الموسوعة العقدية

الفَرعُ الثَّالِثُ: مِن أنواعِ التوَسُّلِ المَشروعِ: التَّوَسُّلُ إلى اللهِ تعالى بدُعاءِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ

من التوسُّلِ المشروعِ التوسُّلُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ بدُعاءِ الصَّالحينَ مِن عِبادِه في حَياتِهم الدُّنيا، كأن يكونَ المسلِمُ في ضِيقٍ شديدٍ، أو تحُلَّ به مصيبةٌ كبيرةٌ، ويَعلَمَ مِن نَفْسِه التَّفريطَ في جَنْبِ اللهِ تبارك وتعالى، فيذهَبَ إلى رجُلٍ يعتَقِدُ فيه الصَّلاحَ والتقوى، أو الفَضْلَ والعِلمَ بالكِتابِ والسُّنَّةِ، فيَطلُبَ منه أن يدعوَ له اللهَ؛ لِيُفَرِّجَ اللهُ عنه كَرْبَه، ويُزيلَ عنه هَمَّه. وقد دلَّت الشريعةُ المطَهَّرةُ على جوازِ هذا النوَّعِ مِن التوسُّلِ.
قال اللهُ تعالى عن إخوةِ يوسُفَ عليه السَّلامُ: قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ [يوسف: 97] .
فقد طَلَبَ إخوةُ يوسُفَ مِن أبِيهم أنْ يَستغفِرَ لهم اللهَ على ما وَقَعوا فيه مِن ذُنوبٍ في حقِّ أبيهم يَعقوبَ وأخيهم يوسُفَ عليهما السلامُ؛ فقالوا: يا أبانا، اسأَلِ اللهَ أنْ يَغفِرَ لنا ذُنوبَنا التي اقتَرَفناها؛ فإنَّا كُنَّا مُذْنِبين مُتَعَمِّدين للإثمِ بما فَعَلْناه في حقِّكم.
وعن أنَسِ بنِ مالكٍ أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنهما كان إذا قَحَطوا استَسقَى بالعبَّاسِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ، فقالَ: (اللَّهمَّ إنَّا كنَّا نتوَسَّلُ إليك بنَبيِّنا فتسقِينا، وإنَّا نتوَسَّلُ إليك بعَمِّ نَبيِّنا، فاسقِنا)، قالَ: فيُسقَون [508] أخرجه البخاري (3710). .
ففي هذا الحديث أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا أصابَ النَّاسَ قحْطٌ -وهو: قِلَّةُ المطرِ، والجَفافُ- خرَجَ يَستَسقي، يعني: يُصلِّي ويدْعو اللهَ تعالى أنْ يُنزِلَ عليهم المطرَ، فلمَّا ماتَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان عُمرُ بنُ الخطَّابِ رضِيَ اللهُ عنه يقولُ: اللَّهمَّ إنَّا كنَّا نَجعَلُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يدعو؛ ليَكونَ وسيلةً لنا إليك؛ لمَا له مِن فَضلٍ عندَك، وكنتَ تَسْقينا بدُعائِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإنَّا نَتوسَّلُ إليك اليومَ بدُعاءِ عَمِّ نبيِّنا واستسقائِه؛ فأَنزِلْ علينا المطرَ، فيُنزِلُ اللهُ تعالى المطرَ عليهم باستسقاءِ ودُعاءِ العبَّاسِ رضِي اللهُ عنه.
وقد فَهِمَ البَعضُ مِن فِعلِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ هذا أنَّه إنما كان يستسقي بجاهِ العبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عنه، وفَهمُهم هذا غيرُ صَحيحٍ؛ لأنَّ التوسُّلَ هنا إنَّما كان بدُعاءِ العبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عنه لا بذاتِه.
أمَّا التوسُّلُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ بالأمواتِ وبقُبورِ الأنبياءِ والصَّالحين، أو بجاهِهم، فهذا لا يجوزُ، ولو كان التوسُّلُ بالأمواتِ جائزًا لَتوَسَّلُ عُمَرُ عند قبرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمقامِ وجاهِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بدَلَ أن يتوسَّلَ بالعبَّاسِ ويَطلُبَ منه أن يدعوَ لهم، ومن المقَرَّرِ في عقيدةِ المُسلِمين أنَّ الميتَ لا يَملِكُ لنَفسِه نَفعًا ولا دَفعَ ضَرَرٍ، وهذا في حَقِّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكيف بمَن هو دونَه؟! [509] يُنظر: ((زاد العباد)) (ص: 187). .
وعن أَنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((أَصَابَتِ النَّاسَ سَنَةٌ علَى عَهْدِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَبيْنَا النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَخْطُبُ في يَومِ جُمُعَةٍ قَامَ أعْرَابِيٌّ، فَقالَ يا رَسولَ اللَّهِ: هَلَكَ المَالُ وجَاعَ العِيَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وما نَرَى في السَّمَاءِ قَزَعَةً، فَوَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، ما وضَعَهَا حتَّى ثَارَ السَّحَابُ أمْثَالَ الجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عن مِنْبَرِهِ حتَّى رَأَيْتُ المَطَرَ يَتَحَادَرُ علَى لِحْيَتِهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَمُطِرْنَا يَومَنَا ذلكَ، ومِنَ الغَدِ وبَعْدَ الغَدِ، والذي يَلِيهِ، حتَّى الجُمُعَةِ الأُخْرَى، وقَامَ ذلكَ الأعْرَابِيُّ - أوْ قالَ: غَيْرُهُ - فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، تَهَدَّمَ البِنَاءُ وغَرِقَ المَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا ولَا عَلَيْنَا فَما يُشِيرُ بيَدِهِ إلى نَاحِيَةٍ مِنَ السَّحَابِ إلَّا انْفَرَجَتْ، وصَارَتِ المَدِينَةُ مِثْلَ الجَوْبَةِ، وسَالَ الوَادِي قَنَاةُ شَهْرًا، ولَمْ يَجِئْ أحَدٌ مِن نَاحِيَةٍ إلَّا حَدَّثَ بالجَوْدِ )( [510] أخرجه البخاري (933) واللفظ له، ومسلم (897). .
وعن سليمِ بنِ عامرٍ الخبَائريِّ: (أنَّ السَّماءَ قُحِطَت، فخرَجَ معاويةُ بنُ أبي سفيانَ وأهلُ دِمشْقَ يستسقُونَ، فلمَّا قعد معاويةُ على المنبَرِ، قال: أين يزيدُ بنُ الأسوَدِ الجُرَشيُّ؟ فناداه النَّاسُ، فأقبل يتخَطَّى النَّاسَ، فأمرَه معاويةُ فصَعِدَ المنبَرَ، فقعَدَ عند رِجْلَيه، فقال مُعاويةُ: اللَّهُمَّ إنَّا نستشفِعُ إليك اليومَ بخَيرِنا وأفضَلِنا، اللَّهُمَّ إنَّا نستشفِعُ إليك اليومَ بيزيدَ بنِ الأسوَدِ الجُرَشيِّ، يا يزيدُ ارفَعْ يديك إلى اللهِ، فرفَعَ يزيدُ يَدَيه، ورفع النَّاسُ أيديَهم، فما كان أوشَكَ أن ثارت سحابةٌ في الغَربِ كأنَّها تُرسٌ، وهَبَّت لها ريحٌ، فسُقِينا حتى كاد النَّاسُ ألَّا يَبلُغوا مَنازِلَهمَ!) [511] أخرجه ابنُ سعد في ((الطبقات الكبرى)) (9632)، والفسوي في ((المعرفة والتاريخ)) (2/381)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (65/112) واللَّفظُ له. صَحَّح إسنادَه الألبانيُّ في ((التوسل)) (41). .
قال الألبانيُّ: (فهذا معاويةُ رَضِيَ اللهُ عنه أيضًا لا يتوسَّلُ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لِما سبق بيانُه، وإنَّما يتوسَّلُ بهذا الرَّجُلِ الصَّالحِ: يزيدَ بنِ الأسوَدِ رحمه الله تعالى فيطلُبُ منه أن يدعوَ اللهَ تعالى؛ لِيَسقيَهم ويُغيثَهم، ويستجيبُ اللهُ تبارك وتعالى طَلَبَه. وحَدَثَ مِثلُ هذا في ولايةِ الضَّحَّاكِ بنِ قَيسٍ أيضًا) [512] يُنظر: ((التوسل أنواعه وأحكامه)) (ص: 42). .

انظر أيضا: