الموسوعة العقدية

المطلبُ الثَّاني: المُفاضَلةُ بَينَ الصَّحابيَّاتِ رَضِيَ اللهُ عنهنَّ

ثَبَتَ في الكِتابِ والسُّنَّةِ تَفضيلُ نِساءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عامَّةً، وخَديجةَ وعائِشةَ مِنهُنَّ خاصَّةً. وأيضًا تَفضيلُ فاطِمةَ، رَضِيَ اللهُ عنهنَّ جَميعًا.
قال اللهُ تعالى: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ [الأحزاب: 32] .
 قال القُرطُبيُّ: (قَولُهُ تعالى: يَا نِسَاءَ النَّبيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ يَعني في الفَضلِ والشَّرفِ) [1578] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/ 177). .
 وقال ابنُ كثيرٍ: (قال مُخاطِبًا لِنِساءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنهُنَّ إذا اتَّقَينَ اللهَ كما أمرَهُنَّ، فإنَّهُ لا يُشبِهُهُنَّ أحَدٌ مِنَ النِّساءِ، ولا يَلحَقُهُنَّ في الفَضيلةِ والمَنزِلةِ) [1579] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/ 408). .
وعن عليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((خَيرُ نِسائِها مَريَمُ ابنةُ عِمرانَ، وخَيرُ نِسائِها خَديجةُ )) [1580] رواه البخاري (3432) واللَّفظُ له، ومسلم (2430). .
 قال ابنُ حَجَرٍ: (قَولُه: ((خَيرُ نِسائِها)) خَبَرٌ مُقَدَّمٌ والضَّميرُ لِمَريَمَ، فكَأنَّه قال: مَريَمُ خَيرُ نِسائِها، أيِ: نِساءِ زَمانِها، وكَذا في خَديجةَ، وقَد جَزمَ كثيرٌ مِنَ الشُّرَّاحِ أنَّ المُرادَ نِساءُ زَمانِها) [1581] يُنظر: ((فتح الباري)) (7/ 135). .
 وعن أبي مُوسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((فَضْلُ عائِشةَ عَلى النِّساءِ كفَضلِ الثَّريدِ عَلى سائِرِ الطَّعامِ )) [1582] رواه البخاري (3411)، ومسلم (2431) مطولًا. .
 قال النَّوَويُّ: (قال العُلَماءُ: مَعناهُ أنَّ الثَّريدَ من كُلِّ طَعامٍ أفضَلُ مِنَ المَرَقِ؛ فثريدُ اللَّحمِ أفضَلُ من مَرَقِه بلا ثَريدٍ، وثَريدُ ما لا لحْمَ فيه أفضَلُ من مَرَقِه، والمُرادُ بالفَضيلةِ: نَفعُه والشِّبَعُ مِنهُ وسُهولةُ مَساغِه، والالتِذاذُ به وتيسُّرُ تَناوُلِه، وتَمَكُّنُ الإنسانِ من أخذِ كِفايَتِه مِنهُ بسُرعةٍ، وغَيرُ ذلك، فهوَ أفضَلُ مِنَ المَرَقِ كُلِّه ومِن سائِرِ الأطعِمةِ، وفَضلُ عائِشةَ عَلى النِّساءِ زائِدٌ كزيادةِ فَضْلِ الثَّريدِ عَلى غَيرِه مِنَ الأطعِمةِ، ولَيسَ في هَذا تَصريحٌ بتَفضيلِها عَلى مَريَمَ وآسيَةَ؛ لِاحتِمالِ أنَّ المُرادَ تَفضيلُها عَلى نِساءِ هَذِه الأمَّةِ) [1583] يُنظر: ((شرح مسلم)) (15/ 199). .
وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يا فاطِمةُ، ألَّا تَرضَينَ أن تَكوني سَيِّدةَ نِساءِ المُؤمِنينَ، أو سَيِّدةَ نِساءِ هَذِه الأمَّةِ)) [1584] رواه مطولًا البخاري (6285، 6286) واللَّفظُ له، ومسلم (2450). .
وفي لفظٍ: ((أمَا تَرضينَ أن تَكوني سَيِّدةَ نِساءِ أهلِ الجَنَّةِ، أو نِساءِ المُؤمِنينَ )) [1585] رواه البخاري (3624). .
 قال عِياضٌ: (قَولُه: ((أمَّا تَرضينَ أن تَكونى سَيِّدةَ نِساءِ هَذِه الأمَّةِ )): حُجَّةٌ لِمَن رَأى فَضْلَها عَلى عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها) [1586] يُنظر: ((إكمال المعلم)) (7/ 475). .
وقَد وقَعَ خِلافٌ في خَديجةَ وعائِشةَ وفاطِمةَ رَضِيَ اللهُ عنهنَّ: أيُّهُنَّ أفضَلُ [1587] يُنظر: ((الروض الأُنُف)) للسهيلي (2/ 276)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (234)، ((فتح الباري)) لابن حجر (7/139). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (أفْضَلُ نِساءِ هَذِه الأمَّةِ خَديجةُ وعائِشةُ وفاطِمةُ، وفي تَفضيلِ بَعضِهِنَّ عَلى بَعضٍ نِزاعٌ وتَفصيلٌ) [1588] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (4/394). .
فأمَّا خَديجةُ رَضِيَ اللهُ عنه؛ فقيلَ: المُرادُ بتَفضيلِها عَلى النِّساءِ: تَفضيلُها عَلى نِساءِ أهلِ زَمانِها.
 قال ابنُ المُلقِّنِ: (قَولُه: ((خَيرُ نِسائِها خَديجةُ)) يَعني: خَيرُ نِساءِ زَمانِها، وماتَت خَديجةُ، وعائِشةُ بنتُ ثَلاثِ سِنينَ، وقيلَ: أربَع، فيُحتَمَلُ أن يَكونُ دَخَلَت فيمَن خُيِّرَت عليه خَديجةُ، ويُحتَمَلُ أن يُريدَ البَوالِغَ، ذَكرَها ابنُ التِّينِ) [1589] يُنظر: ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) (20/ 429). .
وعن عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أفْضَلُ نِساءِ أهلِ الجَنَّةِ: خَديجةُ بِنتُ خُوَيلِدٍ، وفاطِمةُ بنتُ مُحَمَّدٍ، وآسيَةُ بنتُ مُزاحِمٍ امرَأةُ فِرعَونَ، ومَريَمُ ابنةُ عِمْرانَ )) [1590] أخرجه أحمد (2668) واللَّفظُ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8357)، وابنُ حبان (7010). صحَّحه ابنُ حبان، والوادعي في ((صحيح دلائل النبوة)) (474)، وصحَّح إسنادَه الحاكم في ((المستدرك)) (4754)، وابن حجر في ((فتح الباري)) (6/543)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (4/323)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (2668)، وحسَّنه النووي في ((تهذيب الأسماء واللغات)) (2/341). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (هذا نَصٌّ صَريحٌ لا يحتَمِلُ التأويلَ) [1591] يُنظر: ((فتح الباري)) (7/135). .
وعن أنسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((حَسْبُكَ من نِساءِ العالَمينَ: مَريَمُ ابنةُ عِمْرانَ، وخَديجةُ بِنتُ خُوَيلِدٍ، وفاطِمةُ بنتُ مُحَمَّدٍ، وآسيةُ امرَأةُ فِرعَونَ )) [1592] رواه الترمذي (3878) واللَّفظُ له، وأحمد (12391). صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (7003)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (4746). .
 قال ابنُ المِلكِ: ( ((حَسْبُكَ))، أي: كفاك يا أنَسُ مَعرِفةً "مِن نِساءِ العالَمينَ مَريَمُ بنتُ عِمْرانَ، وخَديجةُ بنتُ خُويلِدٍ، وفاطِمةُ بنتُ مُحَمَّدٍ، وآسيَةُ امرَأةُ فِرعَونَ"، وقيل: مَعناه: حَسْبُكَ أن تَقتَديَ بهِنَّ، وأن تَذكُرَ مَحاسِنَهُنَّ ومَناقِبَهُنَّ، وطاعاتِهِنَّ، ومُراقَبةَ حَقِّ اللهِ، ورَفْضَهُنَّ الدُّنيا، وإقبالَهُنَّ عَلى الآخِرةِ) [1593] يُنظر: ((شرح المصابيح)) (6/ 480). .
واللَّفظُ الوارِدُ في تَفضيلِ فاطِمةَ رَضِيَ اللهُ عنها، وهوَ قَولُهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يا فاطِمةُ، ألَا تَرضينَ أن تَكوني سَيِّدةَ نِساءِ المُؤمِنينَ، أو سَيِّدةَ نِساءِ هَذِه الأمَّةِ)) [1594] أخرجه مطولًا البخاري (6285، 6286) واللَّفظُ له، ومسلم (2450). . وفي لفظٍ: ((سَيِّدةُ نِساءِ أهلِ الجَنَّةِ )) [1595] أخرجه البخاري (3624) مطولًا. هو لفظٌ صَريحٌ في أنَّها أفضَلُ نِساءِ الأمَّةِ، وسَيِّدةُ نِساءِ أهلِ الجَنَّةِ ، وقَد شارَكَت أمَّها رَضِيَ اللهُ عنهما في هَذا التَّفضيلِ [1596] يُنظر: ((مباحث المفاضلة في العقيدة)) لمحمد الشظيفي (ص: 276). .
 قال ابنُ حَجَرٍ: (زَعَمَ ابنُ العَرَبيِّ أنَّه لا خِلافَ في أنَّ خَديجةَ أفضَلُ من عائِشةَ، ورُدَّ بأنَّ الخِلافَ ثابِتٌ قَديمًا وإن كانَ الرَّاجِحُ أفضَليَّةَ خَديجةَ بهَذا وبِما تَقَدَّمَ. قُلتُ: ومِن صَريحِ ما جاءَ في تَفضيلِ خَديجةَ ما أخرَجَه أبو داوُدَ والنَّسائيُّ، وصَحَّحه الحاكِمُ من حَديثِ ابنِ عَبَّاسٍ رَفَعَه: ((أفضَلُ نِساءِ أهلِ الجَنَّةِ خَديجةُ بِنتُ خُوَيلِدٍ، وفاطِمةُ بِنتُ مُحَمَّدٍ )) [1597] أخرجه أحمد (2668) واللَّفظُ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8357)، وابنُ حبان (7010). صحَّحه ابنُ حبان، والوادعي في ((صحيح دلائل النبوة)) (474)، وصحَّح إسنادَه الحاكم في ((المستدرك)) (4754)، وابن حجر في ((فتح الباري)) (6/543)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (4/323)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (2668)، وحسَّنه النووي في ((تهذيب الأسماء واللغات)) (2/341). . قال السُّبكيُّ الكَبيرُ كما تَقَدَّمَ: لِعائِشةَ مِنَ الفَضائِلِ ما لا يُحصَى، ولَكِنَّ الَّذي نَختارُه ونَدينُ اللهَ به أنَّ فاطِمةَ أفضَلُ، ثُمَّ خَديجةُ، ثُمَّ عائِشةُ، واستَدَلَّ لِفَضلِ فاطِمةَ بما تَقَدَّمَ في تَرجَمَتِها أنَّها سَيِّدةُ نِساءِ المُؤمِنينَ، قُلتُ: وقال بَعضُ مَن أدرَكْناهُ: الَّذي يَظهَرُ أنَّ الجَمعَ بَينَ الحَديثينِ أَولى، وألَّا نُفَضِّلَ إحداهما عَلى الأخرى، وسُئِلَ السُّبكيُّ: هَل قال أحَدٌ: إنَّ أحَدًا من نِساءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غَيرَ خَديجةَ وعائِشةَ أفضَلُ من فاطِمةَ؟ فقال: قال به من لا يُعتَدُّ بقَولِه، وهوَ من فضَّلَ نِساءَ  النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَلى جَميعِ الصَّحابةِ؛ لِأنَّهنَّ في دَرَجَتِه في الجَنَّةِ، قال: وهوَ قَولٌ ساقِطٌ مَردودٌ. انتَهى، وقائِلُهُ هو أبو مُحَمَّدِ ابنُ حَزْمٍ، وفَسادُهُ ظاهِرٌ، قال السُّبكيُّ: ونِساءُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعدَ خَديجةَ وعائِشةَ مُتَساوياتٌ في الفَضلِ، وهُنَّ أفضَلُ النِّساءِ؛ لِقَولِ اللهِ تعالى: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ [الأحزاب: 32] الآية، ولا يُستَثنى من ذلك إلَّا من قيل: إنَّها نَبيَّةٌ كمَريمَ. واللهُ أعلَمُ) [1598] يُنظر: ((فتح الباري)) (7/ 139). .
وأمَّا الحَديثُ الوارِدُ في تَفضيلِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، وهوَ قَولُهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فَضْلُ عائِشةَ عَلى النِّساءِ كفَضلِ الثَّريدِ عَلى الطَّعامِ )) [1599] أخرجه البخاري (3770) واللَّفظُ له، ومسلم (2446) من حديثِ أنس بن مالك رضي الله عنه. فقَد قال ابنُ حَجَرٍ: (ليسَ فيه تَصريحٌ بأفضَليَّةِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها عَلى غَيرِها؛ لِأنَّ فَضْلَ الثَّريدِ عَلى غَيرِه مِنَ الطَّعامِ إنَّما هو لِما فيه من تيسيرِ المُؤنةِ وسُهولةِ الإساغةِ، وكانَ أجَلَّ أطعِمَتِهِم يومَئِذٍ، وكُلُّ هَذِه الخِصالِ لا تَستَلزِمُ ثُبوتَ الأفضَليَّةِ لهُ من كُلِّ جِهةٍ، فقَد يَكونُ مَفضولًا بالنِّسبةِ لِغَيرِه من جِهاتٍ أخرى) [1600] يُنظر: ((فتح الباري)) (6/447). .
وأمَّا حَديثُ عَمْرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنه لَمَّا سَأل النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّ النَّاسِ أحَبُّ إلَيكَ؟ فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((عائِشةُ)) [1601] رواه البخاري (3662)، ومسلم (2384). ، فإنَّ ابنَ حِبَّانَ دَلَّلَ عَلى تَقييدِه بنِسائِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فعَقدَ عُنوانًا في (صَحيحِه) فقال: (ذِكْرُ خَبَرٍ وَهِمَ في تَأويلِه من لم يُحْكِمْ صِناعةَ الحَديثِ) وقال: (ذِكرُ الخَبَرِ الدَّالِّ عَلى أنَّ مخرَجَ هَذا السُّؤالِ والجَوابِ مَعًا كانَ عن أهلِه دونَ سائِرِ النِّساءِ مِن فاطِمةَ وغَيرِها) وأخرَجَ بسَندِه عن أنسٍ قال: ((سُئِلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: من أحَبُّ النَّاسِ إلَيكَ؟ قال: عائِشةُ، قيلَ له: ليسَ عن أهلِكَ نَسألُ، قال: فأبوها )) [1602] أخرجه ابن حبان (7107)، والآجري في ((الشريعة)) (1884)، وأبو نعيم في ((تاريخ أصبهان)) (2/97). صحَّحه ابنُ حبان، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (7107). [1603] يُنظر: ((صحيح ابن حبان)) (16/ 40). .
ثُمَّ هو مَحمولٌ عَلى إرادةِ الأحياءِ من زَوجاتِه المَوجوداتِ حينَ السُّؤالِ، ثُمَّ هو وإن دَلَّ عَلى عُمومِ تَفضيلِها رَضِيَ اللهُ عنها إلَّا أنَّه مُقَيَّدٌ بالنَّصِّ في خَديجةَ وفاطِمةَ، واللهُ أعلَمُ. وما ثَبتَ لِعائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها مِنَ الفَضائِلِ الَّتي تَمَيَّزَت واختَصَّتَ بها بوَجهٍ مِنَ الوُجوهِ لا يَلزَمُ مِنهُ ثُبوتُ الفَضلِ المُطلَقِ لها عَلى غَيرِها من كُلِّ وجهٍ [1604] يُنظر: ((مباحث المفاضلة في العقيدة)) لمحمد الشظيفي (ص: 277). .
 قال القَسْطلانيُّ: (قال عَطاءُ بنُ أبي رَباحٍ: كانَت عائِشةُ رَضِيَ اللهُ عنها أفْقَهَ النَّاسِ وأعلَمَ النَّاسِ وأحسَنَ النَّاسِ رَأيًا في العامَّةِ. وقال عُروةُ بنُ الزُّبَيرِ: ما رَأيتُ أحَدًا أعلَمَ بفِقْهٍ ولا بطِبٍّ ولا بشِعرٍ من عائِشةَ. وقال الزُّهريُّ: لو جُمعَ عِلمُ عائِشةَ إلى عِلمِ جَميعِ أزواجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعِلمِ جَميعِ عِلمِ النِّساءِ، لكانَ عِلمُ عائِشةَ أفضَلَ، ومِن خَصائِصِها أنَّها كانَت أحَبَّ أزواجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَيه، وبَرَّأها اللهُ مِمَّا رَماها به أهلُ الإفكِ، وأنزَلَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ في عُذرِها وبَراءَتِها وحْيًا يُتَلى في مَحاريبِ المُسْلِمينَ إلى يَومِ الدِّينِ، والحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمينَ) [1605] يُنظر: ((إرشاد الساري)) (6/ 141). .
ومِن لِطائِفِ الأدِلَّةِ عَلى تَفضيلِ خَديجةَ عَلى عائِشةَ حَديثُ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((أتى جِبريلُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: يا رَسولَ اللَّهِ، هَذِه خَديجةُ قَد أتَت، مَعَها إناءٌ فيه إدامٌ أو طَعامٌ أو شَرابٌ، فإذا هيَ أتتْكَ فاقرَأْ عليها السَّلامَ مِن رَبِّها ومِنِّي، وبَشِّرْها ببَيتٍ في الجَنَّةِ من قَصَبٍ، لا صَخَبَ فيه ولا نَصَبَ )) [1606] رواه البخاري (3820) واللَّفظُ له، ومسلم (2432). .
وفي حَديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومًا: ((يا عائِشةُ، هَذا جِبريلُ يُقرِئُكِ السَّلامَ، فقُلتُ: وعليه السَّلامُ ورَحمةُ اللهِ وبَركاتُه، تَرى ما لا أرى، تُريدُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم )) [1607] رواه البخاري (3768) واللَّفظُ له، ومسلم (2447). .
قال ابنُ القَيِّمِ في خَديجةَ رَضِيَ اللهُ عنها: (مِن خَصائِصِها أنَّ اللهَ سُبحانَه بَعثَ إلَيها السَّلامَ مَعَ جِبريلَ عليه السَّلامُ فبَلَّغَها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذلك... وأمَّا عائِشةُ رَضِيَ اللهُ عنها فإنَّ جِبريلَ عليه السَّلامُ سَلَّمَ عليها عَلى لِسانِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [1608] يُنظر: ((جلاء الأفهام)) (ص: 235). .
 وقال ابنُ المُلقِّنِ: (إقراءُ جِبريلَ عليها السَّلامَ مِن رَبِّها جَلَّ جَلالُهُ دالٌّ عَلى فضلِ خَديجةَ عَلى عائِشةَ) [1609] يُنظر: ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) (20/ 432). .
قال ابنُ العَرَبيِّ في خَديجةَ رَضِيَ اللهُ عنها: (هيَ أفضَلُ نِساءِ الأمَّةِ من غَيرِ خِلافٍ) [1610] يُنظر: ((عارضة الأحوذي)) (13/253). .
وقال ابنُ حَجَرٍ مُعَقِّبًا: (رُدَّ بأنَّ الخِلافَ ثابِتٌ قَديمًا، وإن كانَ الرَّاجِحُ أفضَليَّةَ خَديجةَ) [1611] يُنظر: ((فتح الباري)) (7/139). .
وعائِشةُ رَضِيَ اللهُ عنها أفضَلُ زَوجاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعدَ خَديجةَ؛ لِأنَّه لم يُقَيِّدْ من عُمومِ تَفضيلِها عَلى النِّساءِ إلَّا خَديجةَ وفاطِمةَ بالنَّصِّ، وقَد ورَدتْ أحاديثُ كثيرةٌ تَدُلُّ عَلى تَفضيلِها عَلى بَقيَّةِ زَوجاتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ مِنها:
عن عُروةَ بنِ الزُّبَيرِ قال: ((كانَ النَّاسُ يَتَحَرَّونَ بهَداياهُم يَومَ عائِشةَ، قالت عائِشةُ: فاجتَمَعَ صَواحِبي إلى أمِّ سَلَمةَ، فقُلْنَ: يا أمَّ سَلَمةَ، واللهِ إنَّ النَّاسَ يَتَحَرَّونَ بهَداياهُم يَومَ عائِشةَ، وإنَّا نُريدُ الخَيرَ كما تُريدُهُ عائِشةَ، فمُرِي رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَأمُرَ النَّاسَ: أن يُهْدُوا إلَيه حَيثُ كانَ، أو حَيثُ دارَ، قالت: فذَكَرَتْ ذلك أمُّ سَلَمةَ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قالت: فأعرَضَ عنِّي، فلَمَّا عادَ إلَيَّ ذَكَرتُ لهُ ذلك فأعرَضَ عنِّي، فلَمَّا كانَ في الثَّالِثةِ ذَكَرَت لهُ فقال: يا أمَّ سَلَمةَ لا تُؤذِيني في عائِشةَ؛ فإنَّهُ واللهِ ما نَزَلَ عليَّ الوَحْيُ وأنا في لِحافِ امرَأةٍ منكُنَّ غَيرِها)) [1612] رواه البخاري (3775). .
وفي رِوايةٍ عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ النَّاسَ كانوا يَتَحَرَّونَ بهَداياهُم يَومَ عائِشةَ يَبتَغونَ بذلك مَرْضاةَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [1613] رواه البخاري (2574)، ومسلم (2441). .
 قال ابنُ حَجَرٍ: (في هذا الحديثِ مَنقَبةٌ ظاهِرةٌ لعائِشةَ) [1614] يُنظر: ((فتح الباري)) (5/ 207). .
وعن عُروةَ بنِ الزُّبَيرِ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا كانَ في مَرَضِه، جَعلَ يَدورُ في نِسائِه ويَقولُ: ((أينَ أنا غَدًا؟ أينَ أنا غَدًا؟ )). حِرصًا عَلى بَيتِ عائِشةَ، قالت عائِشةُ: فلَمَّا كانَ يَومي سَكَنَ [1615] رواه البخاري (3774) واللَّفظُ له، ومسلم (2443). .
 قال العَينيُّ: (قَولُه: «في مَرَضِه» أي: مَرَضِه الَّذي مات فيه، وفي رِوايةِ مُسْلِمٍ: قالت: إن كانَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليَتَفَقَّدُ، يَقولُ: أينَ أنا اليَومَ؟ أينَ أنا غَدًا؟ استِبطاءً ليَومِ عائِشةَ، وهذا حِرصًا، أي: لِأجلِ حِرصِه عَلى بَيتِ عائِشةَ) [1616] يُنظر: ((عمدة القاري)) (16/ 253). .
وجاءَ أنَّ الأميرَ زيادًا بَعثَ إلى أزواجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمالٍ، وفَضَّلَ عائِشةَ، فجَعل مَبعوثُه يَعتَذِرُ إلى أمِّ سَلَمةَ، فقالت: ((يَعتَذِرُ إلَينا زيادٌ! فقَد كانَ يُفَضِّلُها من كانَ أعظَمَ علينا تَفضيلًا من زيادٍ؛ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم )) [1617] رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (2651) من حديثِ عمرو بن الحارث بن المصطلق رضي الله عنه. حسن إسناده الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/245). .
وزَوجاتُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أفضَلُ نِساءِ الأمَّةِ؛ لِقَولِه تعالى: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ، وإنَّما خُصَّت فاطِمةُ رَضِيَ اللهُ عنها من عُمومِ الآيةِ بقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيها: ((إنَّها سَيِّدةُ نِساءِ الأمَّةِ)) [1618] رواه البخاري (6285، 6286)، ومسلم (2450) مطولًا باختلاف يسير من حديثِ عائشة رضي الله عنها. . وحُكِيَ الإجماعُ عَلى أفضَليَّةِ فاطِمةَ رَضِيَ اللهُ عنها [1619] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (7/109). قال ابن حجر: (قيل انعقد الإجماع على أفضلية فاطمة وبقي الخلاف بين عائشة وخديجة). .
وخُلاصةُ الأمرِ: أنَّ فاطِمةَ أفضَلُ نِساءِ هَذِه الأمَّةِ، وخَديجةُ أفضَلُ  زَوجاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ بَعدَهما عائِشةُ، ثُمَّ مِن بَعْدِها بَقيَّةُ أزواجِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ورَضِيَ اللهُ عنهن أفضَلُ من بَقيَّةِ الصَّحابيَّاتِ.
وقَد يُشْكِلُ عَلى ما ورَدَ في شَأنِ فاطِمةَ رَضِيَ اللهُ عنها مِنَ التَّفضيلِ حَديثُ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها الَّذي فيه ما وقَعَ لِزينبَ بنتِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ الأذى لَمَّا خَرَجَت من مَكَّةَ بَعدَ قُدومِ أبيها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى المَدينةِ، وفيه قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في زينِبَ: ((هيَ أفضَلُ بَناتي، أُصيبَتْ فيَّ)) [1620] رواه مطولًا البزار (93)، والحاكم (2812) واللَّفظُ لهما، والطبراني (22/431) (1051) باختلاف يسير. صحَّحه الحاكم على شرط الشيخين، وصحَّح إسنادَه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (3071)، وحسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (142)، وجوده ابن حجر في ((فتح الباري)) (7/136). .
قال الطَّحاويُّ: (أمَّا ما ذُكِرَ فيه من تَفضيلِ رَسولِ اللهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ زينَبَ عَلى سائِرِ بناتِه، فإنَّ ذلك كانَ ولا ابنةَ لهُ يومَئِذٍ فتَستَحِقَّ الفَضيلةَ غَيرُها؛ لِما كانَت عليه مِنَ الإيمانِ به والاتِّباعِ لهُ، ولِما نَزَلَ بها في بَدنِها من أجلِه مِمَّا قَد ذَكَرْنا، ثُمَّ كانَ بَعدَ ذلك مِمَّا وهَبَهُ اللهُ لهُ وأقَرَّ به عَينَهُ في ابنَتِه فاطِمةَ ما كانَ مِنهُ فيها من تَوفيقِه إيَّاها لِلأعمالِ الصَّالِحةِ الزَّاكيةِ، وما وُهِبَ لها مِنَ الوَلَدِ الَّذينَ صاروا لهُ ولَدًا وذُرِّيَّةً مِمَّا لم يَشْرَكْها في ذلك أحَدٌ من بناتِه سِواها، وكانَت قَبلَ ذلك في الوَقتِ الَّذي استَحَقَّت زينَبُ ما استَحَقَّت مِنَ الفَضيلةِ صَغيرةً غَيرَ بالِغٍ مِمَّن لا يَجري لها ثَوابٌ بطاعاتِها ولا عِقابٌ بخِلافِها) [1621] يُنظر: ((شرح مشكل الآثار)) (1/ 136). .

انظر أيضا: