الموسوعة العقدية

الفرعُ الأولُ: فَضْلُ خديجةَ رَضِيَ اللهُ عنها

وردت أحاديثُ عديدةٌ في فَضائِلِها ومناقِبِها رَضِيَ اللهُ عنها؛ منها:
 1- حَديثُ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها في أوَّلِ بدءِ الوَحيِ، وفيه أنَّ خديجةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين أخبَرَها بالمَلَكِ الذي جاءه في حِراءٍ: (أبشِرْ فواللهِ لا يُخزيك اللهُ أبدًا؛ فواللهِ إنَّك لتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحديثَ، وتَحمِلُ الكَلَّ، وتَكسِبُ المعدومَ، وتَقْرِي الضَّيفَ، وتُعِينُ على نوائِبِ الحَقِّ) [2261] رواه البخاري (6982) ومسلم (160) مطولًا. .
قال ابنُ حَجَرٍ: (ممَّا اختَصَّت به سَبْقُها نساءَ هذه الأُمَّةِ إلى الإيمانِ، فسَنَّت ذلك لكُلِّ من آمنت بَعْدَها، فيكونُ لها مِثْلُ أجرِهنَّ... وقد شاركها في ذلك أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ بالنِّسبةِ إلى الرِّجالِ، ولا يَعرِفُ قَدْرَ ما لكُلٍّ منهما من الثَّوابِ بسَبَبِ ذلك إلَّا اللهُ عزَّ وجَلَّ!) [2262] يُنظر: ((فتح الباري)) (7/137). .
2- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((لم يتزوَّجِ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على خديجةَ حتى ماتت )) [2263] رواه مسلم (2436). .
فمِن مناقِبِها التي انفرَدَت بها دونَ سائِرِ أمَّهاتِ المُؤمِنين رَضِيَ اللهُ عنهن: أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يتزوَّجْ عليها حتى فارَقَت الحياةَ الدُّنيا.
قال ابنُ حَجَرٍ: (هذا ممَّا لا اختِلافَ فيه بين أهلِ العِلمِ بالأخبارِ، وفيه دليلٌ على عِظَمِ قَدْرِها عندَه، وعلى مزيدِ فَضْلِها؛ لأنَّها أغنَتْه عن غيرِها، واختَصَّت به بقَدرِ ما اشترك فيه غيرُها مرَّتَينِ؛ لأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عاش بعد أن تزوَّجَها ثمانيةً وثلاثينَ عامًا، انفردت خديجةُ منها بَخمسٍة وعِشرينَ عامًا، وهي نحوُ الثُّلُثينِ مِن المجموعِ، ومع طولِ المدَّةِ فصان قَلْبَها فيها من الغَيرةِ، ومن نَكَدِ الضَّرائِرِ الذي ربما حصل له هو منه ما يُشَوِّشُ عليه بذلك، وهي فضيلةٌ لم يُشارِكْها فيها غيرُها) [2264] يُنظر: ((فتح الباري)) (7/137). .
3- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ما غِرْتُ على أحَدٍ مِن نساءِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما غِرْتُ على خديجةَ، وما رأيتُها ولكِنْ كان النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُكثِرُ ذِكْرَها، وربَّما ذبح الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُها أعضاءً ثُمَّ يبعَثُها في صدائِقِ خديجةَ، فرُبَّما قُلتُ له: كأنَّه لم يكُنْ في الدُّنيا امرأةٌ إلَّا خديجةُ؟! فيقولُ: ((إنَّها كانت وكانت، وكان لي منها وَلَدٌ )) [2265] رواه البخاري (3818) واللَّفظُ له، ومسلم (2435). .
قال ابنُ العَربيِّ: (كان النَّبِيُّ عليه السَّلامُ قد انتفع بخديجةَ برَأْيِها ومالِها ونَصْرِها، فرعاها حَيَّةً ومَيَّتةً، بَرَّها موجودةً ومعدومةً، وأتى بعد موتِها ما كان يَعلَمُ أنَّه يَسُرُّها لو كان في حياتِها) [2266] يُنظر: ((عارضة الأحوذي)) (13/252). .
 وقال أبو العبَّاسِ القُرطُبيُّ: (قَولُ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: «ما غِرْتُ على امرأةٍ ما غِرْتُ على خديجةَ؛ لِما كنتُ أسمَعُه يَذْكُرُها» أي: يمدَحُها ويُثني عليها، ويذكُرُ فَضائِلَها؛ وذلك لفَرْطِ محبَّتِه إيَّاها، ولِما اتَّصَل له من الخيرِ بسَبَبِها، وفي بَيتِها، ومن أحَبَّ شيئًا أكثَرَ مِن ذِكْرِه؛ ولذلك قال النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إني رُزِقْتُ حُبَّها)) [2267] أخرجه مسلم (2435) مطولًا باختلافٍ يسيرٍ مِن حَديثِ عائشة رَضِيَ اللهُ عنها. ، وكونُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَهْدي لخلائِلِ خديجةَ: دليلٌ على كَرمِ خُلُقِه، وحُسْنِ عَهْدِه؛ ولذلك كان يرتاحُ لهالةَ بنتِ خُوَيلدٍ إذا رآها، ويَنهَضُ إكرامًا لها، وسرورًا بها.
وقولُها: "فعَرَف استئذانَ خَديجةَ" [2268] لَفظُه: عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((استأذَنَت هالةُ بنتُ خُوَيلدٍ أختُ خَديجةَ على رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فعَرَف استئذانَ خديجةَ، فارتاح لذلك فقال: اللهُمَّ هالةُ بِنتُ خُوَيلدٍ! فغِرْتُ فقُلْتُ: وما تذكُرُ مِن عَجوزٍ مِن عجائِزِ قُرَيشٍ، حمراءِ الشِّدْقَينِ، هَلَكَت في الدَّهْرِ فأبدَلَك اللهُ خَيرًا منها؟)). أخرجه البخاري معلَّقًا بصيغة الجزم (3821)، وأخرجه موصولًا مسلم (2437) واللَّفظُ له. أي: تذكَّر -عند استِئذانِ هالةَ- خديجةَ، وكأنَّ نَغْمةَ هالةَ كانت تُشبِهُ نَغْمةَ خديجةَ، وأصلُ هذا كُلِّه: أنَّ من أحَبَّ محبوبًا أحَبَّ محبوباتِه، وما يتعَلَّقُ به وما يُشبِهُه) [2269] يُنظر: ((المفهم)) (6/ 317). .
4- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((أتى جبريلُ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: يا رسولَ اللهِ، هذه خديجةُ قد أتت، معها إناءٌ فيه إدامٌ أو طعامٌ أو شرابٌ، فإذا هي أتَتْك فاقرَأْ عليها السَّلامَ مِن رَبِّها ومنِّي، وبَشِّرْها ببَيتٍ في الجَنَّةِ مِن قَصَبٍ، لا صَخَبَ ولا نَصَبَ )) [2270] رواه البخاري (3820) واللَّفظُ له، ومسلم (2432). .
وفي ذلك مَنقَبتانِ عظيمتانِ لأمِّ المُؤمِنينَ خديجةَ رَضِيَ اللهُ عنها:
الأُولى: إرسالُ الرَّبِّ جَلَّ وعلا سلامَه عليها مع جبريلَ، وإبلاغُ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لذلك.
قال ابنُ القَيِّمِ: (هذه خاصَّةٌ لا تُعْرَفُ لامرأةٍ سِواها) [2271] يُنظر: ((زاد المعاد)) (1/102). .
الثَّانيةُ: البُشرى لها ببيتٍ في الجنَّةِ مِن قَصَبٍ، لا صَخَبَ فيه ولا نَصَبَ.
قال ابنُ حَجَرٍ: (في ذِكْرِ البيتِ معنًى آخَرُ؛ لأنَّ مَرجِعَ أهلِ بَيتِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليها؛ لِما ثبت في تفسيرِ قَولِه تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ [الأحزاب: 33] قالت أمُّ سَلَمةَ: لَمَّا نزلت دعا النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فاطِمةَ وعَلِيًّا والحَسَنَ والحُسَينَ فجَلَّلهم بكِساءٍ، فقال: ((اللهُمَّ هؤلاء أهلُ بيتي))... [2272] أخرجه الترمذي (3871)، وأحمد (26597) باختلافٍ يسيرٍ. صَحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3871)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (26597)، وحَسَّنه الترمذي، وصَحَّح إسنادَه البغوي في ((شرح السنة)) (7/204)، وجوده الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (3/283). ، ومرجِعُ أهْلِ البَيتِ هؤلاء إلى خديجةَ؛ لأنَّ الحسَنَينِ مِن فاطِمةَ، وفاطِمةُ بِنْتُها، وعليٌّ نشأ في بَيتِ خَديجةَ وهو صغيرٌ، ثُمَّ تزوَّج بِنْتَها بَعْدَها، فظهر رجوعُ أهْلِ البَيتِ النَّبَويِّ إلى خديجةَ دونَ غَيرِها) [2273] يُنظر: ((فتح الباري)) (7/138). .
 قال ابنُ الجَوزيِّ: (القَصَبُ: الدُّرُّ المجَوَّفُ. والصَّخَبُ: الأصواتُ المُختَلِطةُ والجَلَبةُ. والنَّصَبُ: التَّعَبُ، وفي نَفْيِ الصَّخَبِ والنَّصَبِ عن هذا البيتِ وَجهانِ: أحَدُهما: أنَّ النَّصَبَ لا بدَّ في كُلِّ بَيتٍ مِن تَعَبٍ في إصلاحِه، وصَخَبٍ بين سكَّانِه، فأخبر أنَّ قُصورَ الجنَّةِ على خِلافِ ذلك. والثَّاني: أنَّها لَمَّا تَعِبَت في تربيةِ الأولادِ ناسب هذا ضَمانَ الرَّاحةِ) [2274] يُنظر: ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)) (2/ 218). .
5- عن عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((خَيرُ نِسائِها مَريمُ بِنتُ عِمرانَ، وخيرُ نِسائِها خديجةُ بنتُ خُوَيلِ دٍ)) [2275] رواه البخاري (3815)، ومسلم (2430) واللَّفظُ له. .
قال النَّوويُّ: (معناه أنَّ كُلَّ واحدةٍ منهما خيرُ نِساءِ الأرضِ في عَصْرِها، وأمَّا التفضيلُ بينهما فمسكوتٌ عنه) [2276] يُنظر: ((شرح مسلم)) (15/198). .
وقال ابنُ حَجَرٍ: (الذي يظهَرُ لي أنَّ قَولَه: ((خَيرُ نِسائِها)) خبرٌ مُقَدَّمٌ، والضَّميرُ لمريمَ، فكأنَّه قال: مريمُ خَيرُ نِسائِها، أي: نِساءِ زَمانِها، وكذا في خديجةَ، وقد جزم كثيرٌ مِنَ الشُّرَّاحِ أنَّ المرادَ نِساءُ زَمانِها) [2277] يُنظر: ((فتح الباري)) (7/135). .

انظر أيضا: