبٌّ يَعقِلُ به ما تُوضِّحُ؛ فأهلُ العُقولِ والألبابِ هم الذين يُساقُ إليهم الكلامُ، ويُوَجَّهُ الخِطابُ) [1116] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 640). .
وطريقةُ قياسِ الأَولى في التَّنزيهِ قد استخدَمَها عَدَدٌ من أهْل العِلْمِ؛ منهم أحمدُ بنُ حَنبلٍ، ومِن ذلك: قَولُه: (أخبَرَنا أنَّه في السَّماءِ، ووجَدْنا كُلَّ شَيءٍ أسفَلَ منه مذمومًا بقَولِ اللهِ جَلَّ ثناؤه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145] ، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ [فصلت: 29] ) [1117] يُنظر: ((الرد على الجهمية والزنادقة)) (ص: 147). .
قال ابنُ تَيميَّةَ مُعَلِّقًا على كلامِ أحمَدَ: (هذه الحُجَّةُ مِن بابِ قياسِ الأَولى، وهو أنَّ السُّفلَ مذمومٌ في المخلوقِ؛ حيث جَعَل اللهُ أعداءَهُ في أسفَلِ سافلينَ، وذلك مُستَقِرٌّ في فِطَرِ العِبادِ، حتى إنَّ أتباعَ المضِلِّينَ طَلَبوا أن يَجعَلوهم تحتَ أقدامِهم؛ لِيَكونوا من الأسفَلينَ، وإذا كان هذا مِمَّا يُنَزَّهُ عنه المخلوقُ، ويُوصَفُ به المذمومُ المَعِيبُ مِن المخلوقِ؛ فالربُّ تعالى أحَقُّ أن يُنَزَّهَ ويُقَدَّسَ عن أن يكونَ في السُّفلِ، أو يكونَ مَوصوفًا بالسُّفلِ هو أو شَيءٌ منه، أو يَدخُلَ ذلك في صِفاتِه بوَجهٍ مِنَ الوُجوهِ، بل هو العَلِيُّ الأعلى بكُلِّ وَجهٍ) [1118] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) (5/99). .
وقال أحمَدُ أيضًا: (ومِنَ الاعتبارِ في ذلك، لو أنَّ رَجُلًا كان في يَدَيه قَدحٌ مِن قواريرَ صافٍ، وفيه شَرابٌ صافٍ، كان بَصَرُ ابنِ آدمَ قد أحاط بالقَدَحِ مِن غيرِ أن يكونَ ابنُ آدَمَ في القَدَحِ، فاللهُ -وله المثَلُ الأعلى- قد أحاط بجَميعِ خَلْقِه، من غيرِ أن يكونَ في شَيءٍ مِن خَلْقِه) [1119] يُنظر: ((الرد على الجهمية والزنادقة)) (ص: 149). .
قال ابنُ تَيميَّةَ مُعَلِّقًا على ذلك: (ذَكَر الإمامُ أحمَدُ حُجَّةً اعتباريَّةً عقليَّةً قياسيَّةً لإمكانِ ذلك، هي من بابِ الأَولى... فضَرَب أحمَدُ رحمه اللهُ مثلًا، وذكَرَ قياسًا، وهو أنَّ العَبدَ إذا أمكَنَه أن يُحيطَ بَصَرُه بما في يَدِه وقَبْضَتِه، مِن غيرِ أن يكونَ داخِلًا فيه ولا مُحايثًا له؛ فاللهُ سُبحانَه أَولى باستحقاقِ ذلك واتِّصافِه به، وأحَقُّ بألَّا يكونَ ذلك ممتَنِعًا في حَقِّه، وذِكْرُ أحمَدَ في ضِمنِ هذا القياسِ لِقَولِ اللهِ تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [الروم: 27] مُطابِقٌ لِما ذكَرْناه مِن أنَّ اللهَ له قياسُ الأَوْلى والأَحْرى بالمَثَلِ الأعلى؛ إذ القياسُ الأَولى والأَحرى هو مِنَ المثَلِ الأعلى، وأمَّا المثَلُ المساوي أو النَّاقِصُ فليس للهِ بحالٍ؛ ففي هذا الكلامِ الذي ذكَرَه واستِدلالِه بهذه الآيةِ: تحقيقٌ لِما قَدَّمْناه من أنَّ الأقيِسةَ في بابِ صِفاتِ اللهِ، وهي أقيِسةُ الأَولى، كما ذَكَرَه مِن هذا القياسِ؛ فإنَّ العَبدَ إذا كان هذا الكَمالُ ثابتًا له، فاللهُ الذي له المَثَلُ الأعلى أحَقُّ بذلك) [1120] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) (5/108). .

انظر أيضا: