الموسوعة العقدية

المَبحَثُ الثَّالِثُ: حُكمُ الشِّرْكِ

الشِّرْكُ أعظَمُ ما نهى اللهُ عنه.
قال اللهُ تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا [النساء: 36] .
فقَرَن اللهُ النَّهيَ عن الشِّرْكِ بأعظَمِ أمرٍ أمَرَ به، وهو عبادتُه التي من أجْلِها خَلَق الخَلْقَ، كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].
وهو أوَّلُ المُحَرَّماتِ.
قال اللهُ سُبحانَه: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام: 151] .
والشِّرْكُ مُحبِطٌ للعَمَلِ الصَّالِحِ.
قال اللهُ سُبحانَه: وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 88] .
قال ابنُ جريرٍ: (يقولُ: ولو أشرَكَ هؤلاء الأنبياءُ -الذين سَمَّيناهم- برَبِّهم تعالى ذِكْرُه، فعَبَدوا معه غَيرَه، لَحَبِطَ عَنْهُمْ يقولُ: لبَطَل فذهَبَ عنهم أجرُ أعمالِهم التي كانوا يَعمَلونَ؛ لأنَّ اللهَ لا يَقبَلُ مع الشِّرْكِ به عَمَلًا) [143] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/ 387). .
والمُشرِكُ قد ارتكَبَ بشِرْكِه أعظَمَ جَريمةٍ، وأفظَعَ ظُلمٍ.
قال اللهُ تعالى: وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء: 48] .
قال السعديُّ: (أي: افتَرَى جُرمًا كبيرًا، وأيُّ ظُلمٍ أعظَمُ ممَّن سَوَّى المخلوقَ مِن ترابٍ، النَّاقِصَ من جميعِ الوُجوهِ، الفَقيرَ بذاتِه مِن كُلِّ وَجهٍ، الذي لا يملِكُ لنَفْسِه -فَضلًا عمَّن عَبَدَه -نَفعًا ولا ضَرًّا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا؛ بالخالِقِ لكُلِّ شَيءٍ، الكامِلِ مِن جميعِ الوُجوهِ، الغَنِيِّ بذاتِه عن جميعِ مخلوقاتِه، الذي بيَدِه النَّفعُ والضُّرُّ والعَطاءُ والمنعُ، الذي ما مِن نِعمةٍ بالمخلوقينَ إلَّا فمنه تعالى، فهل أعظَمُ من هذا الظُّلمِ شَيءٌ؟) [144] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 182). .
وعن ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أيُّ الذَّنبِ أعظَمُ؟ قال: ((أن تجعَلَ للهِ نِدًّا وهو خَلَقَك )) [145] أخرجه مطولاً البخاري (6001) واللفظ له، ومسلم (86). .
والمُشرِكُ لا يَغفِرُ اللهُ له.
قال اللهُ عَزَّ وجلَّ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ [النساء: 48] .
قال الشَّوكانيُّ: (لا خِلافَ بيْن المسِلمينَ أنَّ المُشرِكَ إذا مات على شِرْكِه لم يكُنْ من أهلِ المغفِرةِ التي تَفَضَّلَ اللهُ بها على غيرِ أهلِ الشِّرْكِ حَسَبَما تَقتَضيه مشيئتُه) [146] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (1/ 549). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/ 123). .
والمُشرِكُ في الآخِرةِ خالِدٌ مُخَلَّدٌ في النَّارِ.
قال اللهُ تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة: 72] .
قال ابنُ جرير: (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ أن يَسكُنَها في الآخِرةِ وَمَأْوَاهُ النَّارُ يقولُ: ومَرجِعُه ومكانُه الذي يأوي إليه ويصيرُ في مَعادِه مَن جَعَل للهِ شَريكًا في عبادتِه: نارُ جَهنَّمَ وَمَا لِلظَّالِمِينَ يقولُ: وليس لِمَن فَعَل غيرَ ما أباح اللهُ له وعَبَد غَيرَ الذي له عبادةُ الخَلْقِ مِنْ أَنْصَارٍ يَنصُرونَه يومَ القيامةِ مِنَ اللهِ، فيُنقِذونَه منه إذا أورَدَه جَهنَّمَ) [147] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/ 579). .
وعن ابنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((من مات وهو يدعو من دونِ اللهِ نِدًّا، دَخَل النَّارَ)) [148] أخرجه البخاري (4497) واللَّفظُ له، ومسلم (92) بنحوه. .
وعن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن لَقِيَ اللهَ لا يُشرِكُ به شيئًا دَخَل الجنَّةَ، ومن لَقِيَه يُشرِكُ به دَخَل النَّارَ )) [149] أخرجه مسلم (93). .
قال أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ: (يخرُجُ الرَّجُلُ من الإيمانِ إلى الإسلامِ، ولا يُخرِجُه من الإسلامِ شيءٌ إلَّا الشِّرْكُ باللهِ العَظيمِ، أو يَرُدُّ فريضةً مِن فرائِضِ اللهِ عَزَّ وجلَّ، جاحِدًا بها...) [150] يُنظر: ((طبقات الحنابلة)) (1/343). .
وقد عَقَد البُخاريُّ بابًا في صحيحِه، فقال: (بابٌ: المعاصي مِن أمرِ الجاهِليَّةِ، ولا يَكفُرُ صاحِبُها بارتكابِها إلَّا الشِّرْكَ) [151] يُنظر: ((صحيح البخاري)) (1/48). .
وقال النوويُّ: (أمَّا دُخولُ المُشرِكِ النَّارَ فهو على عُمومِه، فيَدخُلُها ويُخَلَّدُ فيها، ولا فَرْقَ فيه بين الكِتابيِّ -اليَهوديِّ والنَصرانيِّ- وبيْن عَبَدةِ الأوثانِ وسائِرِ الكَفَرةِ، ولا فَرْقَ عندَ أهلِ الحَقِّ بين الكافِرِ عِنادًا وغَيرِه، ولا بيْن من خالَفَ مِلَّةَ الإسلامِ وبيْن من انتَسَب إليها ثمَّ حُكِمَ بكُفْرِه بجَحْدِه ما يَكفُرُ بجَحْدِه وغَير ذلك) [152] يُنظر: ((شرح مسلم)) (2/97). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (من أعظَمِ الاعتِداءِ والعُدوانِ والذُّلِّ والهَوانِ: أن يُدعى غيرُ اللهِ؛ فإنَّ ذلك مِنَ الشِّركِ، واللهُ لا يَغفِرُ أن يُشرَكَ به، وإنَّ الشِّرْكَ لظُلمٌ عظيمٌ...) [153] يُنظر: ((الرد على البكري)) (1/210). .
وقال محمَّدُ بنُ عبدِ الوَهَّابِ: (مَن لَقِيَه لا يُشرِكُ به شيئًا دخَلَ الجنَّةَ، ومَن لَقِيَه يُشرِكُ به شيئًا دَخَل النَّارَ، ولو كان مِن أعبَدِ النَّاسِ) [154] يُنظر: ((التوحيد الذي هو حق الله على العبيد)) (ص: 19). .
وقد نَقَل عَدَدٌ مِن العُلَماءِ الإجماعَ على أنَّ المُشرِكَ مُخَلَّدٌ في النَّارِ.
قال أبو العبَّاسِ القُرطبيُّ: (قَولُه: ((من مات لا يُشرِكُ باللهِ شَيئًا، دَخَل الجنَّةَ )) أي: من مات لا يتَّخِذُ معه شريكًا في الإلهيَّةِ، ولا في الخَلقِ، ولا في العِبادةِ، ومن المعلومِ من الشَّرعِ المجمَعِ عليه من أهلِ السُّنَّةِ: أنَّ من مات على ذلك فلا بدَّ له من دُخولِ الجَنَّةِ، وإن جَرَت عليه قَبْلَ ذلك أنواعٌ مِن العَذابِ والمِحنةِ، وأنَّ من مات على الشِّرْكِ لا يَدخُلُ الجَنَّةَ، ولا ينالُه مِنَ اللهِ تعالى رحمةٌ، ويُخَلَّدُ في النَّارِ أبَدَ الآبادِ، مِن غَيرِ انقِطاعِ عَذابٍ، ولا تَصَرُّمِ آبادٍ، وهذا معلومٌ ضَروريٌّ مِنَ الدِّينِ، مُجمَعٌ عليه مِن المسلِمينَ) [155] يُنظر: ((المفهم)) (1/290). .
وقال النَّوويُّ: (وأمَّا حُكمُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على من مات يُشرِكُ، بدُخولِ النَّارِ، ومن مات غيرَ مُشرِكٍ، بدُخولِه الجَنَّةَ: فقد أجمعَ عليه المسلِمونَ) [156] يُنظر: ((شرح مسلم)) (2/97). ويُنظر للتوسُّعِ في حُكمِ الشِّركِ: ((الشرك في القديم والحديث)) لأبي بكر زكريا (1/141، 160). .

انظر أيضا: