الموسوعة العقدية

الفرعُ الثَّاني: فضْلُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم في السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ

1- عن أبي مُوسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: صَلَّيتُ المَغرِبَ مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثُمَّ قُلنا: لو جَلَسْنا حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَهُ العِشاءَ، قال: فجَلَسْنا فخَرجَ علينا فقال: ((ما زِلتُم هَاهُنا؟))، قُلنا: يا رَسولَ اللهِ صَلَّينا مَعَكَ المَغرِبَ، ثُمَّ قُلنا: نَجلِسُ حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَكَ العِشاءَ، قال: ((أحسَنْتُم أو أصبْتُم))، قال: فرَفعَ رَأسَه إلى السَّماءِ وكانَ كثيرًا ما يَرفَعُ رَأسَهُ إلى السَّماءِ، فقال: ((النُّجومُ أَمَنةُ السَّماءِ، فإذا ذَهَبَتِ النُّجومُ أتى السَّماءَ ما تُوعَدُ، وأنا أَمَنةٌ لِأصحابي فإذا ذَهَبْتُ أتى أصحابي ما يُوعَدونَ، وأصحابي أَمَنةٌ لِأُمَّتي فإذا ذَهَبَ أصحابي أتى أمَّتِي ما يُوعَدونَ )) [1481] رواه مسلم (2531). .
 قال النَّوَويُّ: (مَعنى الحَديثِ أنَّ النُّجومَ ما دامَت باقيةً فالسَّماءُ باقيةٌ، فإذا انكَدَرَتِ النُّجومُ وتَناثَرَت في القيامةِ وهَنَتِ السَّماءُ فانفَطَرَت وانشَقَّت وذَهَبَت، وقَولُهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((وأنا أَمَنةٌ لِأصحابي فإذا ذَهَبْتُ أتى أصحابي ما يُوعَدونَ)) أي: مِنَ الفِتَنِ والحُروبِ وارتِدادِ مَنِ ارتَدَّ مِنَ الأعرابِ واختِلافِ القُلوبِ ونَحوِ ذلك مِمَّا أَنذَرَ به صَريحًا، وقَد وقَعَ كُلُّ ذلك. قَولُهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((وأصحابي أَمَنةٌ لِأمَّتي، فإذا ذَهَبَ أصحابي أتى أمَّتِي ما يُوعَدونَ )) مَعناهُ من ظُهورِ البِدَعِ والحَوادِثِ في الدِّين والفِتَنِ فيه، وطُلوعِ قَرنِ الشَّيطانِ، وظُهورِ الرُّومِ وغَيرِهِم عليهِم، وانتِهاكِ المَدينةِ ومَكةَ، وغَيرِ ذلك، وهَذِه كُلُّها من مُعجِزاتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [1482] يُنظر: ((شرح مسلم)) (16/ 83). .
2- عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يَأتي عَلى النَّاسِ زَمانٌ يَغزو فِئامٌ [1483] قال ابن الأثير: (الِفئامُ مهموز: الجماعة الكثيرة) ((النهاية)) (3/ 406). مِنَ النَّاسِ فيقالُ لهم: فيكم من رَأى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فيَقولونَ: نَعَم، فيُفتَحُ لهم، ثُمَّ يَغزو فِئامٌ مِنَ النَّاسِ فيُقالُ لهم: فيكم من رَأى مَن صَحِبَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فيَقولونَ: نَعَم، فيُفتَحُ لهم، ثُمَّ يَغزو فِئامٌ مِنَ النَّاسِ فيُقال لهم: هَل فيكم من رَأى من صَحِبَ مَن صَحِبَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فيَقولونَ: نَعَم، فيُفتَحُ لهم )) [1484] رواه البخاري (2897)، ومسلم (2532) واللَّفظُ له. .
 قال ابنُ بطَّالٍ: (يُفتَحُ لهم لِفَضلِهِم، ثُمَّ يُفتَحُ لِلتَّابِعينَ لِفَضلِهِم، ثُمَّ يُفتَحُ لِتابِعيهِم لِفَضلِهِم، وأوجَبَ الفَضلَ لِثَلاثةِ القُرونِ، ولَم يَذكُرِ الرَّابِعَ، ولَم يَذكُرْ فَضلًا، فالنَّصرُ فيهِم أقَلُّ) [1485] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (5/ 91). .
3- عن عَبد اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سُئِلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّ النَّاسِ خَيرٌ؟ قال: ((قَرْني، ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهم، ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهم، ثُمَّ يَجيءُ قَومٌ تَبدُرُ شَهادةُ أحَدِهِم يَمينَهُ، وتَبْدُرُ يَمينُهُ شَهادَتَه [1486] قال النووي: (قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم (ثم يجيء قومٌ تسبق شهادةُ أحَدِهم يمينَه، ويمينُه شهادتَه) هذا ذمٌّ لمن يشهد ويحلِف مع شهادته... ومعنى الحديث: أنه يجمع بين اليمين والشهادة؛ فتارةً تسبق هذه وتارةً هذه، وفي الرواية الأخرى: "تبدر شهادةُ أحدِهم" وهو يعني: تسبِقُ) ((شرح مسلم)) (16/ 85). ) [1487] رواه البخاري (3651)، ومسلم (2533) واللَّفظُ له. .
 قال ابنُ هُبَيرةَ: (في هَذا الحَديثِ دَليلٌ عَلى أنَّ خَيرَ النَّاسِ الَّذينَ صَحِبوا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ورَأوهُ، ثُمَّ التَّابِعونَ لهم بإحسانٍ، كما قال عَزَّ وجَلَّ: والَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ) [1488] يُنظر: ((الإفصاح)) (2/ 49). .
 وقال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (يَعني: أنَّ هَذِه القُرونَ الثَّلاثةَ أفضَلُ مِمَّا بَعدَها إلى يَومِ القيامةِ، وهَذِه القُرونُ في أنفُسِها مُتَفاضِلةٌ، فأفضَلُها: الأوَّلُ، ثُمَّ الَّذي بَعدَهُ، ثُمَّ الَّذي بَعدَهُ. هَذا ظاهِرُ الحَديثِ. فأمَّا أفضَليَّةُ الصَّحابةِ، وهمُ القَرنُ الأوَّلُ عَلى مَن بَعدَهم، فلا تَخفى... وأمَّا أفضَليَّةُ مَن بَعدَهم بَعضِهم عَلى بَعضٍ، فبِحَسَبِ قُربِهِم مِنَ القَرنِ الأوَّلِ، وبِحَسَبِ ما ظَهَرَ عَلى أيديهِم من إعلاءِ كلِمةِ الدِّين، ونَشْرِ العِلمِ، وفَتحِ الأمصارِ، وإخمادِ كَلِمةِ الكُفرِ، ولا خَفاءَ أنَّ الَّذي كانَ من ذلك في قَرنِ التَّابِعين كانَ أكثَرَ وأغلَبَ مِمَّا كانَ في أتباعِهِم، وكَذلك الأمرُ في الَّذينَ بَعدَهم، ثُمَّ بَعدَ هَذا غَلَبَتِ الشُّرورُ، وارتُكِبَتِ الأمورُ) [1489] يُنظر: ((المفهم)) (6/ 486). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (الِاعتِبارُ بالقُرونِ الثَّلاثةِ بجُمهورِ أهلِ القَرنِ، وهم وسَطُهُ، وجُمهورُ الصَّحابةِ انقَرَضوا بانقِراضِ خِلافةِ الخُلَفاءِ الأربَعةِ، حَتَّى إنَّهُ لم يَكُنْ بَقي من أهلِ بَدرٍ إلَّا نَفرٌ قَليلٌ، وجُمهورُ التَّابِعين بإحسانٍ انقَرَضوا في أواخِرِ عَصرِ أصاغِرِ الصَّحابةِ في إمارةِ ابنِ الزُّبيرِ وعَبدِ المِلكِ، وجُمهورُ تابِعِي التَّابِعينَ في أواخِرِ الدَّولةِ الأُمَويَّةِ وأوائِلِ الدَّولةِ العَبَّاسيَّةِ) [1490] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (10/ 357). .
4- عن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ خَيرَكم قَرني، ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهم، ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهم، ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهم)) قال عِمرانُ: فلا أدري أقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعدَ قَرنِه مَرَّتين أو ثَلاثًا ((ثُمَّ يَكونُ بَعدَهم قَومٌ يَشهَدونَ ولا يُستَشهَدونَ، ويَخونونَ ولا يُؤتَمَنونَ، ويَنذِرونَ ولا يُوفُونَ، ويَظهَرُ فيهِم السِّمَنُ)) [1491] رواه البخاري (2651)، ومسلم (2535) واللَّفظُ له. . زادَ في رِوايةٍ: ((ويَحلِفونَ ولا يُستَحلَفونَ)) [1492] رواه مسلم (2535). .
 قال السُّيوطيُّ: (القَرنُ: أهْلُ زَمانٍ واحِدٍ مُتَقارِبٍ، اشتَرَكوا في أمرٍ مِنَ الأمورِ المَقصودةِ، والأصَحُّ: أنَّه لا يَنضَبِطُ بمُدَّةٍ، فقَرنُهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم همُ الصَّحابةُ، وكانَت مُدَّتُهم مِنَ المَبعَثِ إلى آخِرِ من ماتَ مِنَ الصَّحابةِ مِائةً وعِشرينَ سَنةً، وقَرنُ التَّابِعين من سَنةِ مِائةٍ إلى نَحوِ سَبعين، وقَرنُ أتباعِ التَّابِعين مِن ثَمَّ إلى حُدودِ العِشرينَ ومِائَتين، وفي هَذا الوَقتِ ظَهَرَتِ البِدَعُ ظُهورًا فاشيًا، وأطلَقَتِ المُعتَزِلةُ ألسِنَتَها، ورَفَعَتِ الفَلاسِفةُ رُؤوسَها، وامتُحِنَ أهلُ العِلمِ ليَقولوا بخَلقِ القُرآنِ، وتَغَيَّرَتِ الأحوالُ تَغَيُّرًا شَديدًا، ولَم يَزَلِ الأمرُ في نَقصٍ إلى الآنَ) [1493] يُنظر: ((التوشيح شرح الجامع الصحيح)) (6/ 2316). .
وقال القَسْطلانيُّ: ( ((خَيْرُكم)) أي: خَيرُ النَّاسِ أهْلُ ((قَرْني)) أي عَصري، مَأخوذٌ من الِاقتِرانِ في الأمرِ الَّذي يَجمَعُهم، والمُرادُ هُنا الصَّحابةُ. قيلَ: والقَرنُ: ثَمانونَ سَنةً أو أربَعونَ، أو مِائة أو غَيرُ ذلك ((ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهم)) أي يَقرُبونَ مِنهم، وهمُ التَّابِعونَ ((ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهم)) وهم أتباعُ التَّابِعين) [1494] يُنظر: ((إرشاد الساري)) (4/ 383). .
5- عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: كانَ بَينَ خالِدِ بْنِ الوَليدِ وبَينَ عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ عَوفٍ شَيءٌ، فسَبَّهُ خالِدٌ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَسُبُّوا أحَدًا من أصحابي، فإنَّ أحَدَكم لو أنفَقَ مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، ما أدرَكَ مُدَّ أحَدِهم ولا نَصيفَه )) [1495] رواه البخاري (3673) ومسلم (2541) واللَّفظُ له. .
 قال ابنُ الجَوزيِّ: (المُدُّ: رُبعُ الصَّاعِ. والنَّصيفُ: نِصفُهُ. قال أبو عُبَيدٍ: والعَرَبُ تُسَمِّي النِّصفَ: النَّصيفَ... فإنْ قال قائِلٌ: لِمَن خاطَبَ؟ إن كانَ خاطَبَ أصحابَه فكَيفَ يَقولُ: ((يا أصحابي))، ((ولا تَسُبُّوا أصحابي)) وإن كانَ خاطَبَ التَّابِعين فما وُجِدوا بَعدُ. فالجَوابُ: أنَّه يَحتَمِلُ الأمرَينِ، فإن كانَ خاطَبَ أصحابَه فالخِطابُ لِلمُتَأخِّرين مِنهم، فأعلَمُهم أنَّهم لن يَبلُغوا مَرتَبةَ المُتَقَدِّمين، كما قال في حَقِّ أبي بَكْرٍ: ((قُلتُم: كذَبْتَ، وقال: صَدَقْتَ، فهَل أنتُم تارِكو صاحِبي؟)) [1496] أخرجه البخاري (3661) باختلاف يسير مطولًا. . ويَكشِفُ هَذا قَولُهُ تعالى: لَا يَستَوي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ [الحَديد: 10] وإن كانَ قال لِمَن سَيَأتي فعلى مَعنى: بَلِّغوا مَن يَأتي، ويوَضِّحُهُ قَولُهُ تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] ) [1497] يُنظر: ((كشف المشكل من حديثِ الصحيحين)) (3/ 150). .

انظر أيضا: