الموسوعة العقدية

المبحثُ الرَّابِعُ: مِن عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ في الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهمُ الإمساكُ عَمَّا شَجَرَ بينَهم

أجمَعَ أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ عَلى وُجوبِ السُّكوتِ والإعراضِ عنِ الخَوضِ في الفِتَنِ الَّتي جَرَت بينَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم بَعدَ قَتلِ عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه، والِاستِرجاعِ عَلى تِلكَ المَصائِبِ الَّتي أصيبَت بها هَذِه الأمَّةُ، والِاستِغفارِ لِلقَتْلى مِنَ الطَّرَفينِ، والتَّرحُّمِ عليهِم أجمَعينَ، وحِفظِ فضائِلِ الصَّحابةِ والِاعتِرافِ لهم بسَوابِقِهِم، ونَشْرِ مَناقِبِهم؛ عَمَلًا بقَولِ اللهِ عزَّ وجَلَّ: وَالَّذِينَ جَاؤُوا من بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10] الآية [1915] يُنظر: ((معارج القبول)) لحافظ الحكمي (3/ 1208). .
 قال القُرطُبيُّ: (هَذِه الآيةُ دَليلٌ عَلى وُجوبِ مَحَبَّةِ الصَّحابةِ؛ لِأنَّه جَعل لِمَن بَعدَهم حَظًّا في الفَيءِ ما أقاموا عَلى مَحَبَّتِهِم ومُوالاتِهِم والِاستِغفارِ لهم) [1916] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/32). .
ويَجِبُ اعتِقادُ أنَّ الكُلَّ مِنهم مُجتَهِدٌ، إن أصابَ فلَهُ أجرانِ؛ أجرٌ عَلى اجتِهادِه، وأجرٌ عَلى إصابَتِه، وإن أخطَأ فلَهُ أجرُ الِاجتِهادِ، والخَطَأُ مَغفورٌ، ولا نَقولُ: إنَّهم مَعصومونَ، بَل مُجتَهِدونَ؛ إمَّا مُصيبونَ، وإمَّا مُخطِئونَ لم يَتَعَمَّدوا الخَطَأَ في ذلك، وما رُوِيَ مِنَ الأخبارِ في مَساويهِم فالكَثيرُ مِنها مَكذوبٌ، ومِنها ما قَد زِيدَ فيه أو نُقِصَ مِنهُ وغُيِّرَ عن وَجْهِه، والصَّحيحُ مِنها هم فيه مَعذورونَ [1917] يُنظر: ((معارج القبول)) لحافظ الحكمي (3/1208). .
قال ابنُ حَزْمٍ: (وأمَّا أهْلُ الجَمَلِ فما قَصَدوا قَطُّ قِتالَ عليٍّ رِضوانُ اللهِ عليه، ولا قَصَدَ عليٌّ رِضوانُ اللهِ عليه قِتالَهم، وإنَّما اجتَمَعوا بالبَصْرةِ لِلنَّظَرِ في قَتَلةِ عُثمانَ رِضوانُ اللهِ عليه، وإقامةِ حَقِّ اللهِ تعالى فيهِم، فتَسَرَّعَ الخائِفونَ عَلى أنفُسِهِم أخذَ حَدِّ اللهِ تعالى مِنهم، وكانوا أعدادًا عَظيمةً يَقرُبونَ مِنَ الأُلوفِ، فأثاروا القِتالَ خُفْيةً حَتَّى اضطُرَّ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الفَريقينِ إلى الدِّفاعِ عن أنفُسِهِم إذ رَأوا السَّيفَ قَد خالَطَهم) [1918] يُنظر: ((الإحكام في أصول الأحكام)) (2/85). .
وقال عندَ قَولِ اللهِ تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات: 9] : (سَمَّاهُمُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ مُؤمِنينَ باغينَ، بَعضُهم إِخوةُ بَعضٍ، في حينِ تَقاتُلِهِم وأهْلَ العَدْلِ المَبْغِيَّ عليهِم والمَأمورينَ بالإصلاحِ بينَهم وبينَهم، ولَم يَصِفْهُم عَزَّ وجَلَّ بفِسقٍ مِن أجلِ ذلك التَّقاتُلِ، ولا بنَقصِ إيمانٍ، وإنَّما هم مُخْطِئونَ باغونَ، ولا يُريدُ واحِدٌ مِنهم قَتلَ آخَرَ... ولَيسَ هَذا كقَتَلةِ عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه؛ لِأنَّه لا مَجالَ لِلِاجتِهادِ في قَتْلِه؛ لِأنَّه لم يَقتُلْ أحَدًا، ولا حارَبَ ولا قاتَلَ ولا دافَعَ، ولا زَنى بَعدَ إحصانٍ ولا ارتَدَّ؛ فيَسُوغَ لِمُحارِبِه تَأويلٌ، بَل هم فُسَّاقٌ مَحارِبونَ، سافِكونُ دَمًا حَرامًا عَمْدًا بلا تَأويلٍ، عَلى سَبيلِ الظُّلمِ والعُدوانِ، فهم فُسَّاقٌ مَلعونونَ) [1919] يُنظر: ((الفصل)) (4/ 125). .
ففي هَذِه الآيةِ أمَرَ اللهُ تعالى بالإصلاحِ بينَ المُؤمِنين إذا جَرى بينَهم قِتالٌ؛ لِأنَّهم إخوةٌ، وهَذا الِاقتِتالُ لا يُخرِجُهم عن وصفِ الإيمانِ؛ حَيثُ سَمَّاهُمُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ مُؤمِنينَ، وأمرَ بالإصلاحِ بينَهم، وإذا حَصَلَ اقتِتالٌ بينَ عُمومِ المُؤْمِنينَ ولَم يُخرِجْهم ذلك مِنَ الإيمانِ فأصحابُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الَّذينَ اقتَتَلوا في مَوقِعةِ الجَمَلِ وصِفِّينَ أَولَى بالدُّخولِ في اسمِ الإيمانِ الَّذي ذُكِرَ في هَذِه الآيةِ، فهم لا يَزالونَ عِندَ رَبِّهِم مُؤْمِنينَ، ولَم يُؤَثِّرْ ما حَصَلَ بينَهم مِن شِجارٍ في إيمانِهِم بحالٍ؛ لِأنَّه كانَ عنِ اجتِهادٍ [1920] يُنظر: ((العواصم من القواصم)) لابن العربي (ص: 172). .
 قال ابنُ العَرَبيِّ: (قَد تَحكَّمَ النَّاسُ في التَّحكيمِ، فقالوا فيه ما لا يُرضي اللهَ، وإذا لاحَظتُموهُ بعَينِ المُروءةِ -دونَ الدِّيانةِ- رَأيتُم أنَّها سَخافةٌ حَمَلَ عَلى سَطرِها في الكُتُبِ في الأكثَرِ عَدَمُ الدِّينِ، وفي الأقَلِّ جَهْلٌ بَيِّنٌ) [1921] يُنظر: ((العواصم من القواصم)) (ص: 175 - 182). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (لم يَكُنْ يَومَ الجَمَلِ لِهَؤُلاءِ قَصْدٌ في القِتالِ، ولَكِن وقَعَ الِاقتِتالُ بغَيرِ اختيارِهِم؛ فإنَّهُ لَمَّا تَراسَلُ عليٌّ وطَلحةُ والزُّبيرُ وقَصَدوا الِاتِّفاقَ عَلى المُصالَحةِ، وأنَّهم إذا تَمَكَّنوا طَلَبوا قَتَلةَ عُثمانَ أهلَ الفِتنةِ، وكانَ عليٌّ غَيرَ راضٍ بقَتلِ عُثمانَ، ولا مُعينًا عليه كما كانَ يَحْلِفُ فيَقولُ: واللهِ ما قَتَلْتُ عُثمانَ، ولا مالَأتُ عَلى قَتلِه [1922] أخرجه أحمد في ((فضائل الصحابة)) (739)، وابن شبة في ((تاريخ المدينة)) (4/1265). وأخرجه ابن عساكر في  ((تاريخ دمشق)) (39/451) عن عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ عن عليِّ بنِ أبي طالب قال: إن شاء اللهُ قمتُ لهم خلف مقامِ إبراهيمَ فحلَفْتُ لهم باللهِ ما قتَلْتُ عُثمانَ ولا أمَرْتُ بقتلِه، ولقد نهيتُهم فعَصَوني. قال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (7/202): ثبت ذلك من طرقٍ تفيد القطع. وأخرجه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (39/449) عن الحسن قال: قُتِل عثمانُ وعليٌّ غائب في أرضٍ له، فلما بلغه قال: اللهمَّ إني لم أرْضَ ولم أمالِئْ. قال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (7/202): ثبت ذلك من طرقٍ تفيد القطع. ، وهوَ الصَّادِقُ البارُّ في يَمينِه، فخَشَيِ القَتَلةُ أن يَتَّفِقَ عليٌّ مَعَهم عَلى إمساكِ القَتَلةِ، فحَمَلوا عَلى عَسكَرِ طَلحةَ والزُّبَيرِ، فظَنَّ طَلحةُ والزُّبيرُ أنَّ عَلِيًّا حَملَ عليهِم، فحَملوا دَفعًا عن أنفُسِهِم، فظَنَّ عليٌّ أنَّهم حَملوا عليه فحَمَلَ دَفعًا عن نَفسِه؛ فوَقَعَتِ الفِتنةُ بغَيرِ اختيارِهِم) [1923] يُنظر: ((منهاج السنة)) (4/316). .
 وقال أيضًا: (أمَّا الصَّحابةُ فجُمهورُهم وجُمهورُ أفاضِلِهِم ما دَخلوا في فتنةٍ. قال عَبدُ اللهِ بنُ الإمامِ أحمَدَ: حَدَّثنا أبي، حَدَّثنا إسماعيلُ، يَعني ابنَ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنا أيوبُ يَعني السَّخْتيانيَّ، عن مُحَمَّدِ بْنِ سِيرينَ قال: هاجَتِ الفِتنةُ، وأصحابُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَشَرةُ آلافٍ، فما حَضَرَها مِنهم مِائةٌ، بَل لم يَبلُغوا ثَلاثينَ! [1924] أخرجه من طرق عبد الرزاق (20735)، والخلال في ((السنة)) (728) واللفظ له. . وهَذا الإسنادُ مِن أصَحِّ إسنادٍ عَلى وجهِ الأرضِ. ومُحَمَّدُ بْنُ سِيرينَ مِن أورَعِ النَّاسِ في مَنطِقِه، ومَراسيلُه مِن أصَحِّ المَراسيلِ. وقال عَبدُ اللَّهِ: حَدَّثنا أبي، حَدَّثنا إسماعيلُ، حَدَّثنا مَنصورُ بنُ عَبدِ الرَّحمَنِ قال: قال الشَّعبيُّ: لم يَشهَدِ الجَمَلَ مِن أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غَيرُ عَليٍّ وعَمَّارٍ وطَلحةَ والزُّبيرِ، فإنْ جاؤوا بخامِسٍ فأنا كَذَّابٌ! وقال عَبدُ اللهِ بنُ أحمَدَ: حَدَّثنا أبي، حَدَّثنا أمَيَّةُ بنُ خالِدٍ قال: قيلَ لِشُعبةَ: إنَّ أبا شَيبةَ روى عنِ الحَكَمِ عن عَبْدِ الرَّحمَنِ بنِ أبي ليلى، قال: شَهِدَ صِفِّينَ مِن أهلِ بَدرٍ سَبعونَ رَجُلًا! فقال: كَذَبَ واللهِ، لقَد ذاكَرْتُ الحَكَمَ بذلك، وذاكَرْناهُ في بَيتِه، فما وجَدناهُ شَهِدَ صِفِّينَ مِن أهلِ بَدرٍ غَيرُ خُزَيمةَ بنِ ثابِتٍ. قُلتُ: هَذا النَّفيُ يَدُلُّ عَلى قِلَّةِ مَن حَضَرَها، وقَد قيلَ: إنَّهُ حَضَرُها سَهلُ بنُ حُنَيفٍ وأبو أيوبَ. وكَلامُ ابنِ سِيرينَ مُقارِبٌ، فما يَكادُ يُذكَرُ مِائةُ واحِدٍ. وقَد رَوى ابنُ بَطَّةَ عن بكيرِ بنِ الأشَجِّ قال: أمَا إنَّ رِجالًا مِن أهلِ بَدرٍ لَزِموا بُيوتَهم بَعدَ قَتلِ عُثمانَ، فلَم يَخرُجوا إلَّا إلى قُبورِهِم!) [1925] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) (6/ 236). .
 وقال العِراقيُّ في شَرحِ حَديثِ: ((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى تَقتَتِلَ فِئَتانِ عَظيمَتانِ، وتَكونَ بينَهما مَقتَلةٌ عَظيمةٌ، ودَعواهما واحِدةٌ )) [1926] رواه البخاري (3609) مطولًا، ومسلم (157) واللَّفظُ له من حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه. : (فيه عَلَمٌ مِن أعلامِ النُّبُوَّةِ لِوُقوعِ ذلك كما أخبَرَ به، والمُرادُ بالفِئَتينِ العَظيمَتينِ فِئةُ عليٍّ ومُعاويةَ رَضِيَ اللهُ عنهما، وقَولُه: ((دَعواهما واحِدةٌ)) أي: دينُهما واحِدٌ؛ إذ الكُلُّ مُسْلِمونٌ يَدعونَ بدَعوى الإسلامِ عِندَ الحَربِ، وهيَ شَهادةُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، ويُحتَمَلُ أن يَكونَ المُرادُ بكَونِ دَعواهما واحِدةً أنَّ كُلًّا مِنهما يَقولُ: إنَّهُ ناصِرٌ لِلحَقِّ، طالِبٌ لهُ، ذابٌّ عنِ الدِّينِ، فالقائِمونَ مَعَ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه همُ المُصيبونَ القائِمونَ بنُصرةِ مَن تَجِبُ نُصرَتُهُ؛ لِكَونِه أفضَلَ الخَلقِ ذلك الوَقتَ، وأحَقَّهم بالإمامةِ، مَعَ تَقَدُّمِ بيعَتِه مِن أهلِ الحَلِّ والعَقْدِ بدارِ الهِجْرةِ، والقائِمةُ مَعَ مُعاويةَ رَضِيَ اللهُ عنه تَأوَّلوا وُجوبَ القيامِ بتَغييرِ المُنكَرِ في طَلَبِ قَتَلةِ عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه الَّذينَ في عَسكَرِ عليٍّ... الواجِبُ تَحسينُ الظَّنِّ بهِم، وأن يُتَأوَّلَ لهم ما فعَلوهُ بحَسَبِ ما يَليقُ بفَضلِهِم، وما عَهِدْناهُ مِن حُسنِ مَقصَدِهِم، ثُمَّ إنَّ عَدالَتَهم قَطعيَّةٌ لا تَزولُ بمُلابَسةِ شَيءٍ مِنَ الفِتَنِ، واللهُ أعلَمُ) [1927] يُنظر: ((طرح التثريب)) (7/ 277). .
وقال ابنُ كثيرٍ عِندَ شَرحِ حَديثِ: ((تَمرُقُ مارقةٌ عِندَ فُرقةٍ مِنَ المُسْلِمينَ يَقتُلُها أَولى الطَّائِفَتين بالحَقِّ)) [1928] رواه مسلم (1064) من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه. : (هَذا الحَديثُ مِن دَلائِلِ النُّبُوَّةِ؛ لِأنَّه قَد وقَعَ الأمرُ طِبْقَ ما أخبَرَ به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفيه الحُكمُ بإسلامِ الطَّائِفَتينِ: أهلِ الشَّامِ وأهْلِ العِراقِ، لا كما يَزعُمُهُ فِرقةُ الرَّافِضةِ أهلُ الجَهْلِ والجَورِ مِن تَكفيرِهِم أهلَ الشَّامِ، وفيه أنَّ أصحابَ عليٍّ أدنى الطَّائِفَتينِ إلى الحَقِّ، وهَذا هو مَذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ أنَّ عَلِيًّا هو المُصيبُ وإن كانَ مُعاويةُ مُجتَهِدًا في قِتالِه لهُ، وقَد أخطَأ وهوَ مَأجورٌ إن شاءَ اللهُ، ولَكِنَّ عَلِيًّا هو الإمامُ المُصيبُ إن شاءَ اللهُ تعالى، فلَهُ أجرانِ، كما ثَبَتَ في صَحيحِ البُخاريِّ مِن حَديثِ عَمْرِو بنِ العاصِّ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا اجتَهَدَ الحاكِمُ فأصابَ فلَهُ أجرانِ، وإذا اجتَهَدَ فأخطَأ فلَهُ أجرٌ )) [1929] رواه البخاري (7352) عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: ((إذا حكم الحاكِمُ فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجرٌ)). [1930] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (10/ 563). .
وجاءَ عن أبي بَكْرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: بَينا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَخطُبُ جاءَ الحَسَنُ فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ابنِي هَذا سَيِّدٌ، ولَعَلَّ اللهَ أن يُصلِحَ به بينَ فِئَتينِ مِنَ المُسْلِمينَ )) [1931] رواه البخاري (7109). .
وكانَ سُفيانُ بنُ عُيَينةَ يَقولُ: (قَولُه: فِئَتين مِنَ المُسْلِمينَ، يُعَجِبُنا جِدًّا) [1932] يُنظر: ((الاعتقاد)) للبيهقي (ص: 446). .
قال البَيهَقيُّ مُعَلِّقًا: (إنَّما أعجَبَهم؛ لِأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَمَّاهما جَميعًا مُسْلِمينَ، وهَذا خَبَرٌ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما كانَ مِنَ الحَسَنِ بنِ عليٍّ بَعدَ وفاةِ عليٍّ في تَسليمِه الأمرَ إلى مُعاويةَ بنِ أبي سُفْيانَ) [1933] يُنظر: ((الاعتقاد)) (ص: 446). .
ومِن أقوالِ السَّلَفِ الصَّالِحِ وغَيرِهِم مِن أهلِ العِلمِ حَولَ الإمساكِ عَمَّا وقَعَ بينَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم وحُسنِ الظَّنِّ بهِم:
1- سُئِلَ عُمرُ بنُ عَبدِ العَزيزِ عنِ القِتالِ الَّذي وقَعَ بينَ الصَّحابةِ رَضي اللهُ تعالى عنهم، فقال: (تِلكَ دِماءٌ طَهَّرَ اللهُ مِنها يَدِي فلا أُحِبُّ أن أخضِّبَ لِساني بها) [1934] يُنظر: ((مناقب الشافعي)) للبيهقي (1/ 449). .
قال البَيهَقيُّ مُعَلِّقًا عَلى قَولِ عُمَرَ بنِ عَبدِ العَزيزِ: (هَذا رَأيٌ حَسَنٌ جَميلٌ مِن عُمرَ بنِ عَبدِ العَزيزِ، رَضِيَ اللهُ عنه، في السُّكوتِ عَمَّا لا يَعنيه إذا لم يَحتَجْ إلى القَولِ فيه) [1935])) يُنظر: ((مناقب الشافعي)) (1/ 449). .
2- سُئِلَ الحَسَنُ البَصْريُّ عن قِتالِ الصَّحابةِ فيما بينَهم فقال: (قِتالٌ شَهِدَهُ أصحابُ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وغِبْنَا، وعَلِموا وجَهِلْنا، واجتَمَعوا فاتَّبَعْنا، واختَلَفوا فوقَفْنا) [1936] ذكره القرطبي في تفسيره (16/322). .
قال المُحاسِبيُّ: (فنَحنُ نَقولُ كما قال الحَسَنُ، ونَعلَمُ أنَّ القَومَ كانوا أعلَمَ بما دَخلوا فيه مِنَّا، ونَتَّبِعُ ما اجتَمَعوا عليه، ونَقِفُ عِندَ ما اختَلَفوا فيه، ولا نَبتَدِعُ رَأيًا مِنَّا، ونَعلَمُ أنَّهم اجتَهَدوا وأرادوا اللهَ عَزَّ وجَلَّ؛ إذ كانوا غَيرَ مُتَّهَمِينَ في الدِّينِ، ونَسألُ اللهَ التَّوفيقَ) [1937] ذكره القرطبي في تفسيره (16/322). .
3- قال العَوَّامُ بنُ حَوشَبٍ: (أدرَكتُ مَن أدرَكْتُ مِن صَدْرِ هَذِه الأمَّةِ بَعضُهم يَقولُ لِبَعضٍ: اذكُروا مَحاسِنَ أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِتَأتَلِفَ عليها القُلوبُ، ولا تَذْكُروا ما شَجَرَ بينَهم فتُحَرِّشوا النَّاسَ عليهِم) [1938] يُنظر: ((الإبانة الصغرى)) لابن بطة (ص: 182). .
4- قال الشَّافِعيُّ في وصيَّتِه: (وأعرِفُ حَقَّ السَّلَفِ الَّذينَ اختارَهم اللهُ عَزَّ وجَلَّ لِصُحبةِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأُحَدِّثُ بفَضائِلِهِم، وأُمسِكُ عَمَّا شَجَرَ بينَهم صَغيرِهم وكَبيرِهم)  [1939]يُنظر: ((اعتقاد الشافعي)) للهكاري (ص 17). .
5- قال أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ عنِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم: (رَحِمَهم اللهُ أجمَعينَ، ومُعاويةُ وعَمْرُو بنُ العاصِ وأبو مُوسى الأشعَريُّ والمُغيرةُ كُلُّهم وصَفَهمُ اللهُ تعالى في كِتابِه فقال: سِيمَاهُمْ في وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح: 29] ) [1940] يُنظر: ((مناقب الإمام أحمد)) لابن الجوزي (ص: 221). .
وقال في رِسالَتِه إلى مُسَدَّدٍ: (... والكَفُّ عن مَساوِئِ أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، تَحدَّثوا بفَضائِلِهِم، وأمسِكوا عَمَّا شَجَرَ بينَهم)  [1941]يُنظر: ((طبقات الحنابلة)) لابن أبي يعلى (1/ 344). .
وقال أبو بَكرٍ المِروذيُّ: قيل لِأبي عَبدِ اللهِ يَعني أحمَدَ بنَ حَنبَلٍ ونَحنُ بالعَسكَرِ، وقَد جاءَ بَعضُ رُسُلِ الخَليفةِ، وهوَ يَعقوبُ، فقال: (يا أبا عَبدِ اللَّهِ، ما تَقولُ فيما كانَ مِن عليٍّ ومُعاويةَ رَحِمَهُما اللَّهُ؟ فقال أبو عَبدِ اللَّهِ: ما أقولُ فيها إلَّا الحُسْنى، رَحِمَهم اللهُ أجمَعينَ)  [1942]يُنظر: ((السنة)) للخلال (2/460). .
وقال حَنبَلُ بنُ إسحاقَ: (أرَدتُ أن أكتُبَ كِتابَ صِفِّينَ والجَمَلِ عن خَلفِ بنِ سالِمٍ، فأتَيتُ أبا عَبدِ اللهِ أكَلِّمُهُ في ذاكَ وأسألُهُ، فقال: وما تَصنَعُ بذاكَ، ولَيسَ فيه حَلالٌ ولا حَرامٌ؟! وقَد كتَبتُ مَعَ خَلَفٍ حَيثُ كتَبَهُ، فكَتَبتُ الأسانيدَ، وتَرَكتُ الكَلامَ، وكَتَبَها خَلَفٌ، وحَضَرْتُ عِندَ غُندَرٍ واجتَمَعنا عِندَهُ، فكَتَبتُ أسانيدَ حَديثِ شُعبةَ، وكَتَبَها خَلفٌ عَلى وجهِها، قُلْتُ له: ولمَ كتَبْتَ الأسانيدَ وتَرَكْتَ الكَلامَ؟ قال: أرَدتُ أن أعرِفَ ما رَوى شُعبةُ مِنها. قال حَنبَلٌ: فأتَيتُ خَلَفًا فكتَبتُها، فبَلَغَ أبا عَبدِ اللَّهِ، فقال لِأبي: خُذِ الكِتابَ فاحْبِسْه عنه، ولا تَدَعْهُ يَنظُرُ فيه)  [1943]يُنظر: ((السنة)) للخلال (2/464). .
وقال إبراهيمُ بنُ آزَرَ الفَقيهُ: (حَضَرْتُ أحمَدَ بنَ حَنبَلٍ وسَألَهُ رَجُلٌ عَمَّا جَرى بينَ عَليٍّ ومُعاويةَ؟ فأعرَضَ عنه، فقيلَ له: يا أبا عَبدِ اللهِ هو رَجُلٌ مِن بني هاشِمٍ، فأقبَلَ عليه فقال: اقرَأ: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة: 141] ) [1944] رواه الخطيب البغدادي في ((تاريخ بغداد)) (6/544). .
6- قال المُزَنيُّ: (ونُمسِكُ عنِ الخَوضِ فيما شَجَرَ بينَهم؛ فهم خِيارُ أهْلِ الأرضِ بَعدَ نَبيِّهِم، ارتَضاهمُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ لِنَبيِّه، وخَلَقَهم أنصارًا لدِينِه، فهم أئِمةُ الدِّينِ، وأعلامُ المُسْلِمينَ، فرَحمةُ اللهِ عليهِم أجمَعينَ)  [1945]يُنظر: ((شرح السنة)) (ص 87). .
7- قال حَربٌ الكَرْمانيُّ: (مِنَ السُّنَّةِ الواضِحةِ البَيِّنةِ الثَّابِتةِ المَعروفةِ ذِكْرُ مَحاسِنِ أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كُلِّهم أجمَعينَ، والكَفُّ عن ذِكرِ مَساويهِم والخِلافِ الَّذي شَجَرَ بينَهم، فمَن سَبَّ أصحابَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو أحَدًا مِنهم، أو تَنقَّصَه، أو طَعنَ عليهِم أو عَرَّضَ بعَيبِهِم، أو عابَ أحَدًا مِنهم بقَليلٍ أو كثيرٍ أو دِقٍّ أو جِلٍّ، مِمَّا يتَطَرَّقُ به إلى الوَقيعةِ في أحَدٍ مِنهم- فهوَ مُبتَدِعٌ رافِضيٌّ خَبيثٌ مُخالِفٌ)  [1946]يُنظر: ((إجماع السلف في الاعتقاد)) (ص 70). .
8- قال أبو الحَسَنِ الأشعَريُّ: (ويَعرِفونَ حَقَّ السَّلَفِ الَّذينَ اختارَهمُ اللهُ سُبحانَه لِصُحبةِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ويَأخُذونَ بفَضائِلِهِم، ويُمسِكونُ عَمَّا شَجَرَ بينَهم صَغيرِهم وكَبيرِهم)  [1947]يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 228). .
وقال أيضًا: (أمَّا ما جَرى بينَ عليٍّ والزُّبيرِ وعائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنهم فإنَّما كانَ عَلى تَأويلٍ واجتِهادٍ، وعليٌّ الإمامُ، وكُلُّهُم مِن أهلِ الِاجتِهادِ، وقَد شَهِدَ لهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالجَنَّةِ والشَّهادةِ، فدَلَّ عَلى أنَّهم كُلَّهم كانوا عَلى حَقٍّ في اجتِهادِهِم، وكَذلك ما جَرى بينَ سَيِّدِنا عَليٍّ ومُعاويةَ رَضِيَ اللهُ عنهما كانَ عَلى تَأويلٍ واجتِهادٍ، وكُلُّ الصَّحابةِ أئِمَّةٌ مَأمونون غَيرُ مُتَّهَمِينَ في الدِّينِ، وقَد أثنى اللهُ ورَسولُهُ عَلى جَميعِهِم، وتَعَبَّدَنا بتَوقيرِهِم وتَعظيمِهِم وموالاتِهِم، والتَّبرِّي مِن كُلِّ مَن يُنَقِّصُ أحَدًا مِنهم، رَضِيَ اللهُ عنهم أجمَعينَ) [1948] يُنظر: ((الإبانة عن أصول الديانة)) (ص: 260). .
9- قال البَربَهاريُّ: (نَتَرَحَّمُ عليهِم، ونَذكُرُ فَضْلَهم، ونَكُفُّ عن زَللِهِم، ولا نَذكُرُ أحَدًا مِنهم إلَّا بخَيرٍ)  [1949]يُنظر: ((شرح السنة)) (ص 55). .
وقال أيضًا: (والكَفُّ عن حَربِ عليٍّ ومُعاويةَ، وعائِشةَ وطَلحةَ والزُّبيرِ ومَن كانَ مَعَهم، ولا تُخاصِمْ فيهِم، وكِلْ أمْرَهُم إلى اللهِ تَبارَكَ وتعالى)  [1950]يُنظر: ((شرح السنة)) (ص 106). .
10- قال ابنُ أبي زَيدٍ القيروانيُّ في بَيانِ ما يَجِبُ عَلى المُسْلِمِ اعتِقادُهُ في أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (وأنْ لا يُذكَرَ أحدٌ مِن صَحابةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا بأحسَنِ ذِكْرٍ، والإمساكُ عَمَّا شَجَرَ بينَهم، وأنَّهم أحَقُّ النَّاسِ أن يُلتَمَسَ لهم أحسَنُ المَخارِجِ، ويُظَنَّ بهِم أحسَنُ المَذاهِبِ) [1951] يُنظر: ((عقيدة السلف - مقدمة ابن أبي زيد القيرواني لكتابه الرسالة)) (ص: 61). .
11- قال ابنُ بَطَّةَ: (أمَّا ما يَجِبُ علينا تَركُهُ، وفَرْضٌ علينا الإمساكُ عنه، وحَرامٌ علينا الفَحصُ والتَّنقيرُ عنه؛ هو النَّظَرُ فيما شَجَرَ بينَهم، والخُلُقُ الَّذي كانَ جَرى مِنهم؛ لِأنَّه أمرٌ مُشتَبِهٌ، ونُرجِئُ الشُّبهةَ إلى اللَّهِ، ولا نَميلُ مَعَ بَعضِهِم عَلى بَعضٍ، ولا نَظلِمُ أحَدًا مِنهم، ولا نُخرِجُ أحَدًا مِنهم مِنَ الإيمانِ، ولا نَجعَلُ بَعضَهم عَلى بَعضٍ حُجَّةً في سَبِّ بَعضِهِم لِبَعضٍ، ولا نَسُبُّ أحَدًا مِنهم لِسَبِّه صاحِبَه، ولا نَقتَدي بأحَدٍ مِنهم في شَيءٍ جَرى مِنهُ عَلى صاحِبِه، ونَشهَدُ أنَّهم كُلَّهم عَلى هُدًى وتُقًى وخالِصِ إيمانٍ؛ لأنَّا عَلى يَقينٍ مِن نَصِّ التَّنزيلِ وقَولِ الرَّسولِ أنَّهم أفضَلُ الخَلقِ وخَيرُهُ بَعدَ نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [1952] يُنظر: ((الإبانة الكبرى)) (3/245). .
وقال أيضًا: (نَكُفُّ عَمَّا شَجَرَ بينَ أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فقَد شَهِدوا المَشاهِدَ مَعَهُ، وسَبَقوا النَّاسَ بالفَضلِ، فقَد غَفرَ اللهُ لهم، وأمرَكَ بالِاستِغفارِ لهم، والتَّقَرُّبِ إلَيه بمَحَبَّتِهِم، وفَرضَ ذلك عَلى لِسانِ نَبيِّه، وهوَ يَعلَمُ ما سَيَكونُ مِنهم، وأنَّهم سَيَقتَتِلونَ، وإنَّما فُضِّلوا عَلى سائِرِ الخَلقِ؛ لِأنَّ الخَطَأ والعَمدَ قَد وُضِعَ عنهم، وكُلُّ ما شَجَرَ بينَهم مَغفورٌ لهم، ولا تَنظُرْ في كِتابِ صِفِّينَ والجَمَلِ ووَقعةِ الدَّارِ، وسائِرِ المُنازَعاتِ الَّتي جَرَت بينَهم، ولا تَكتُبْه لِنَفسِكَ ولا لِغَيرِكَ، ولا تَرْوِهِ عن أحَدٍ، ولا تَقرَأْهُ عَلى غَيرِكَ، ولا تَسمَعْهُ مِمَّن يَرويه؛ فعَلى ذلك اتَّفَقَ ساداتُ عُلَماءِ هَذِه الأمَّةِ، مِنَ النَّهيِ عَمَّا وصَفْناه) [1953] يُنظر: ((الإبانة الصغرى)) (ص: 294). .
12- قال أبو نُعَيمٍ الأصبَهانيُّ: (الواجِبُ عَلى المُسْلِمينَ في أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إظهارُ ما مَدَحَهمُ اللهُ تعالى به، وشَكرَهم عليه مِن جَميلِ أفعالِهِم وجَميلِ سَوابِقِهِم، وأن يَغضُّوا عَمَّا كانَ مِنهم في حالِ الغَضَبِ والإغفالِ، وفَرَطَ مِنهم عِندَ استِزلالِ الشَّيطانِ إيَّاهم، ونَأخُذُ في ذِكرِهِم بما أخبَرَ اللهُ تعالى به، فقال تعالى: وَالَّذِينَ جَاؤُوا من بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ [الحشر: 10] الآية؛ فإنَّ الهَفْوةَ والزَّلَلَ والغَضبَ والحِدَّةَ والإفراطَ لا يَخلو مِنهُ أحَدٌ، وهوَ لهم مَغفورٌ، ولا يوجِبُ ذلك البَراءةَ مِنهم، ولا العَداوةَ لهم، ولَكِن يُحَبُّ عَلى السَّابِقةِ الحَميدةِ، ويُتَوَلَّى لِلمَنقَبةِ الشَّريفةِ) [1954] يُنظر: ((تثبيت الإمامة وترتيب الخلافة)) (ص: 342). .
وقال أيضًا: (الإمساكُ عن ذِكرِ أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وذِكرِ زَلَلِهم، ونَشْرُ مَحاسِنِهم ومَناقِبِهم، وصَرفُ أمورِهِم إلى أجمَلِ الوُجوه: مِن أماراتِ المُؤْمِنينَ المُتَّبِعِينَ لهم بإحسانٍ، الَّذينَ مَدحَهمُ اللهُ تعالى فقال: وَالَّذِينَ جَاؤُوا من بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا مَعَ ما أمرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإكرامِ أصحابِه، وأوصى بحَقِّهِم وصيانَتِهِم وإجلالِهِم) [1955])) يُنظر: ((تثبيت الإمامة وترتيب الخلافة)) (ص: 373). .
13- قال أبو بَكرٍ الباقِلانيُّ: (يَجِبُ أن يُعلَمَ: أنَّ ما جَرى بينَ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ورَضِيَ عنهم مِنَ المُشاجَرةِ نَكُفُّ عنه، ونَتَرَحَّمُ عَلى الجَميعِ، ونُثني عليهِم، ونَسألُ اللهَ تعالى لهمُ الرِّضوانَ والأمانَ والفَوزَ والجِنانَ، ونَعتَقِدُ أنَّ عَلِيًّا عليه السَّلامُ أصابَ فيما فعل ولَهُ أجرانِ، وأنَّ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم أنَّ ما صَدَرَ مِنهم كانَ باجتِهادٍ، فلَهم الأجرُ ولا يُفَسَّقونَ ولا يُبدَّعونَ، والدَّليلُ عليه قَولُهُ تعالى: رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وقَولُهُ تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا في قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 18] ، وقَولُهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا اجتَهَدَ الحاكِمُ فأصابَ فلَهُ أجرانِ، وإذا اجتَهَدَ فأخطَأَ فلَهُ أجرٌ)) [1956] رواه البخاري (7352) عن عمرو بن العاص رضي اللهُ عنه أنه سمع رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: ((إذا حكم الحاكِمُ فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجرٌ)). ، فإذا كانَ الحاكِمُ في وقتِنا لهُ أجرانِ عَلى اجتِهادِه فما ظَنُّكَ باجتِهادِ مَن رَضِيَ اللهُ عنهم ورَضُوا عنه؟! ويَدُلُّ عَلى صِحَّةِ هَذا القَولِ: قَولُهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِلحَسَنِ عليه السَّلامُ: ((إنَّ ابني سَيِّدٌ، وسَيُصلِحُ اللهُ به بينَ فِئَتينِ عَظيمَتينِ مِنَ المُسْلِمينَ )) [1957] رواه البخاري (2704) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي بَكْرةَ رضي الله عنه. ، فأثبَتَ العِظَمَ لِكُلِّ واحِدةٍ مِنَ الطَّائِفَتينِ، وحَكَم لهم بصِحَّةِ الإسلامِ... وقَد وعَدَ اللهُ هَؤُلاءِ القَومَ بنَزعِ الغِلِّ مِن صُدورِهِم بقَولِه تعالى: وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ [الحجر: 47] ... ويَجِبُ الكَفُّ عن ذِكرِ ما شَجَرَ بينَهم والسُّكوتُ عنه) [1958] يُنظر: ((الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به)) (ص: 64). .
14- قال أبو عَمْرٍو الدَّاني في اعتِقادِ أهلِ السُّنَّةِ: (مِن قَولِهِم: أن يُحْسِنَ القَولَ في السَّاداتِ الكِرامِ أصحابِ مُحَمَّدٍ عليه السَّلامُ، وأنْ تَذْكُرَ فضائِلَهِم، وتَنشُرَ مَحاسِنَهم، ويُمسكُ عَمَّا سِوى ذلك مِمَّا شَجَرَ بينَهم... ويَجِبُ أن يُلتَمَسَ لهم أحسَنُ المَخارِجِ، وأجمَلُ المَذاهِبِ، لِمَكانِهِم مِنَ الإسلامِ، ومَوضِعِهِم مِنَ الدِّينِ والإيمانِ...) [1959] يُنظر: ((الرسالة الوافية)) (ص: 237). .
15- قال أبو عُثمانَ الصَّابونيُّ في عَقيدةِ السَّلَفِ وأصحابِ الحَديثِ: (ويَرونَ الكَفَّ عَمَّا شَجَر بينَ أصحابِ رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ، وتَطهيرَ الألسِنةِ عن ذِكرِ ما يَتَضَمَّنُ عَيبًا لهم، ونَقصًا فيهِم، ويَرَونَ التَّرحُّمَ عَلى جَميعِهِم، والموالاةَ لِكافَّتِهِم) [1960] يُنظر: ((عقيدة السلف وأصحاب الحديث)) (ص: 294). .
16- قال أبو الوَليدِ بنُ رُشدٍ المالِكيُّ: (كُلُّهم مَحمودٌ عَلى ما فعلهُ، القاتِلُ مِنهم والمَقتولُ في الجَنَّةِ، فهَذا الَّذي يَجِبُ عَلى كُلِّ مُسْلِمٍ أن يَعتَقِدَهُ فيما شَجَرَ بينَهم؛ لِأنَّ اللهَ تعالى قَد أثنى عليهِم في كِتابِه وعَلى لِسانِ رَسولِه، فقال عَزَّ مِن قائِلٍ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110] ، وقال: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة: 143] أي: خِيارًا عُدولًا... وقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((عَشَرةٌ مِن قُرَيشٍ في الجَنَّةِ)) [1961] أخرجه من طرق مطولًا: أبو داود (4649)، والترمذي بعد حديث (3757)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8210) واللَّفظُ له من حديثِ سعيد بن زيد رضي الله عنه. صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (6993)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4649)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4649)  وحسَّنه الترمذي، والوادعي في ((صحيح دلائل النبوة)) (203). فسَمَّى فيهِم عَلِيًّا وطَلحةَ والزُّبيرَ، والَّذي يَقولُ أئِمَّةُ أهلِ السُّنَّةِ والحَقِّ أنَّ عَليًّا رَضِيَ اللهُ عنه ومَنِ اتَّبَعَه كانوا عَلى الصَّوابِ والحَقِّ، وأنَّ طَلحةَ والزُّبيرَ كانا عَلى الخَطَأِ إلَّا أنَّهما رَأيَا ذلك باجتِهادِهِما، فكانَ فرضُهما ما فعَلاهُ؛ إذ هما مِن أهلِ الِاجتِهادِ... والَّذي قُلْناهُ مِن أنَّهم اجتَهَدوا فأصابَ عَليٌّ وأخطَأ طَلحةُ والزُّبيرُ هو الصَّحيحُ الَّذي يَلزَمُ اعتِقادُهُ، فلَعليٍّ أجران لِمُوافَقَتِه الحَقَّ باجتِهادِه، ولِطَلحةَ والزُّبيرِ أجرٌ لِاجتِهادِهِما، وبِاللَّهِ التَّوفيقُ) [1962] يُنظر: ((البيان والتحصيل)) (16/360). .
17- قال ابنُ قُدامةَ: (مِنَ السُّنَّةِ تولِّي أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومَحَبَّتُهم وذِكرُ مَحاسِنِهِم، والتَّرحُّمُ عليهِم، والِاستِغفارُ لهم والكَفُّ عن ذِكرِ مَساوِئِهِم وما شَجَرَ بينَهم، واعتِقادُ فَضْلِهِم ومَعرِفةُ سابِقَتِهِم؛ قال اللهُ تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر: 10] ) [1963])) يُنظر: ((لمعة الاعتقاد)) (ص: 39). .
18- قال القُرطُبيُّ: (لا يَجوزُ أن يُنسَبَ إلى أحَدٍ مِنَ الصَّحابةِ خَطَأٌ مَقطوعٌ به؛ إذ كانوا كُلُّهمُ اجتَهَدوا فيما فعَلوهُ، وأرادوا اللهَ عَزَّ وجَلَّ، وهم كُلُّهم لنا أئِمَّةٌ، وقَد تَعَبَّدْنا بالكَفِّ عَمَّا شَجَرَ بينَهم، وألَّا نَذكُرَهم إلَّا بأحسَنِ الذِّكْرِ لِحُرمةِ الصُّحْبةِ، ولنَهيِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن سَبِّهِم [1964] لفظه: عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه قال: قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تسُبُّوا أصحابي، فلو أنَّ أحَدَكم أنفق مِثلَ أحُدٍ ذَهَبًا ما بلغ مُدَّ أحَدِهم ولا نَصِيفَه)). رواه البخاري (3673) واللَّفظُ له، ومسلم (2541). ، وأنَّ اللهَ غَفَر لهم وأخبَرَ بالرِّضا عنهم) [1965] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/321). .
19- قال النَّوَويُّ في شَرحِ قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا تواجَهَ المُسْلِمانِ بسَيفَيهِما فالقاتِلُ والمَقتولُ في النَّارِ)) [1966] رواه مطولًا البخاري (31)، ومسلم (2888) واللَّفظُ له. من حديثِ أبي بكرة رضي الله عنه. : (اعلَمْ أنَّ الدِّماءَ الَّتي جَرَت بينَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم ليسَت بداخِلةٍ في هَذا الوَعيدِ، ومَذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والحَقِّ إحسانُ الظَّنِّ بهِم، والإمساكُ عَمَّا شَجَرَ بينَهم، وتَأويلُ قِتالِهِم وأنَّهم مُجتَهِدونَ مُتَأوِّلونَ لم يَقصِدوا مَعصيةً ولا مَحْضَ الدُّنيا، بَلِ اعتَقَدَ كُلُّ فريقٍ أنَّه المُحِقُّ، ومُخالِفُهُ باغٍ، فوَجَبَ عليه قِتالُهُ ليَرجِعَ إلى أمرِ اللَّهِ، وكانَ بَعضُهم مُصيبًا، وبَعضُهم مُخطِئًا مَعذورًا في الخَطَأِ؛ لِأنَّه لِاجتِهادٍ، والمُجتَهِدُ إذا أخطَأ لا إثمَ عليه، وكانَ عليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه هو المُحِقَّ المُصيبَ في تِلكَ الحُروبِ، هَذا مَذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ، وكانَتِ القَضايا مُشتَبِهةً، حَتَّى إنَّ جَماعةً مِنَ الصَّحابةِ تَحَيَّروا فيها، فاعتَزَلوا الطَّائِفَتينِ ولَم يُقاتِلوا، ولَم يَتَيَقَّنوا الصَّوابَ) [1967] يُنظر: ((شرح مسلم)) (18/11). .
وقال في مَوضِعٍ آخَرَ مُبيِّنًا سَبَبَ الحُروبِ الَّتي وقَعَت بينَ الصَّحابةِ: (وأمَّا عليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه فخِلافَتُهُ صَحيحةٌ بالإجماعِ، وكانَ هو الخَليفةَ في وقتِه لا خِلافةَ لِغَيرِه، وأمَّا مُعاويةُ رَضِيَ اللهُ عنه فهوَ مِنَ العُدولِ الفُضَلاءِ والصَّحابةِ النُّجَباءِ رَضِيَ اللهُ عنه، وأمَّا الحُروبُ الَّتي جَرَت فكانَت لِكُلِّ طائِفةٍ شُبهةٌ اعتَقَدَت تَصويبَ أنفُسِها بسَبَبِها، وكُلُّهُم عُدولٌ رَضِيَ اللهُ عنهم ومُتَأوِّلونَ في حُروبِهِم وغَيرِها، ولَم يُخرِجْ شَيءٌ مِن ذلك أحَدًا مِنهم عنِ العَدالةِ؛ لِأنَّهم مُجتَهِدونَ اختَلَفوا في مَسائِلَ مِن مَحَلِّ الِاجتِهادِ كما يَختَلِفُ المُجتَهِدونَ بَعدَهم في مَسائِلَ مِنَ الدِّماءِ وغَيرِها، ولا يَلزَمُ مِن ذلك نَقصُ أحَدٍ مِنهم، واعلَمْ أنَّ سَبَبَ تِلكَ الحُروبِ أنَّ القَضايا كانَت مُشتَبِهةً، فلِشِدَّةِ اشتِباهِها اختَلَفَ اجتِهادُهم وصاروا ثَلاثةَ أقسامٍ:
قِسمٌ ظَهَرَ لهم بالِاجتِهادِ أنَّ الحَقَّ في هَذا الطَّرَفِ، وأنَّ مُخالِفَهُ باغٍ؛ فوَجَبَ عليهِم نُصرَتُهُ وقِتالُ الباغي عليه فيما اعتَقَدوهُ، ففَعُلوا ذلك، ولَم يَكُن يَحِلُّ لِمِن هَذِه صِفَتُه التَّأخُّرُ عن مُساعَدةِ إمامِ العَدْلِ في قِتالِ البُغاةِ في اعتِقادِه.
وقِسمٌ عَكسُ هَؤُلاءِ، ظَهَرَ لهم بالِاجتِهادِ أنَّ الحَقَّ في الطَّرَفِ الآخَرِ، فوَجَبَ عليهِم مُساعَدَتُهُ وقِتالُ الباغي عليه.
وقِسمٌ ثالِثٌ اشتَبَهَت عليهِمُ القَضيَّةُ، وتَحَيَّروا فيها، ولَم يَظهَرْ لهم تَرجيحُ أحَدِ الطَّرَفين، فاعتَزَلوا الفَريقينِ، وكانَ هَذا الِاعتِزالُ هو الواجِبَ في حَقِّهِم؛ لِأنَّه لا يَحِلُّ الإقدامُ عَلى قِتالِ مُسْلِمٍ حَتَّى يَظهَرَ أنَّه مُستَحِقٌّ لِذلك) [1968] يُنظر: ((شرح مسلم)) (15/149). .
20- قال ابنُ تيميَّةَ في بَيانِ مُعتَقَدِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: (ويُمسِكونُ عَمَّا شَجَر بينَ الصَّحابةِ، ويَقولونَ: إنَّ هَذِه الآثارَ المَرْويَّةَ في مَساويهِم مِنها ما هو كَذِبٌ، ومِنها ما قَد زِيدَ فيه ونُقِصَ، وغُيِّرَ عن وَجْهِه، والصَّحيحُ مِنهُ هم فيه مَعذورونَ، إمَّا مُجتَهِدونَ مُصيبونَ، وإمَّا مُجتَهِدونَ مُخْطِئونَ) [1969] يُنظر: ((العقيدة الواسطية)) (ص: 120). .
وقال أيضًا: (مِن مَذاهِبِ أهلِ السُّنَّةِ الإمساكُ عَمَّا شَجَر بينَ الصَّحابةِ؛ فإنَّهُ قَد ثَبَتَت فضائِلُهم، ووَجَبَت مُوالاتُهمُ ومَحَبَّتُهم. وما وقَعَ مِنهُ ما يَكونُ لهم فيه عُذرٌ يَخفى عَلى الإنسانِ، ومِنهُ ما تابَ صاحِبُه مِنهُ، ومِنهُ ما يَكونُ مَغفورًا. فالخَوضُ فيما شَجَرَ يُوقِعُ في نُفوسِ كثيرٍ مِنَ النَّاسِ بُغْضًا وذَمًّا، ويَكونُ هو في ذلك مُخطِئًا بَل عاصيًا، فيَضُرُّ نَفسَهُ ومَن خاضَ مَعَهُ في ذلك، كما جَرى لِأكثَرِ مَن تَكَلَّمَ في ذلك؛ فإنَّهم تَكَلَّموا بكَلامٍ لا يُحِبُّهُ اللهُ ولا رَسولُه: إمَّا مِن ذَمِّ مَن لا يَستَحِقُّ الذَّمَّ، وإمَّا مِن مَدْحِ أُمورٍ لا تَستَحِقُّ المَدْحَ.
ولِهَذا كانَ الإمساكُ طَريقةَ أفاضِلِ السَّلَفِ)  [1970]يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) (4/448). .
21- قال الذَّهَبيُّ: (تَقَرَّرَ... الكَفُّ عن كثيرٍ مِمَّا شَجَرَ بينَ الصَّحابةِ وقِتالِهِم رَضِيَ اللهُ عنهم أجمَعينَ، وما زالَ يَمُرُّ بنا ذلك في الدَّواوينِ والكُتُبِ والأجزاءِ، ولَكِن أكثَرُ ذلك مُنقَطِعٌ وضَعيفٌ، وبَعضُهُ كذِبٌ، وهَذا فيما بأيدينا وبينَ عُلَمائِنا، فيَنبَغي طَيُّهُ وإخفاؤُهُ، بَل إعدامُهُ لِتَصفوَ القُلوبُ، وتَتَوَفَّرَ عَلى حُبِّ الصَّحابةِ والتَّرضِّي عنهم، وكِتمانُ ذلك مُتَعَيِّنٌ عنِ العامَّةِ وآحادِ العُلَماءِ، وقَد يُرَخَّصُ في مُطالَعةِ ذلك خَلوةً لِلعالِمِ المُنْصِفِ العَرِيِّ مِنَ الهوى، بشَرطِ أن يَستَغفِرَ لهم كما عَلَّمَنا اللهُ تعالى؛ حَيثُ يَقولُ: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر: 10] ، فالقَومُ لهم سَوابِقُ وأعمالٌ مُكَفِّرةٌ لِما وقَعَ مِنهم، وجِهادٌ مَحَّاءٌ، وعِبادةٌ مُمحِّصةٌ... فأمَّا ما تَنقُلُهُ الرَّافِضةُ وأهلُ البِدَعِ في كُتُبِهِم مِن ذلك، فلا نُعَرِّجُ عليه، ولا كرامةَ؛ فأكثَرُهُ باطِلٌ وكَذِبٌ وافتِراءٌ، فدَأبُ الرَّوافِضِ رِوايةُ الأباطيلِ، أو رَدُّ ما في الصِّحاحِ والمَسانيدِ، ومَتى إفاقةُ مَن به سُكْرانٌ؟!) [1971] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) (10/92).
22- قال ابنُ كثيرٍ: (أمَّا ما شَجَر بينَهم بَعدَهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فمِنهُ ما وقَعَ عن غَيرِ قَصدٍ كيومِ الجَمَلِ، ومِنهُ ما كانَ عنِ اجتِهادٍ كيَومِ صِفِّينَ، والِاجتِهادُ يُخطِئُ ويُصيبُ، ولَكِنَّ صاحِبَهُ مَعذورٌ وإن أخطَأ، ومَأجورٌ أيضًا، وأمَّا المُصيبُ فلَهُ أجرانِ اثنانِ، وكانَ عليٌّ وأصحابُه أقرَبَ إلى الحَقِّ مِن مُعاويةَ وأصحابِه، رَضِيَ اللهُ عنهم أجمَعينَ) [1972] يُنظر: ((الباعث الحثيث)) لأحمد شاكر (ص: 368). .
23- قال ابنُ حَجَرٍ: (اتَّفَقَ أهلُ السُّنَّةِ عَلى وُجوبِ مَنعِ الطَّعنِ عَلى أحَدٍ مِنَ الصَّحابةِ بسَبَبِ ما وقَعَ لهم مِن ذلك، ولَو عُرِفَ المُحِقُّ مِنهم؛ لِأنَّهم لم يُقاتِلوا في تِلكَ الحُروبِ إلَّا عنِ اجتِهادٍ، وقَد عَفا اللهُ تعالى عنِ المُخْطِئِ في الِاجتِهادِ، بَل ثَبتَ أنَّه يُؤْجَرُ أجرًا واحِدًا، وأنَّ المُصيبَ يُؤْجَرُ أجرَينِ) [1973] يُنظر: ((فتح الباري)) (13/34). .
24- قال القَسْطَلَّانيُّ: (مِمَّا يَجِبُ أيضًا الإمساكُ عَمَّا شَجَر بينَهم، أي: ما وقَعَ بينَهم مِنَ الِاختِلافِ، والإضرابُ عن أخبارِ المُؤَرِّخين، وجَهَلةِ الرُّواةِ، وضُلَّالِ الشِّيعةِ والمُبتَدِعينَ؛ القادِحةِ في أحَدٍ مِنهم... وأن يَلتَمِسَ لهم مِمَّا نُقِلَ مِن ذلك فيما كانَ بينَهم مِنَ الفِتَنِ أحسَنَ التَّأويلاتِ، ويُصَوِّبَ لهم أصوَبَ المَخارِجِ)  [1974]يُنظر: ((المواهب اللدنية)) (2/ 706). .
25- قال مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ الوَهَّابِ: (أجمَعَ أهلُ السُّنَّةِ عَلى السُّكوتِ عَمَّا شَجَر بينَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، ولا يُقالُ فيهِم إلَّا الحُسنى)  [1975]يُنظر: ((مختصر سيرة الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) (ص 317). .
26- قال ابنُ عابِدين: (يَجِبُ علينا تَعظيمُهم واحتِرامُهم، ويَحرُمُ سَبُّهم والطَّعنُ فيهِم، ونَسْكتُ عَمَّا جَرى بينَهم مِنَ الحُروبِ، فإنَّهُ كانَ عنِ اجتِهادٍ. هَذا كُلُّهُ مَذهَبُ أهلِ الحَقِّ وهمُ أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ، وهمُ الصَّحابةُ والتَّابِعونَ والأئِمةُ المُجتَهِدونَ، ومَن خَرجَ عن هَذا الطَّريقِ فهوَ ضالٌّ مُبتَدِعٌ، أو كافِرٌ)  [1976]يُنظر: ((تنبيه الولاة والحكام على أحكام شاتم خير الأنام أو أحد أصحابه الكرام)) (ص 119). .
27- قال ابنُ باز: (قَولُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في هَذِه الفِتنةِ مَعلومٌ، وهوَ الكَفُّ عَمَّا شَجَر بينَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم والتَّرضِّي عنهم جَميعًا، واعتِقادُ أنَّهم مُجتَهِدونَ فيما فعَلوا طالِبونَ لِلحَقِّ، والمُصيبُ مِنهم لهُ أجرانِ، والمُخْطِئُ لهُ أجرٌ واحِدٌ، كما صَحَّ بذلك الحَديثُ الشَّريفُ) [1977] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (27/ 431). .
 وقال أيضًا: (يُمسِكونَ عَمَّا شَجَرَ بينَ الصَّحابةِ، ويَعتَقِدونَ أنَّهم في ذلك مُجتَهِدونَ، مَن أصابَ فلَهُ أجرانِ، ومَن أخطَأ فلَهُ أجرٌ) [1978])) يُنظر: ((العقيدة الصحيحة وما يضادها)) (ص: 11). .
28- قال ابنُ عُثيمين: (إنَّ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم لم يَنقَرِضوا حَتَّى حَصَلَتِ الفِتَنُ العَظيمةُ في مَقتَلِ عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه، وعليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، وقَبلَها مَقتَلُ عُمرَ بنِ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه، وغَيرُ ذلك مِنَ الفِتَنِ المَعروفةِ في كُتُبِ التَّاريخِ.
والَّذي يَجِبُ علينا نَحنُ إزاءَ هَذِه الفِتَنِ أن نُمسِكَ عَمَّا شَجَرَ بينَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، وألَّا نَخوضَ فيه، وألَّا نَتَكَلَّمَ فيه؛ لِأنَّه كما قال عُمرُ بنُ عَبدِ العَزيزِ رَحِمَهُ اللَّه: هَذِه دِماءٌ طَهَّرَ اللهُ سَيوفَنا مِنها، فيَجِبُ أن نُطَهِّرَ ألسِنَتَنا مِنها، وصَدَقَ رَضِيَ اللهُ عنه، فما فائِدَتُنا أن نَنبُشَ عَمَّا جَرى بينَ عليِّ بنِ أبي طالِبٍ وعائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنهما، أو بينَ عليٍّ ومُعاويةَ رَضِيَ اللهُ عنهما مِنَ الحُروبِ الَّتي مَضَت وانقَضَت، ذِكرُ هَذِه الحُروبِ وتَذَكُّرُها لا يُفيدُنا إلَّا ضَلالًا... إنَّني أقولُ: إنَّ مِن مَذهَبِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ أن نَسْكُتَ عَمَّا شَجَرَ بينَ الصَّحابةِ، فلا نَتَكَلَّمَ فيه، نُعرِضُ بقُلوبِنا وألسِنَتِنا عَمَّا جَرى بينَهم، ونَقولُ: كُلُّهم مُجتَهِدونَ، المُصيبُ مِنهم لهُ أجرانِ، والمُخْطِئُ مِنهم لهُ أجرٌ واحِدٌ، تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة: 134] ، لو قَرَأ إنسانٌ التَّاريخَ حَولَ هَذِه الأمورِ لِوَجَدِ العَجَبَ العُجابَ؛ وجَدَ من ينتَصِرُ لبني أُمَيَّةَ، ويَقدَحُ في عليِّ بنِ أبي طالِبٍ وآلِ النبيِّ، ووجَدَ من يغلو في عليِّ بنِ أبي طالبٍ وآلِ النَّبيِّ ويَقدَحُ قَدْحًا عظيمًا في بني أُمَيَّةَ؛ لِأنَّ التَّاريخَ يَخضَعُ لِلسِّياسةِ؛ لِذا يَجِبُ علينا نَحنُ فيما يَتَعَلَّقُ بالتَّاريخِ ألَّا نَتَعَجَّلَ في الحُكْمِ؛ لِأنَّ التَّاريخَ يَكونُ فيه كَذِبٌ، ويَكونُ فيه هوًى وتَغييرٌ لِلحَقائِقِ، يَنشُرُ غَيرَ ما يَكونُ، ويَحذِفُ ما يَكونُ، كُلُّ هَذا تَبَعًا لِلسِّياسةِ، ولَكِن -عَلى كُلِّ حالٍ- ما جَرى بينَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم يَجِبُ علينا أن نَكُفَّ عنه كما هو مَذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ؛ حَتَّى لا يَكونَ في قُلوبِنا غِلٌّ عَلى أحَدٍ مِنهم، نُحبُّهم كُلَّهم، ونَسألُ اللهَ أنَّ يَميتَنا عَلى حُبِّهِم، نُحِبُّهم كُلَّهم، ونَقولُ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 10] ) [1979] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) (2/ 279-281). .

انظر أيضا: