الموسوعة العقدية

المَطلَبُ الثَّاني: مَسائِلُ الأسماءِ والصِّفاتِ تُؤخَذُ مِن أدِلَّةِ الشَّرعِ كُلِّها بلا تفريقٍ، فتؤخَذُ مِن القُرآنِ، ومِنَ الحَديثِ بقِسْمَيه المتواتِرِ والآحادِ، المتلَقَّاةِ بالقَبولِ

هذا أصلٌ يجِبُ التنَبُّهُ إليه، وهو أنَّ مَسائِلَ الاعتقادِ -ومنها مسائِلُ الأسماءِ والصِّفاتِ- تُؤخَذُ من أدِلَّةِ الشَّرعِ كُلِّها بلا تفريقٍ، فتُؤخَذُ مِنَ القُرآنِ، ومن الحَديثِ بقِسمَيه المتواتِرِ والآحادِ، المتلَقَّاةِ بالقَبولِ. وعلى هذا كان الصَّحابةُ والتَّابِعونَ ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ، فخَبَرُ الواحِدِ المتلقَّى بالقَبولِ يُفيدُ العِلْمَ والعَمَلَ، ومِمَّا يَدُلُّ على ذلك أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا بَعَثَ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنه إلى أهْلِ اليَمَنِ، قالَ له: ((إنَّكَ تَقْدَمُ علَى قَوْمٍ مِن أهْلِ الكِتاب، فَلْيَكُنْ أوَّلَ ما تَدْعُوهم إلى أنْ يُوَحِّدُوا اللهَ تعالى ... )) [1013] أخرجه البخاري (7372)، واللَّفظُ له، ومسلم (19).
وفي حديثِ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ أَهْلَ اليَمَنِ قَدِمُوا علَى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالوا: ابْعَثْ معنا رَجُلًا يُعَلِّمْنَا السُّنَّةَ والإسلامَ، قال: فأخَذَ بيَدِ أبي عُبَيدةَ فقال: هذا أمِينُ هذه الأُمَّةِ)) [1014] أخرجه مسلم (2419). .
قال الشَّافِعيُّ: (لا يُبعَثُ بأمرِه إلَّا والحُجَّةُ للمَبعوثِ إليهم وعليهم قائِمةٌ بقَبولِ خَبَرِه عن رَسولِ اللهِ) [1015] يُنظر: ((الرسالة)) (ص: 405). .
وقال أيضًا: (فإنْ قال قائِلٌ: اذكُرِ الحُجَّةَ في تثبيتِ خبَرِ الواحدِ بنَصِّ خَبَرٍ، أو دَلالةٍ فيه، أو إجماعٍ.
فقُلتُ له: أخبَرَنا سُفيانُ عن عبدِ المَلِكِ بنِ عُمَيرٍ عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ عن أبيه أنَّ النَّبيَّ قال: ((نَضَّر اللهُ عبدًا سَمِعَ مَقالتي فحَفِظَها ووَعاها وأدَّاها، فرُبَّ حامِلِ فِقهٍ غَيرُ فقيهٍ، ورُبَّ حامِلِ فِقهٍ إلى مَن هو أفقَهُ منه )) [1016] أخرجه مُطَوَّلًا الترمذي (2658)، والشافعي في ((المسند)) (1806) واللَّفظُ له، والحميدي (88).  صَحَّحه ابنُ حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/364)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2658)، وصَحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح السنة)) (112) ... فلمَّا نَدَب رَسولُ اللهِ إلى استِماعِ مَقالتِه وحِفْظِها وأدائِها امرَأً يُؤَدِّيها، والمرءُ واحِدٌ- دَلَّ على أنَّه لا يأمُرُ أن يُؤدَّى عنه إلَّا ما تقومُ به الحُجَّةُ على من أدَّى إليه؛ لأنَّه إنَّما يُؤدَّى عنه حلالٌ، وحرامٌ يُجتَنَبُ، وحَدٌّ يُقامُ، ومالٌ يُؤخَذُ ويُعطى، ونصيحةٌ في دِينٍ ودُنيا) [1017] يُنظر: ((الرسالة)) (ص: 401- 403).
وقال الشَّافِعيُّ أيضًا: (لو جاز لأحَدٍ مِنَ النَّاسِ أن يقولَ في عِلمِ الخاصَّةِ: أجْمعَ المسلِمونَ قديمًا وحديثًا على تثبيتِ خبَرِ الواحِدِ، والانتهاءِ إليه، بأنَّه لم يُعلَمْ مِن فُقَهاءِ المسلمينَ أحَدٌ إلَّا وقد ثَبَّتَه- جاز لي. ولكن أقولُ: لم أحفَظْ عن فُقَهاءِ المسلِمينَ أنَّهم اختَلَفوا في تثبيتِ خَبَرِ الواحِدِ) [1018] يُنظر: ((الرسالة)) (ص: 457). .
وعن العَبَّاسِ بنِ محمَّدٍ الدُّوريِّ قال: سَمِعتُ أبا عُبَيدٍ القاسِمَ بنَ سَلامٍ، وذكَرَ البابَ الذي يَروي فيه الرُّؤيةَ والكُرسيَّ ومَوضِعَ القدَمينِ، وضَحِكَ رَبِّنا مِن قُنوطِ عِبادِه وقُربِ غِيَرِه، وأين كان رَبُّنا قبل أن يَخلُقَ السَّماءَ، وأنَّ جَهنَّمَ لا تمتلِئُ حتى يضَعَ رَبُّك عزَّ وجَلَّ قَدَمَه فيها، فتقولُ: قَطْ قَطْ، وأشباهَ هذه الأحاديثِ، فقال: (هذه الأحاديثُ صِحَاحٌ، حمَلَها أصحابُ الحَديثِ والفُقَهاءُ بعضُهم عن بعضٍ، وهي عندنا حَقٌّ لا نَشُكُّ فيها، ولكِنْ إذا قيل: كيف وَضَعَ قَدَمَه؟ وكيف ضَحِكَ؟ قُلْنا: لا يُفَسَّرُ هذا، ولا سَمِعْنا أحَدًا يُفَسِّرُه) [1019] يُنظر: ((الصفات)) للدارقطني (ص: 39). ويُنظر: ((الصفات الإلهية)) لمحمد أمان الجامي (ص: 37)، ((منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى)) لخالد عبد اللطيف (2/443). .
وقال ابنُ خُزَيمةَ: (لا نَصِفُ مَعبودَنا إلَّا بما وصَفَ به نَفْسَه، إمَّا في كتابِ اللهِ، أو على لسانِ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بنَقلِ العَدلِ عن العَدلِ موصولًا إليه، لا نحتجُّ بالمراسيلِ، ولا بالأخبارِ الواهيةِ، ولا نحتَجُّ أيضًا في صفاتِ مَعبودِنا بالآراءِ والمقاييسِ) [1020])) يُنظر: ((التوحيد)) (1/ 135). .
وقال الخَطَّابيُّ: (الأصلُ أنَّ كُلَّ صِفةٍ جاء بها الكِتابُ أو صَحَّت بأخبارِ التَّواتُرِ، أو رُوِيَت من طريقِ الآحادِ، وكان لها أصلٌ في الكِتابِ، أو خَرَجَت على بَعضِ معانيه؛ فإنَّا نَقولُ بها ونُجْريها على ظاهرِهِا مِن غيرِ تكييفٍ) [1021] يُنظر: ((أعلام الحديث)) (3/ 1911). .
وقال أبو نَصرٍ السجزيُّ: (لا يجوزُ أن يُوصَفَ اللهُ سُبحانَه إلَّا بما وصف به نَفْسَه، أو وصفه به رسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وذلك إذا ثبت الحديثُ، ولم يَبْقَ شُبهةٌ في صِحَّتِه، فأمَّا ما عدا ذلك من الرِّواياتِ المعلولةِ، والطُّرُقِ الواهيةِ، فلا يجوزُ أن يُعتَقَدَ في ذاتِ اللهِ سُبحانَه ولا في صفاتِه ما يوجَدُ فيها، باتِّفاقِ العُلَماءِ للأثَرِ) [1022])) يُنظر: ((رسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت)) (ص: 178-180). .
وقال الخطيبُ البغداديُّ: (على العَمَلِ بخَبَرِ الواحِدِ كان كافَّةُ التَّابعينَ ومَن بَعْدَهم مِنَ الفُقَهاءِ الخالِفينَ، في سائِرِ أمصارِ المُسلِمينَ إلى وَقْتِنا هذا، ولم يبلُغْنا عن أحَدٍ منهم إنكارٌ لذلك ولا اعتراضٌ عليه؛ فثَبَت أنَّ مِن دِينِ جَميعِهم وُجوبَه؛ إذ لو كان فيهم من كان لا يَرى العَمَلَ به لنُقِلَ إلينا الخَبَرُ عنه بمَذْهَبِه فيه) [1023] يُنظر: ((الكفاية في علم الرواية)) (ص: 31). .
وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: (كُلُّهم أي: أهلُ الفِقهِ والأثَرِ يَدِينُ بخَبَرِ الواحِدِ العَدْلِ في الاعتقاداتِ، ويُعادي ويوالي عليها، ويجعَلُها شَرْعًا ودينًا في مُعتَقَدِه، على ذلك جماعةُ أهلِ السُّنَّةِ) [1024] يُنظر: ((التمهيد)) (1/8). .
وقال السَّمعانيُّ: (إنَّ الخَبَرَ إذا صَحَّ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ورواه الثِّقاتُ والأئِمَّةُ، وأسنَدَه خَلَفُهم عن سَلَفِهم إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتلَقَّتْه الأُمَّةُ بالقَبولِ؛ فإنَّه يُوجِبُ العِلْمَ فيما سَبيلُه العِلْمُ. هذا قَولُ عامَّةِ أهلِ الحَديثِ والمُتقِنينَ مِنَ القائِمينَ على السُّنَّةِ، وإنَّما هذا القَولُ الذي يذكرُ أنَّ خَبَرَ الواحِدِ لا يُفيدُ العِلْمَ بحالٍ، ولا بُدَّ مِن نَقْلِه بطَريقِ التَّواتُرِ؛ لوُقوعِ العِلْمِ به- شَيءٌ اختَرَعَته القَدَريَّةُ والمُعْتَزِلةُ، وكان قَصْدُهم منه رَدَّ الأخبارِ، وتَلَقَّفَه منهم بعضُ الفُقَهاءِ الذين لم يَكُنْ لهم في العِلْمِ قَدَمٌ ثابِتٌ، ولم يَقِفوا على مَقصودِهم من هذا القَولِ) [1025] يُنظر: ((الانتصار لأصحاب الحديث)) (ص: 34). .
وقال ابنُ أبي الخيرِ العِمرانيُّ الشَّافعيُّ: (إذا جاز الاستِدلالُ بأخبارِ الآحادِ في جَلْدِ الإنسانِ، وضَرْبِ الرِّقابِ، وتحليلِ الفُروجِ وتحريمِها؛ جاز الاستدلالُ بها في الأُصولِ) [1026] يُنظر: ((الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار)) (1/ 192). .
وقال ابنُ الموصِليِّ: (انعِقادُ الإجماعِ المَعْلُومُ المتيَقَّنُ على قَبولِ هذه الأحاديثِ، وإثباتِ صِفاتِ الرَّبِّ تعالى بها، فهذا لا يَشُكُّ فيه من له أقَلُّ خِبرةٍ بالمَنقولِ؛ فإنَّ الصَّحابةَ هم الذين رَوَوا هذه الأحاديثَ، وتلَقَّاها بَعضُهم عن بعضٍ بالقَبولِ، ولم يُنكِرْها أحَدٌ منهم على مَن رواها، ثمَّ تلَقَّاها عنهم جميعُ التَّابِعينَ مِن أوَّلِهم إلى آخِرِهم، ومَن سَمِعَها منهم تلقَّاها بالقَبولِ والتَّصديقِ لهم، ومَن لم يسمَعْها منهم تلَقَّاها عن التَّابعينَ كذلك، وكذلك تابِعُ التَّابعينَ مع التَّابعينَ.
هذا أمرٌ يَعلَمُه ضَرورةً أهلُ الحديثِ، كما يَعلَمونَ عَدالةَ الصَّحابةِ وصِدْقَهم وأمانَتَهم ونَقْلَهم ذلك عن نَبيِّهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كنَقْلِهم الوُضوءَ والغُسلَ مِنَ الجَنابةِ، وأعدادَ الصَّلَواتِ وأوقاتَها، ونَقْلِ الأذانِ والتشَهُّدِ والجُمُعةِ والعِيدَينِ؛ فإنَّ الذين نَقَلوا هذا هم الذين نَقَلوا أحاديثَ الصِّفاتِ، فإن جاز عليهم الخَطَأُ والكَذِبُ في نَقْلِها، جاز عليهم ذلك في نَقْلِ غَيرِها مِمَّا ذكَرْنا، وحينَئذٍ فلا وُثوقَ لنا بشَيءٍ نُقِلَ لنا عن نَبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم البتَّةَ، وهذا انسِلاخٌ مِنَ الدِّينِ والعِلْمِ والعَقلِ! على أنَّ كثيرًا مِنَ القادِحينَ في دينِ الإسلامِ قد طَرَدوا وقالوا: لا وُثوقَ لنا بشَيءٍ مِن ذلك البتَّةَ!) [1027] يُنظر: ((مختصر الصواعق المرسلة)) (ص: 605). .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (خَبَرُ الواحِدِ إذا تلقَّتْه الأُمَّةُ بالقَبولِ عَمَلًا به وتَصديقًا له: يفيدُ العِلْمَ اليَقينيَّ عند جماهيرِ الأُمَّةِ، وهو أحَدُ قِسْمَيِ المتواتِرِ، ولم يكُنْ بيْن سَلَفِ الأُمَّةِ في ذلك نِزاعٌ... وكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُرسِلُ رُسُلَه آحادًا، ويُرسِلُ كُتُبَه مع الآحادِ، ولم يكُنِ المُرسَلُ إليهم يقولونَ: لا نَقبَلُه لأنَّه خَبَرُ واحدٍ! وقد قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التَّوبة: 33] . فلا بُدَّ أن يَحفَظَ اللهُ حُجَجَه وبَيِّناتِه على خَلْقِه؛ لئلَّا تَبطُلَ حُجَجُه وبيِّناتُه؛ ولهذا فَضَح اللهُ مَن كَذَب على رَسولِه في حياتِه وبعد وَفاتِه، وبَيَّن حالَه للنَّاسِ؛ قال سُفيانُ بنُ عُيَينةَ: ما سَتَرَ اللهُ أحدًا يَكذِبُ في الحديثِ. وقال عبدُ اللهِ بنُ المبارَكِ: لو هَمَّ رَجُلٌ في البَحرِ أن يَكذِبَ في الحَديثِ، لأصبَحَ والنَّاسُ يقولون: فلانٌ كَذَّابٌ!
وخبَرُ الواحدِ وإن كان يحتَمِلُ الصِّدقَ والكَذِبَ ولكِنَّ التَّفريقَ بين صَحيحِ الأخبارِ وسَقيمِها لا ينالُه أحَدٌ إلَّا بعد أن يكونَ مُعظَمَ أوقاتِه مُشتَغِلًا بالحديثِ، والبَحثِ عن سِيرةِ الرُّواةِ؛ لِيَقِفَ على أحوالِهم وأقوالِهم، وشِدَّةِ حَذَرِهم من الطُّغيانِ والزَّلَلِ، وكانوا بحيثُ لو قُتِلوا لم يسامِحوا أحَدًا في كَلِمةٍ يتقَوَّلُها على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا فَعَلوا هم بأنْفُسِهم ذلك. وقد نَقَلوا هذا الدِّين إلينا كما نُقِلَ إليهم، فهم يَزَكُ الإسلامِ وعِصابةُ الإيمانِ، وهم نُقَّادُ الأخبارِ، وصيارِفةُ الأحاديثِ، فإذا وَقَف المرءُ على هذا مِن شأنِهم، وعَرَف حالَهم، وخَبَرَ صِدْقَهم ووَرَعَهم وأمانَتَهم؛ ظهَرَ له العِلْمُ فيما نَقَلوه ورَوَوه.
ومَن له عَقلٌ ومَعرفةٌ يَعلَمُ أنَّ أهلَ الحديثِ لهم من العِلْمِ بأحوالِ نبيِّهم وسِيرتِه وأخبارِه، ما ليس لغيرِهم به شعورٌ، فَضلًا أن يكونَ مَعْلُومًا لهم أو مظنونًا، كما أنَّ النُّحاةَ عِندَهم مِن أخبارِ سِيبوَيهِ والخَليلِ وأقوالِهما ما ليس عند غَيرِهم، وعند الأطِبَّاءِ مِن كَلامِ بقراطَ وجالينوسَ ما ليس عند غَيرِهم، وكُلُّ ذي صَنعةٍ هو أخبَرُ بها من غَيرِه، فلو سألْتَ البَقَّالَ عن أمرِ العِطْرِ، أو العَطَّارَ عن البَزِّ، ونحوِ ذلك، لعُدَّ ذلك جهلًا كثيرًا) [1028] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/ 501- 503). .
وقال الفتوحيُّ: (يُعمَلُ بآحادِ الأحاديثِ في أُصولِ الدِّياناتِ، وحكى ذلك ابنُ عبدِ البَرِّ إجماعًا. قال الإمامُ أحمَدُ رَضِيَ اللهُ عنه: لا نتعَدَّى القُرآنَ والحَديثَ) [1029] يُنظر: ((مختصر التحرير شرح الكوكب المنير)) (2/ 352). ويُنظر كلام ابن عبد البر في ((التمهيد)) (1/ 8).
وقال محمَّدُ بنُ إبراهيمَ آل الشَّيخِ: (الرَّاجِحُ أنَّ العِلْمَ قد يحصُلُ بغيرِ المتواترِ وبغيرِ الحواسِّ الخَمسِ وبغيرِ البديهيَّاتِ؛ فأخبارُ الآحادِ اذا حُفَّت بها القرائِنُ، أفادت العِلْمَ، ليس الظَّنَّ فقط، من ذلك بَعْثُ مُعاذٍ وقيامُ الحُجَّةِ به على مَن أخبَرَهم) [1030] يُنظر: ((فتاوى محمد بن إبراهيم)) (2/ 11).
وقال الشِّنقيطيُّ مُبَيِّنًا أنَّ الأصلَ في هذا البابِ الإيمانُ بما في الكتابِ والسُّنَّة: (الثَّاني من هذه الأُسُسِ في بابِ الأسماءِ والصِّفاتِ: هو الإيمانُ بما وصف اللهُ به نَفْسَه؛ لأنَّه لا يَصِفُ اللهَ أعلَمُ باللهِ مِن اللهِ ءَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة: 140] ، والإيمانُ بما وصفه به رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذي قال في حَقِّه: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3-4] ، فيلزمُ كُلَّ مُكَلَّفٍ أن يؤمِنَ بما وصف اللهُ به نَفْسَه، أو وصفه به رسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [1031])) يُنظر: ((منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات)) (ص: 10). .
وقال أيضًا: (اعلَمْ أنَّ التحقيقَ الذي لا يجوزُ العُدولُ عنه أنَّ أخبارَ الآحادِ الصَّحيحةَ كما تُقبَلُ في الفروعِ تُقبَلُ في الأصولِ، فما ثبت عن النبيِّ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم بأسانيدَ صحيحةٍ من صِفاتِ اللهِ يجبُ إثباتُه واعتقادُه على الوَجهِ اللَّائقِ بكَمالِ اللهِ وجَلالِه، على نحو: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وبهذا تعلَمُ أنَّ ما أطبق عليه أهلُ الكلامِ ومن تَبِعَهم من أنَّ أخبارَ الآحادِ لا تُقبَلُ في العقائِدِ، ولا يَثبُتُ بها شيءٌ من صِفاتِ اللهِ، زاعمين أنَّ أخبارَ الآحادِ لا تفيدُ اليقينَ، وأنَّ العقائِدَ لا بدَّ فيها من اليقينِ: باطِلٌ لا يُعَوَّلُ عليه، ويكفي من ظهورِ بُطلانِه أنَّه يستلزمُ رَدَّ الرِّواياتِ الصَّحيحةِ الثَّابتةِ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمجَرَّدِ تحكيمِ العقلِ، والعقولُ تتضاءل أمامَ عَظَمةِ صِفاتِ اللهِ) [1032])) يُنظر: ((مذكرة في أصول الفقه)) (ص: 124). .
وقال ابنُ باز: (خَبَرُ الآحادِ حُجَّةٌ في العقيدةِ وغَيرِها، عند أهلِ السُّنَّةِ، إذا صَحَّ سَنَدُه) [1033] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (25/ 62). .
وقال أيضًا: (لم يَزَلْ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَبعَثُ الواحِدَ والاثنينِ وأكثَرَ مِن ذلك دُعاةً ومُبَلِّغين للإسلامِ وأحكامِ الشَّريعةِ، ولو كان ذلك لا تقومُ به الحُجَّةُ لم يَفعَلْه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولم يَزَلْ أصحابُه رَضِيَ اللهُ عنهم يَعمَلونَ بخبَرِ الآحادِ ويحتَجُّونَ به في العقائِدِ والأحكامِ، ولا نَعلَمُ أنَّ أحدًا منهم أنكَرَ ذلك) [1034] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (25/ 300). .  
وقال ابنُ عُثَيمين: (جوابُنا على من يرى أنَّ أحاديثَ الآحادِ لا تَثبُتُ بها العقيدةُ؛ لأنَّها تُفيدُ الظَّنَّ، والظَّنُّ لا تُبنى عليه العقيدةُ: أن نقولَ:
هذا رأيٌ غيرُ صوابٍ؛ لأنَّه مَبنيٌّ على غيرِ صوابٍ، وذلك من عِدَّةِ وُجوهٍ:
1 - القَولُ بأنَّ حديثَ الآحادِ لا يُفيدُ إلَّا الظَّنَّ ليس على إطلاقِه، بل في أخبارِ الآحادِ ما يفيدُ اليَقينَ إذا دَلَّت القرائِنُ على صِدْقِه، كما إذا تلقَّتْه الأُمَّةُ بالقَبولِ، مِثلُ حَديثِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه «إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ»؛ فإنَّه خَبَرُ آحادٍ، ومع ذلك فإنَّنا نعلَمُ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قاله، وهذا ما حَقَّقه شَيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميَّةَ والحافِظُ ابنُ حَجَرٍ وغَيرُهما.
2 - أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُرسِلُ الآحادَ بأصولِ العَقيدةِ: شَهادةِ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ محمَّدًا رَسولُ اللهِ. وإرسالُه حُجَّةٌ مُلزِمةٌ، كما بَعَث مُعاذًا إلى اليَمَنِ، واعتَبَرَ بَعْثَه حُجَّةً مُلزِمةً لأهلِ اليَمَنِ بقَبولِه.
3 - إذا قُلْنا بأنَّ العقيدةَ لا تَثبُتُ بأخبارِ الآحادِ، أمكَنَ أن يُقالَ: والأحكامُ العَمَليَّةُ لا تَثبُتُ بأخبارِ الآحادِ؛ لأنَّ الأحكامَ العَمَليَّةَ يَصحَبُها عَقيدةٌ؛ أنَّ اللهَ تعالى أمَرَ بهذا أو نهى عن هذا، وإذا قُبِلَ هذا القَولُ تعطَّل كثيرٌ مِن أحكامِ الشَّريعةِ، وإذا رُدَّ هذا القَولُ فلْيُرَدَّ القولُ بأنَّ العقيدةَ لا تَثبُتُ بخبرِ الآحادِ؛ إذ لا فَرْقَ، كما بَيَّنَّا.
4 - أنَّ اللهَ تعالى أمَرَ بالرُّجوعِ إلى قَولِ أهْلِ العِلْمِ لِمن كان جاهِلًا فيما هو مِن أعظَمِ مَسائِلِ العقيدةِ، وهي الرِّسالةُ، فقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ [النحل: 43، 44]، وهذا يَشمَلُ سُؤالَ الواحِدِ والمتعَدِّدِ.
والحاصِلُ أنَّ خَبَرَ الآحادِ إذا دَلَّت القرائِنُ على صِدْقِه، أفاد العِلْمَ، وثبَتَت به الأحكامُ العَمَليَّةُ والعِلْميَّةُ، ولا دليلَ على التَّفريقِ بينهما، ومَن نَسَب إلى أحَدٍ مِنَ الأئِمَّةِ التَّفريقَ بينهما، فعليه إثباتُ ذلك بالسَّنَدِ الصَّحيحِ عنه، ثمَّ بيانُ دَليلِه المُستَنِدِ إليه) [1035] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (1/ 31).

انظر أيضا: