الموسوعة العقدية

الفَصلُ الخامِسُ: تقديسُ الأشياءِ

إنَّ غايةَ التعظيمِ وكَمالَه لا يكونُ إلَّا للهِ وَحْدَه لا شريكَ له، فهو المستَحِقُّ وَحْدَه لأعظَمِ التقديسِ وتمامِه، فهو المحمودُ على كُلِّ شَيءٍ لذاتِه، وأمَّا غيرُه سُبحانَه فإنَّما يستحِقُّ من التعظيمِ بحَسَبِ ما له مِن مكانةٍ عندَ اللهِ، وبالطَّريقةِ التي شَرَعَها اللهُ لتعظيمِه، وكُلُّ تعظيمٍ خَرَج عن ذلك فهو تعظيمٌ مُحَرَّمٌ لا يأذَنُ به اللهُ سُبحانَه.
قال اللهُ تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر: 67] .
وقال سُبحانَه: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الحاقة: 52] .
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [نوح: 13، 14].
 قال ابنُ تيميَّةَ: (يجِبُ أن يكونَ اللهُ أحَبَّ إلى العَبدِ مِن كُلِّ شيءٍ، وأن يكونَ اللهُ أعظَمَ عِندَه مِن كُلِّ شيءٍ، بل لا يستَحِقُّ المحبَّةَ والذُّلَّ التَّامَّ إلَّا اللهُ، وكُلُّ ما أُحِبَّ لغيرِ اللهِ فمَحبَّتُه فاسدةٌ، وما عُظِّمَ بغيرِ أمرِ اللهِ كان تعظيمُه باطِلًا) [861] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (10/153). .
وبناءً على ذلك يكونُ تعظيمُ الأشياءِ على قِسمَينِ:
1- تعظيمٌ أَذِنَ اللهُ به، وهو ما كان في حدودُ المشروعِ.
2- تعظيمٌ لم يأذَنِ اللهُ به، وهو ما جاوز المشروعَ، وهو المسمَّى عُرفًا بالتقديسِ.
فمن الأماكِنِ والأزمانِ والاجتِماعاتِ ما جاءت الشَّريعةُ بتَعظيمِه، ورِفعةِ مكانتِه، وذلك بما شرَعَه اللهُ فيها من العبادةِ التي يحِبُّها ويرضاها، فيُشرَعُ التعظيمُ لها دونَ ما سِواها؛ وذلك كالكعبةِ المشَرَّفةِ التي شرع اللهُ تعظيمَها بالطَّوافِ حولَها عبادةً للهِ، والصَّفا والمروةِ التي شرع اللهُ السَّعيَ بينهما عبادةً لله، وعرفةَ التي شرع اللهُ الوقوفَ فيها في اليومِ التاسِعِ مِن ذي الحِجَّةِ عِبادةً لله، والمسجِدِ النَّبويِّ الذي شرع اللهُ تعظيمَه بعبادةِ اللهِ فيه، وزاد في أجرِ مَن صَلَّى فيه، والمسجِدِ الأقصى الذي شَرَع اللهُ تعظيمَه، وزاد في أجرِ من صلَّى فيه، وممَّا هو عظيمٌ في الشَّرعِ: أيَّامُ الحَجِّ، وأيَّامُ التَّشريقِ، وشَهرُ رَمضانَ، ويومُ الجُمُعةِ، والاثنينِ والخميسِ من كلِّ أُسبوعٍ، وعيدُ الفِطرِ وعيدُ الأضحى، والاجتماعُ لصلاةِ الخُسوفِ والكُسوفِ والاستسقاءِ، والاجتماعُ في بيوتِ اللهِ لِمُدارسةِ القُرآنِ وتعَلُّمِ العِلمِ، ونحوِ ذلك؛ فتعظيمُها يكونُ بما عَظَّمَها اللهُ به ورسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دونَ تجاوُزٍ لذلك؛ لأنَّه عبادةٌ لله، والعباداتُ توقيفيَّةٌ، فلا يزادُ فيها ولا يُنقَصُ إلَّا بدليلٍ مِن الكِتابِ أو السُّنَّةِ.
كما أنَّه لا يجوزُ أن تُشرعَ عِباداتٌ خاصَّةٌ في الأشياءِ التي أذِنَ اللهُ بتعظيمِها؛ فيومُ الجُمُعةِ مَثَلًا معظَّمٌ ولكِنْ لم يَرِدْ شَرعًا الإذنُ بتخصيصِه بصيامٍ أو قيامٍ، بل ورد النَّهيُ عن ذلك.
فعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لَا تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الجُمُعَةِ بقِيَامٍ مِن بَيْنِ اللَّيَالِي، وَلَا تَخُصُّوا يَومَ الجُمُعَةِ بصِيَامٍ مِن بَيْنِ الأيَّامِ، إِلَّا أَنْ يَكونَ في صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكم )) [862] أخرجه مسلم (1144). .
كما أنَّه تحرُمُ مُوافقةُ أصحابِ المِلَلِ الأخرى في أماكِنِ عِبادتِهم، أو أيَّامِها، أو اجتماعاتِها؛ لأنَّ في ذلك تشبُّهًا بهم؛ ولذلك شُرِعَ صومُ التاسِعِ مِن محَرَّمٍ مع العاشِرِ؛ لِما في تخصيصِ العاشِرِ مِن شُبهةِ الموافَقةِ لليَهودِ [863] يُنظر: ((المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية)) لإبراهيم البريكان (ص: 180). .
فعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: حِينَ صَامَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بصِيَامِه قالوا: يا رَسولَ اللهِ، إنَّه يَوْمٌ تُعَظِّمُه اليَهُودُ وَالنَّصَارَى، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فإذا كانَ العَامُ المُقْبِلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا اليومَ التَّاسِعَ ))، قال: فلم يَأْتِ العامُ المُقْبِلُ حتَّى تُوُفِّيَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [864] أخرجه مسلم (1134). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (فتدَبَّرْ، هذا يومُ عاشوراءَ يومٌ فاضِلٌ، يُكَفِّرُ سَنةً ماضيةً، صامه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأمَرَ بصيامِه، ورَغَّب فيه، ثمَّ لَمَّا قيل له قُبَيلَ وفاتِه: إنَّه يومٌ تُعَظِّمُه اليهودُ والنَّصارى، أمَرَ بمخالفتِهم بضَمِّ يومٍ آخَرَ إليه، وعَزَم على ذلك؛ ولهذا استحَبَّ العُلَماءُ -منهم الإمامُ أحمدُ- أن يصومَ تاسوعاءَ وعاشوراءَ، وبذلك عَلَّلَت الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم) [865] يُنظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/284). .

انظر أيضا: