الموسوعة العقدية

المبحثُ الثَّالِثُ: دَليلُ الإجماعِ

أجمَعَ الصَّحابةُ رِضوانُ اللهِ عليهم على تَعيينِ خَليفةٍ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعدَ وفاتِه، بَل حَتَّى قَبلَ دَفنِه وتَجهيزِه.
عن عائِشةَ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنها (أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مات، وأبو بَكْرٍ بالسُّنْحِ [1241] السنْح: قيل بتسكين النون وقيل بضمِّها: منازِلُ بني الحارث من الخزرج بالعوالي، بينه وبين المسجد النبويِّ مِيلٌ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (7/29). قال إسماعيلُ -يَعني بالعاليةِ- فقامَ عُمرُ يَقولُ: واللَّهِ ما مات رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! قالت: وقال عُمرُ: واللَّهِ ما كان يَقَعُ في نَفسي إلَّا ذاكَ، وليَبعَثنَّهُ اللَّهُ فليَقطَعنَّ أيديَ رَجالٍ وأرجُلَهم، فجاءَ أبو بَكْرٍ فكَشَفَ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقَبَّلَهُ، فقال: بأبي أنتَ وأمِّي طِبتَ حَيًّا وميِّتًا، والَّذي نَفسي بيدِه لا يُذيقَنَّكَ اللَّهُ المَوتَتَين أبَدًا، ثُمَّ خَرج فقال: أيُّها الحالِفُ على رِسْلِكَ! فلَمَّا تَكَلَّمَ أبو بَكرٍ جَلسَ عُمرَ، فحَمِدَ اللَّهَ أبو بَكْرٍ وأثنى عليه، وقال: ألا من كان يَعبُدُ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فإنَّ مُحَمَّدًا قد مات، ومن كان يَعبُدُ اللَّهَ فإنَّ اللهَ حَيٌّ لا يَموتُ، وقال: إِنَّكَ ميِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] ، وقال: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144] ، فنَشِجَ النَّاسُ [1242] قال ابن حجر: (قوله: فنَشِجَ الناسُ بفتح النون وكسر المعجمة بعدها جيم، أي: بكَوا بغيرِ انتحابٍ، والنَّشجُ: ما يعرِضُ في حَلقِ الباكي من الغُصَّة، وقيل: هو صوتٌ معه ترجيعٌ كما يردِّدُ الصبيُّ بكاءَه في صدرِه) ((فتح الباري)) (7/30). يَبكونَ، واجتَمَعَتِ الأنصارُ إلى سَعدِ بنِ عُبادةَ في سَقيفةِ بني ساعِدةَ، فقالوا: منَّا أميرٌ، ومنكُم أميرٌ، فذَهبَ إليهم أبو بَكْرٍ وعُمَرُ وأبو عُبَيدةَ بنُ الجَرَّاحِ، فذَهبَ عُمَرُ يَتَكَلَّمُ، فأسكَتَه أبو بَكْرٍ، وكان عُمَرُ يَقولُ: واللَّهِ ما أرَدتُ بذلك إلَّا أنِّي قد هيَّأْتُ كلامًا قد أعجَبني خَشِيتُ ألَّا يَبلُغَه أبو بَكرٍ، ثُمَّ تَكَلَّمَ أبو بَكْرٍ، فتَكَلَّمَ أبلَغَ النَّاسِ، فقال في كلامِه: نَحنُ الأُمَراءُ، وأنتُمُ الوُزَراءُ، فقال حُبَابُ بنُ المُنذِرِ: واللَّهِ لا نَفعَلُ، مِنَّا أميرٌ، ومنكُم أميرٌ، فقال أبو بَكْرٍ: لا، ولَكِنَّا الأمراءُ، وأنتُمُ الوُزراءُ، هم أوسَطُ العَربِ دارًا، وأعرَبُهم أنسابًا، فبايِعوا عُمَرَ أو أبا عُبَيدةَ، فقال عُمَرُ: بَل نُبايِعُكَ أنتَ، فأنتَ سَيِّدُنا وخَيْرُنا، وأحَبُّ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخذَ عُمَرُ بيَدِه فبايَعَه، وبايعَهُ النَّاسُ) [1243] رواه البخاري (3667، 3668). .
فالصَّحابةُ رِضوانُ اللهِ عليهم أجمَعينَ بمُجَرَّدِ أنَّ بَلغَهم نَبأُ وفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بادَروا إلى عَقدِ اجتِماعِ السَّقيفةِ الَّذي ضَمَّ كِبارَ المَهاجِرينَ والأنصارِ، وتَرَكوا أهمَّ الأمورِ لَدَيهم ذلك الوَقتَ، وهو تَجهيزُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتَشييعُه.
قال ابنُ حَجَرٍ عنِ الصَّحابةِ والخِلافةِ: (تَركوا لأجلِ إقامَتِها أعظَمَ المُهمَّاتِ وهو التشاغُلُ بدَفْنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَتَّى فرَغوا منها) [1244] يُنظر: ((فتح الباري)) (7/32). .
وقال الهيتمي: (اعلَمْ أيضًا أنَّ الصَّحابةَ رِضْوانُ اللهِ تعالى عليهم أجمَعينَ أجمَعوا على أنَّ نَصْبَ الإمامِ بَعدَ انقِراضِ زَمَنِ النُّبوةِ واجِبٌ، بَل جَعلوهُ أهمَّ الواجِباتِ؛ حَيثُ اشتَغَلوا به عن دَفنِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [1245] يُنظر: ((الصواعق المحرقة)) (1/25). .
ومن أقوالِ أهلِ العِلمِ في الإجْماعِ على وُجوبِ الإمامةِ:
1- قال الماوَرديُّ في الإمامةِ: (عَقْدُها لِمَن يَقومُ بها في الأمَّةِ واجِبٌ بالإجْماعِ، وإن شَذَّ عنهمُ الأصَمُّ) [1246] يُنظر: ((الأحكام السلطانية)) (ص: 15). .
2- قال ابنُ حَزْمٍ: (اتَّفَقَ جَميعُ أهلِ السُّنَّة، وجَميعُ المُرجِئةِ، وجَميعُ الشِّيعةِ، وجَميعُ الخَوارِجِ على وُجوبِ الإمامةِ، وأنَّ الأمَّةَ واجِبٌ عليها الانقيادُ لإمامٍ عادِلٍ، يُقيمُ فيهم أحكامَ اللَّهِ، ويَسُوسُهم بأحكامِ الشَّريعةِ الَّتي أتَى بها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [1247] يُنظر: ((الفصل)) (4/72). .
3- قال القُرطُبيُّ: (لا خِلافَ في وُجوبِ ذلك بَينَ الأمَّةِ ولا بَينَ الأئِمَّةِ، إلَّا ما رُوِيَ عنِ الأصَمِّ؛ حَيثُ كان عنِ الشَّريعةِ أصَمَّ، وكَذلك كُلُّ من قال بقَولِه واتَّبَعَه على رَأيِه ومَذهَبِه) [1248] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (1/264). .
4- قال النَّوَويُّ: (أجمعوا على أنَّه يجِبُ على المسلِمينَ نَصبُ خليفةٍ) [1249] يُنظر: ((شرح مسلم)) (12/205). .
5- قال ابنُ خَلدون: (نَصْبُ الإمامِ واجِبٌ، وقد عُرِفَ وُجوبُهُ في الشَّرعِ بإجْماعِ الصَّحابةِ والتابِعين؛ لأنَّ أصحابَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِندَ وفاتِه بادَروا إلى بيعةِ أبي بَكْرٍ رَضيَ اللهُ عنه، وتَسليمِ النَّظَرِ إليه في أمورِهم، وكَذا في كُلِّ عَصرٍ من بَعدِ ذلك، ولم تُترَكِ النَّاسُ فوضى في عَصرٍ من الأعصارِ، واستَقَرَّ ذلك إجْماعًا دالًّا على وُجوبِ نَصْبِ الإمامِ) [1250] يُنظر: ((تاريخ ابن خلدون)) (1/239). .
6- قال مُحَمَّد رشيد رِضا: (أجمَعَ سَلَفُ الأمَّةِ وأهلُ السُّنَّةِ وجُمهورُ الطَّوائِفِ الأخرَى على أنَّ نَصْبَ الإمامِ -أي تَوليَتَهُ على الأمَّةِ- واجِبٌ على المُسلِمينَ) [1251] يُنظر: ((الخلافة)) (ص: 18). ويُنظر: ((الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة)) للدميجي (ص: 44 - 56). .
ومن أقوالِ أهلِ العِلمِ في وُجوبِ الإمامةِ
1- قال الخَطابيُّ: (قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الأئِمَّةُ من قُرَيشٍ)) [1252] أخرجه أحمد (12900)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5942) مطولًا من حديث أنس رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه العراقي في ((محجة القرب)) (189)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (2758)، والوادعي في ((أحاديث معلة)) (40)، وصحَّحه بطرقه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (12900)، وحسنه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/474). ، فكان مَعناهُ الأمرَ بعَقدِ البيعةِ لإمامٍ مِن قُرَيشٍ؛ ولِذلك رُئِيتِ الصَّحابةُ يَومَ مات رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَقضوا شَيئًا من أمرِ دَفنِه وتَجهيزِه حَتَّى أحكَموا أمرَ البيعةِ، ونَصَبوا أبا بَكْرٍ إمامًا وخَليفةً، وكانوا يُسَمُّونَهُ خَليفةَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طولَ عُمُرِه؛ إذ كان الَّذي فعَلوهُ من ذلك صادِرًا عن رَأيِه ومُضافًا إليه، وذلك من أدَلِّ الدَّليلِ على وُجوبِ الخِلافةِ، وأنَّه لا بُدَّ للنَّاسِ من إمامٍ يَقومُ بأمرِ النَّاسِ، ويُمضي فيهم أحكامَ اللَّهِ، ويَردَعُهم عنِ الشَّرِّ، ويَمنَعُهم من التظالُمِ والتفاسُدِ،... وكُلُّ ذلك يَدُلُّ على وُجوبِ الاستِخلافِ ونَصْبِ الإمامِ، ثُمَّ إنَّ عُمرَ لم يُهمِلِ الأمرَ، ولم يُبطِلِ الاستِخلافَ، ولَكِن جَعلَهُ شورَى في قَومٍ مَعدودِينَ لا يَعدُوهم، فكُلُّ من أقامَ بها كان رِضًا ولَها أهلًا، فاختاروا عُثمانَ، وعَقدوا لَهُ البيعةَ، فالاستِخلافُ سُنَّةٌ اتَّفَقَ عليها المَلأُ من الصَّحابةِ، وهو اتِّفاقُ الأمَّةِ، لم يُخالِفْ فيه إلَّا الخَوارِجُ والمارِقةُ الَّذينَ شَقُّوا العَصا وخَلَعوا رِبْقةَ الطَّاعةِ) [1253] يُنظر: ((معالم السنن)) (3/5). .
2- قال أبو عَمرٍو الدَّاني: (إقامةُ الإمامِ مَعَ القُدرةِ والإمكانِ فرضٌ على الأمَّةِ لا يَسعُهم جَهْلُه والتخَلُّفُ عنه، وإقامَتُه إلى أهلِ الحَلِّ والعَقدِ من الأمَّةِ دونَ النَّصِّ من رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفَرضُ إقامَتِه من فُروضِ الكِفايةِ، فإذا قامَ به البَعضُ سَقَطَ عنِ الباقينَ؛ كفَرضِ الجِهادِ، والصَّلاةِ على الجَنائِزِ، والأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ، وجَمعِ القُرآنِ، ونَحوِ ذلك) [1254] يُنظر: ((الرسالة الوافية لمذهب أهل السنة في الاعتقادات وأصول الديانات)) (ص: 239-242). .
3- قال أبو يَعلَى: (نصبةُ الإمامِ واجِبةٌ، وقد قال أحمَدُ رَضيَ اللهُ عنه -في رِوايةِ مُحَمَّدِ بن عفو بن سُفيانَ الحمصي-: الفِتنةُ إذا لم يَكُن إمامٌ يَقومُ بأمرِ النَّاسِ.
والوَجهُ فيه: أنَّ الصَّحابةَ لما اختَلَفوا في السَّقيفةِ فقالتِ الأنصارُ: منا أميرٌ ومنكُم أميرٌ، ودَفَعَهم أبو بَكْرٍ وعُمرُ رَضيَ اللهُ عنهما، وقالوا: «إنَّ العَربَ لا تَدِينُ إلَّا لهذا الحَيِّ من قُرَيشٍ»، ورَوَوا في ذلك أخبارًا، فلَولا أنَّ الإمامةَ واجِبةٌ لَما ساغَت تِلكَ المُحاوَرةُ والمُناظَرةُ عليها، ولَقال قائِلٌ: لَيسَت بواجِبةٍ لا في قُرَيشٍ ولا في غَيرِهم) [1255] يُنظر: ((الأحكام السلطانية)) (ص: 19). .
4- قال الجُوَينيُّ: (نَصْبُ الإمامِ عِندَ الإمكانِ واجِبٌ) [1256] يُنظر: ((غياث الأمم في التياث الظلم)) (ص: 22). .
وقال في بَيانِ الحِكمةِ من نَصْبِ الإمامِ: (لا يَرتابُ من مَعَه مُسكةٌ من عَقلٍ أنَّ الذَّبَّ عنِ الحَوزةِ، والنِّضالَ دونَ حِفظِ البَيضةِ، مَحتومٌ شَرعًا، ولَو تُرِكَ النَّاسُ فوضى لا يَجمَعُهم على الحَقِّ جامِعٌ، ولا يَزعُهم وازِعٌ، ولا يَردَعُهم عنِ اتِّباعِ خُطُواتِ الشَّيطانِ رادِعٌ، مَعَ تَفَنُّنِ الآراءِ، وتَفَرُّقِ الأهواءِ لانتَثَرَ النِّظامُ، وهلَكَ العِظامُ، وتَوَثَّبَتِ الطَّغامُ والعَوامُّ، وتَحزَّبَتِ الآراءُ المُتَناقِضةُ، وتَفَرَّقَتِ الإراداتُ المُتَعارِضةُ، ومَلكَ الأرذَلونَ سُراةَ النَّاسِ، وفُضَّتِ المَجامِعُ، واتَّسَعَ الخَرقُ على الرَّاقِعِ، وفَشَتِ الخُصوماتُ، واستَحوَذَ على أهلِ الدِّينِ ذوو العَراماتِ، وتَبَدَّدَتِ الجَماعاتُ، ولا حاجةَ إلى الإطنابِ بَعدَ حُصولِ البَيانِ، وما يَزَعُ اللَّهُ بالسُّلطانِ أكثَرُ مِمَّا يَزَعُ بالقُرآنِ) [1257] يُنظر: ((غياث الأمم في التياث الظلم)) (ص: 23). .
5- قال أبو اليسرِ البَزدَويُّ: (قال عامَّةُ أهلِ القِبْلةِ: يَجِبُ على النَّاسِ أن يَختاروا واحِدًا للإمامةِ، ويُفتَرَضُ عليهم إلَّا أنَّه فَرْضُ كِفايةٍ، إن قامَ به البَعضُ سَقَطَ عنِ الباقين...
وَجهُ قَولِ عامَّةِ أهلِ القِبلةِ أنَّ الصَّحابةَ بَعدَ وفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ورَضِيَ عنهمُ اشتَغَلوا بتَعيينِ الإمامِ، وقدَّموهُ على سائِرِ الفَرائِضِ، ولَولا أنَّه فريضةٌ لَمَا قدَّموهُ على سائِرِ الفَرائِضِ، وهو قِتالُ الكُفَّارِ، والكَسبُ وغَيرُ ذلك؛ لأنَّه لا بَقاءَ للعالَمِ إلَّا بدَفعِ المُنازَعاتِ، وإنصافِ المَظلومِ من الظَّالِمِ، وقَتلِ السُّعاةِ في الأرضِ بالفَسادِ؛ فإنَّ المُنازَعةَ تُؤَدِّي إلى التَّفاني، وإلى فسادِ العالَمِ، ولا يَقومُ ذلك إلَّا بالإمامِ؛ فيَجِبُ على النَّاسِ تَعيينُ أحَدٍ للإمامةِ، ولَكِن إذا قامَ به البَعضُ يَسقُطُ عنِ الباقينَ) [1258] يُنظر: ((أصول الدين)) (ص 191). .
6- قال الغَزاليُّ: (بَيانُ وُجوبِ نَصْبِ الإمامِ: ولا يَنبَغي أن تَظُنَّ أنَّ وُجوبَ ذلك مَأخوذٌ من العَقلِ، فإنَّا بَيَّنَّا أنَّ الوُجوبَ يُؤخَذُ من الشَّرعِ، إلَّا أن يُفَسَّرَ الواجِبُ بالفِعلِ الَّذي فيه فائِدةٌ وفي تَركِه أدنى مَضَرَّةٍ، وعِندَ ذلك لا يُنكَرُ وُجوبُ نَصبِ الإمامِ لِما فيه من الفَوائِدِ ودَفعِ المَضارِّ في الدُّنيا، ولَكِنَّا نُقيمُ البُرهانَ القَطعيَّ الشَّرعيَّ على وُجوبِه، ولَسْنا نَكتَفي بما فيه من إجْماعِ الأمَّةِ، بَل نُنَبِّهُ على مُستَنَدِ الإجْماعِ، ونَقولُ: نِظامُ أمرِ الدِّينِ مَقصودٌ لصاحِبِ الشَّرعِ عليه السَّلامُ قَطعًا، وهذه مُقدِّمةٌ قَطعيَّةٌ لا يُتَصَوَّرُ النِّزاعُ فيها، ونُضيفُ إليها مُقدِّمةً أخرَى، وهو أنَّه لا يَحصُلُ نِظامُ الدِّينِ إلَّا بإمامٍ مُطاعٍ، فيَحصُلُ من المُقدِّمَتَين صِحَّةُ الدَّعوَى، وهو وُجوبُ نَصْبِ الإمامِ) [1259] يُنظر: ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص: 127). .
7- قال أبو المُعينِ النَّسَفيُّ: (المُسلِمونَ لا بُدَّ لَهم من إمامٍ يَقومُ بتَنفيذِ أحكامِهم، وإقامةِ حُدودِهم، وسَدِّ ثُغورِهم المُتَلَصِّصةِ، وتَجهيزِ جُيوشِهم، وأخذِ صَدَقاتِهم، وقَطْعِ مادَّةِ شُرورِ المُتَغَلِّبةِ والمُتَسَلِّطةِ وقُطَّاعِ الطَّريقِ، وإقامةِ الجُمَعِ والأعيادِ، وقَطْعِ المُنازَعاتِ الواقِعةِ الَّتي لَو دامَت لأفَضتْ إلى التقاتُلِ والتفاني، وقَبولِ الشَّهاداتِ القائِمةِ على الحُقوقِ، وتَزويجِ الصِّغارِ والصَّغائِرِ الَّذينَ لا أولياءَ لَهم، وقِسمةِ ما أفاءَ اللهُ تعالى عليهم من الغَنائِمِ؛ ولِهذا اجتَمَعَتِ الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم على نَصْبِ الإمامِ...
ثُمَّ يَنبَغي أن يَكونَ الإمامُ في كُلِّ وقتٍ ظاهِرًا يُمكِنُه القيامُ بما نُصِبَ هو لَهُ؛ إذ نَصْبُ من لا يُمكِنُه القيامُ بذلك غَيرُ مُفيدٍ، وبِهذا يَبطُلُ قَولُ الرَّوافِضِ بإمامٍ غائِبٍ مُختَفٍ يَنتَظِرونَ خُروجَهُ!) [1260] يُنظر: ((التمهيد في أصول الدين)) (ص 155). .
8- قال الطُّرْطُوشيُّ: (اعلَموا -أرشَدَكُم اللَّهُ- أنَّ في وُجودِ السُّلطانِ في الأرضِ حِكمةً للهِ تعالى عَظيمةً، ونِعمةً على العِبادِ جَزيلةً؛ لأنَّ اللهَ سُبحانَهُ وتعالى جَبَلَ الخَلائِقَ على حُبِّ الانتِصافِ، وعَدَمِ الإنصافِ، ومَثَلُهم بلا سُلْطانٍ كمَثَلِ الحوتِ في البَحرِ يَزدَرِدُ الكَبيرَ والصَّغيرَ، فمَتَى لم يَكُن لَهم سُلْطانٌ قاهِرٌ لم يَنتَظِم لَهم أمرٌ، ولم يَستَقِرَّ لَهم مَعاشٌ، ولم يَتَهنَّوا بالحَياةِ) [1261] يُنظر: ((سراج الملوك)) (ص: 47). .
9- قال عياضٌ مُعَلِّقًا على قَولِ عُمَرَ بنِ الخَطابِ رَضيَ اللهُ عنه: (وإنَّ اللهَ لم يَكُن ليُضيعَ دينَهُ ولا خِلافَتَه) [1262] أخرجه مسلم (567) ، بقَولِه: (قَولُه: «إنَّ اللهَ لا يُضيعُ دينَهُ ولا خِلافَتَه»: حُجَّةٌ لِما وقَعَ عليه إجْماعُ المُسلِمينَ من إقامةِ خَليفةٍ لَهم) [1263] يُنظر: ((إكمال المعلم)) (2/501). .
10- قال أبو الحُسَيْنِ يَحيى العمرانيُّ: (نَصْبُ الإمامِ في وقتِنا حَقٌّ واجِبٌ، فمَن وُجِدَت فيه شُروطُ الإمامةِ وظَهرَت شَوكَتُه وقَويَ أمرُه، وجَبَت طاعَتُه، ولا يَجوزُ الخُروجُ عليه بقَولٍ ولا فعلٍ، سَواءٌ كانت إمامَتُه بعَقدِ أهلِ الحَلِّ والعَقدِ لَهُ، أو باستِخلافِ إمامٍ حَقٍّ قَبلَهُ لَهُ، أو بغَلبَتِه بالسَّيفِ) [1264] يُنظر: ((الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار)) (1/101). .
وقال في بَيانِ الحِكمةِ من نَصبِ الإمامِ: (المَعنى الَّذي نُصِبَ الإمامُ لأجلِه هو انتِظامُ أمرِ الدُّنيا والدِّين؛ لأنَّ نِظامَ الدِّين لا يَحصُلُ إلَّا بانتِظامِ الدُّنيا من تَدبيرِ الجُيوشِ، وسَدِّ الثُّغورِ، ورَدْعِ الظَّالِمِ، وأخذِ الحَقِّ للمَظلومِ، ونَصْبِ القُضاةِ، وجَمعِ شَتَاتِ الآراءِ، وإقامةِ الحُدودِ، فجُملةُ الدُّنيا في حَقِّ الإمامِ كبَلدةٍ في حَقِّ قاضٍ من القُضاةِ!) [1265] يُنظر: ((الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار)) (3/816). .
11- قال التَّفتازانيُّ: (نَصْبُ الإمامِ بَعدَ انقِراضِ زَمَنِ النُّبُوةِ واجِبٌ عَلَينا سَمعًا عِندَ أهلِ السُّنَّة) [1266] يُنظر: ((شرح المقاصد في علم الكلام)) (2/273-275). .
12- قال عَبدُ الرَّحمَنِ بن مُحَمَّدِ بنِ قاسِمٍ: (نَصْبُهُ فرضُ كِفايةٍ لازِمٌ واجِبٌ بالسُّنَّةِ والإجْماعِ؛ لِمَسيسِ الحاجةِ إليه) [1267] يُنظر: ((حاشية الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية)) (ص 133). .

انظر أيضا: