الموسوعة العقدية

المَبحَثُ الثَّاني: الفَرْقُ بين الشِّرْكِ الأكبَرِ والكُفرِ الأكبَرِ

قال ابنُ تيميَّةَ: (أصلُ الشِّرْكِ: أن تَعدِلَ باللهِ مخلوقاتِه في بَعضِ ما يَستَحِقُّه وَحْدَه) [123] يُنظر: ((الاستقامة)) (1/344). .
وقال السعديُّ: (حقيقةُ الشِّرْكِ باللهِ: أن يُعبَدَ المخلوقُ كما يُعبَدُ اللهُ، أو يُعَظَّمَ كما يُعظَّمُ اللهُ، أو يُصرَفَ له نوعٌ مِن خصائِصِ الرُّبوبيَّةِ والإلهيَّةِ) [124] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 279). .
فالشِّرْكُ عَدَمُ التَّوحيدِ، وهو جَعْلُ شَيءٍ مِن حُقوقِ اللهِ تعالى -في رُبوبيَّتِه أو ألوهيَّتِه أو أسمائِه وصِفاتِه- لأحَدٍ مِن خَلْقِه، وهو فَرعٌ مِن الكُفرِ باللهِ تعالى.
قال محمَّدُ بنُ نَصرٍ المروزِيُّ: (الكُفرُ لا يكونُ إلَّا جُحودًا بالقَلْبِ، أو تكذيبًا بالقَلْبِ أو باللِّسانِ، أو إباءً أو امتِناعًا باستكبارٍ واستِنكافٍ) [125] يُنظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/749). .
وقال الرَّاغِبُ الأصفهانيُّ: (الكافِرُ على الإطلاقِ مُتعارَفٌ فيمن يجحَدُ الوَحدانيَّةَ، أو النبُوَّةَ، أو الشَّريعةَ، أو ثلاثَتَها، وقد يقالُ: كَفَر لِمن أخَلَّ بالشَّريعةِ، وتَرَك ما لَزِمَه مِن ِشُكرِ اللهِ عليهِ) [126] يُنظر: ((المفردات في غريب القرآن)) (ص: 715). .
وقال ابنُ حَزمٍ مُعَرِّفًا الكُفرَ: (هو في الدِّينِ: صِفةُ مَن جحَدَ شيئًا مِمَّا افتَرَض اللهُ تعالى الإيمانَ به بعد قيامِ الحُجَّةِ عليه ببُلوغِ الحَقِّ إليه، بقَلْبِه دونَ لِسانِه، أو بلِسانِه دونَ قَلْبِه، أو بهما معًا، أو عَمِلَ عَمَلًا جاء النَّصُّ بأنَّه مخرِجٌ له بذلك عن اسمِ الإيمانِ) [127] يُنظر: ((الإحكام في أصول الأحكام)) (1/49). .
وقال القَرافيُّ: (أصلُ الكُفرِ إنَّما هو انتِهاكٌ خاصٌّ لحُرمةِ الرُّبوبيَّةِ؛ إمَّا بالجَهْلِ بوُجودِ الصَّانِعِ، أو صفاتِه العُلا، ويكونُ الكُفرُ بفعلٍ؛ كرَمْيِ المُصحَفِ في القاذوراتِ، أو السُّجودِ للصَّنَمِ، أو الترَدُّدِ للكنائِسِ في أعيادِهم بزِيِّ النَّصارى ومُباشَرةِ أحوالِهم، أو جَحْدِ ما عُلِمَ مِن الدِّينِ بالضَّرورةِ) [128] يُنظر: ((الفروق)) (4/115). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (الكُفرُ هو عدَمُ الإيمانِ، سواءٌ كان معه تكذيبٌ، أو استِكبارٌ، أو إباءٌ، أو إعراضٌ؛ فمَن لم يحصُلْ في قَلْبِه التَّصديقُ والانقيادُ، فهو كافِرٌ) [129] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/639). .
قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا [النساء: 136] .
وقال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف: 105] .
قال ابنُ الجوزيِّ: (أولئك الذين كَفَروا بآياتِ رَبِّهم جَحَدوا دلائِلَ توحيدِه، وكَفَروا بالبَعثِ والجَزاءِ؛ وذلك أنَّهم بكُفْرِهم برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والقُرآنِ، صاروا كافِرينَ بهذه الأشياءِ، فحَبِطَت أعمالُهم) [130] يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/112). .
فتبَيَّن ممَّا سبق أنَّ الكُفرَ عدَمُ الإيمانِ بأُصولِ الإيمانِ السِّتَّةِ كُلِّها أو بَعْضِها، وكما أنَّ الإيمانَ اعتقادٌ وقَولٌ وعَمَلٌ؛ فكذلك الكُفرُ يكونُ بالاعتقادِ أو القَولِ أو العَمَلِ، وهو أعمُّ مِن الإشراكِ باللهِ تعالى، فمِن فُروعِ الكُفرِ: الشِّرْكُ باللهِ في رُبوبيَّتِه، وألوهيَّتِه، وأسمائِه وصِفاتِه.
وللعُلَماءِ في الفَرْقِ بين الكُفرِ والشِّرْكِ مَسلَكانِ:
المَسلَكُ الأوَّلُ: أنَّهما بمعنًى واحدٍ، فيكونُ إطلاقُ أحَدِهما على الآخَرِ مِن قبَيلِ التَّرادُفِ.
قال أبو بكرٍ الأصَمُّ: (كُلُّ من جحَدَ رسالتَه فهو مُشرِكٌ؛ قال اللهُ تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ فقد دَلَّت الآيةُ على أنَّ ما سِوى الشِّرْكِ قد يَغفِرُه اللهُ تعالى في الجُملةِ؛ فلو كان كُفرُ اليَهودِ والنَّصارى ليس بشِركٍ، لوجَبَ أن يَغفِرَ لهم اللهُ تعالى في الجُملةِ، وذلك باطِلٌ) [131] يُنظر: ((كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم)) للتهانوي (1/1022). .
وقال الجُبَّائيُّ: (هذا الاسمُ أي المُشرِكُ من جُملةِ الأسماءِ الشَّرعيَّةِ؛ لأنَّه تواتَرَ النَّقلُ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه كان يُسَمِّي كُلَّ من كان كافِرًا بالمُشرِكِ، وقد كان في الكُفَّارِ مَن لا يُثبِتُ إلهًا أصلًا، أو كان شاكًّا في وُجودِه، أو كان شاكًّا في وُجودِ الشَّريكِ، وقد كان فيهم من كان عند البَعثةِ مُنكِرًا للبَعثِ والقيامةِ؛ فلا جَرَمَ كان مُنكِرًا للبَعْثةِ وللتَّكليفِ، وما كان يَعبُدُ شيئًا من الأوثانِ، وعابِدو الأوثانِ فيهم من كانوا لا يقولون: إنَّهم شُرَكاءُ اللهِ في الخَلْقِ، وتدبيرِ العالَمِ، بل كانوا يقولونَ: هؤلاء شُفَعاؤُنا عندَ اللهِ؛ فثَبَت أنَّ الأكثَرَ منهم كانوا مُقِرِّينَ بأنَّ اللهَ إلهَ العالَمِ واحِدٌ، وأنَّه ليس له في الإلهيَّةِ -بمعنى خَلْقِ العالَمِ وتَدبيرِه- شَريكٌ ونظيرٌ، كما يَدُلُّ عليه قَولُه تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف: 9] ، فإذا ثبَتَ أنَّ وُقوعَ اسمِ المُشرِكِ على الكافِرِ ليس من الأسماءِ اللُّغَويَّةِ، بل من الأسماءِ الشَّرعيَّةِ، كالزَّكاةِ والصَّلاةِ وغَيرِهما، وجَبَ اندِراجُ كُلِّ كافرٍ تحت هذا الاسمِ) [132] يُنظر: ((كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم)) للتهانوي (1/1022). .
وقال الألبانيُّ: (كُلُّ كُفرٍ شِركٌ، كما أنَّ كُلَّ شِركٍ كُفرٌ، لا فَرْقَ بينهما إطلاقًا، ومِن الأدِلَّةِ على ذلك: المحاوَرةُ التي ذكَرَها اللهُ عَزَّ وجلَّ في سورةِ الكَهْفِ بين المؤمِنِ والمُشرِكِ؛ قال اللهُ عَزَّ وجلَّ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ [الكهف: 32 - 34] قال صاحِبُ الجَنَّتينِ وهو كافِرٌ مُشرِكٌ كما ستَسمَعونَ لصاحِبِه المؤمِنِ: فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [الكهف: 34، 36] [الكهف:34-36] هذا بالتَّعبيرِ العامِّ أو بالعُرفِ العامِّ أشرَكَ أم كَفَر؟ هذا كُفرٌ؛ لأنَّه أنكَرَ البَعْثَ والنُّشورَ، قال: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلً [الكهف: 36، 37]. صاحِبُه المؤمِنُ: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا [الكهف: 38] ، خَتَم مَوعِظَتَه ومحاوَرَتَه لصاحِبِه بأنَّه لا يُشرِكُ كشِرْكِه: وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا [الكهف: 38] ، ففي هذا بيانُ أنَّ الرَّجُلَ صاحِبَ الجنَّتينِ -أي: البُستانَينِ- حينما شَكَّ في البَعْثِ والنُّشورِ أشرَكَ باللهِ عَزَّ وجلَّ؛ لذلك قال له صاحِبُه المؤمِنُ: أنت كَفَرْتَ وأشركْتَ، أمَّا أنا فلا أُشرِكُ برَبِّي أحَدًا، وتمامُ القِصَّةِ أيضًا تؤكِّدُ هذا؛ لأنَّ في نهايةِ الآياتِ: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا [الكهف: 42] ، ما الذي أشرَكَ؟ الظَّاهِرُ أنَّه أنكَرَ البَعْثَ والنُّشورَ، فأين الشِّركُ؟ هنا النُّكتةُ، الشِّرْكُ: أنَّ كُلَّ كافرٍ -بأيِّ سَبَبٍ كان كُفْرُه- فقد اتَّخَذ إلهَه هَواه، فمِن هنا جاء الشِّرْكُ بالنِّسبةِ لكُلِّ نوعٍ كَفَر به صاحِبُه، مِن هنا قُلْنا: إنَّ هناك حقيقةً شَرعيَّةً، وهي: أنَّ كُلَّ كُفرٍ فهو شِركٌ، وهذا في السِّياقِ الذي ذكَرْناه لكم أكبَرُ دليلٍ على ذلك) [133] يُنظر: محاضرة ((المؤمن بين الرجاء والخوف)) صوتية ومفرغة، بموقع الشبكة الإسلامية إسلام ويب. .
والمَسلَكُ الثَّاني: أنَّهما مُتبايِنانِ؛ فإطلاقُ أحَدِهما على الآخَرِ لمُناسبةٍ بيْن المَعنَيَينِ، ولكِنَّ الكُفرَ أعَمُّ مِنَ الشِّركِ؛ فبينهما عُمومٌ وخُصوصٌ.
قال أبو هِلالٍ العَسْكريُّ: (الكُفرُ اسمٌ يَقَعُ على ضُروبٍ مِن الذُّنوبِ؛ فمنها الشِّرْكُ باللهِ، ومنها الجَحدُ للنبُوَّةِ، ومنها استِحلالُ ما حَرَّم اللهُ، وهو راجِعٌ إلى جَحْدِ النبُوَّةِ، وغيرِ ذلك ممَّا يَطولُ الكَلامُ فيه، وأصلُه التَّغطيةُ) [134] يُنظر: ((الفروق اللغوية)) (ص: 228). .
ثمَّ قال: (الفَرْقُ بين الكُفرِ والشِّرْكِ: أنَّ الكُفرَ خِصالٌ كَثيرةٌ على ما ذكَرْنا، وكُلُّ خَصلةٍ منها تضادُّ خَصلةً مِن الإيمانِ؛ لأنَّ العَبدَ إذا فَعَل خَصلةً مِنَ الكُفرِ فقد ضَيَّع خَصلةً مِن الإيمانِ، والشِّرْكُ خَصلةٌ واحِدةٌ، وهو إيجادُ آلِهةٍ مع اللهِ أو دونَ اللهِ، واشتقاقُه يُنبِئُ عن هذا المعنى، ثمَّ كَثُر حتى قيل لكُلِّ كُفرٍ: شِركٌ على وَجهِ التَّعظيمِ له، والمبالَغةِ في صِفَتِه، وأصلُه كُفرُ النِّعْمةِ لتضييعِه حُقوقَ اللهِ، وما يجِبُ عليه من شُكْرِ نِعَمِه، فهو بمنزلةِ الكافِرِ لها، ونقيضُ الشِّرْكِ في الحقيقةِ الإخلاصُ، ثُمَّ لَمَّا استُعمِلَ في كُلِّ كُفرٍ صار نقيضُه الإيمانَ) [135] يُنظر: ((الفروق اللغوية)) (ص: 230). .
وقال النَّوويُّ: (إنَّ الشِّرْكَ والكُفرَ قد يُطلَقانِ بمعنًى واحِدٍ، وهو الكُفرُ باللهِ تعالى، وقد يُفَرَّقُ بينهما، فيُخَصُّ الشِّرْكُ بعَبَدةِ الأوثانِ وغَيرِها من المخلوقاتِ مع اعترافِهم باللهِ تعالى، ككُفَّارِ قُرَيشٍ، فيكونُ الكُفرُ أعَمَّ مِنَ الشِّركِ. واللهُ أعلَمُ) [136] يُنظر: ((شرح مسلم)) (2/71). .
وقال ابنُ باز: (الكُفرُ جَحْدُ الحَقِّ وسَتْرُه، كالذي يجحَدُ وُجوبَ الصَّلاةِ أو وُجوبَ الزَّكاةِ أو وُجوبَ صَومِ رَمَضانَ، أو وجوبَ الحَجِّ مع الاستطاعةِ، أو وُجوبَ بِرِّ الوالِدَينِ، ونحوَ هذا. . وكالذي يجحَدُ تحريمَ الزِّنا، أو تحريمَ شُربِ المُسكِرِ، أو تحريمَ عُقوقِ الوالِدَينِ، أو نحوَ ذلك.
أمَّا الشِّرْكُ فهو: صَرفُ بَعضِ العبادةِ لغَيرِ اللهِ، كمن يستغيثُ بالأمواتِ أو الغائِبينَ أو الجِنِّ أو الأصنامِ أو النُّجومِ ونحوِ ذلك، أو يَذبَحُ لهم أو يَنذِرُ لهم، ويُطلَقُ على الكافِرِ أنَّه مُشرِكٌ، وعلى المُشرِكِ أنَّه كافِرٌ، كما قال اللهُ: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون: 117] ، وقال سُبحانَه: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [المائدة: 72] ، وقال جَلَّ وعلا في سورةِ فاطرٍ: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 13 - 14] ، فسَمَّى دُعاءَهم غيرَ اللهِ شِركًا في هذه السُّورةِ، وفي سورةِ: قد أفلح المؤمنونَ، سَمَّاه كُفرًا، وقال سُبحانَه في سورةِ التَّوبةِ: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 32 - 33] فسَمَّى الكُفَّارَ به كُفَّارًا، وسَمَّاهم مُشرِكين؛ فدَلَّ ذلك على أنَّ الكافِرَ يُسَمَّى مُشرِكًا، والمشرِكَ يُسَمَّى كافِرًا، والآياتُ والأحاديثُ في ذلك كثيرةٌ، ومِن ذلك قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((بين الرَّجُلِ وبيْن الشِّرْكِ والكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاةِ) . أخرَجَه مسلِمٌ في صحيحِه عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما [137] أخرجه مسلم (82) ، وقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((العَهدُ الذي بيْننا وبيْنهم الصَّلاةُ، فمَن تركَها فقد كَفَر)) [138] أخرجه الترمذي (2621)، والنسائي (463)، وابن ماجه (1079) صححه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (1454)، وابن العربي في ((العواصم من القواصم)) (262). والحديث أخرجه مسلم (82) بلفظ: ((إنَّ بين الرَّجُلِ وبين الشِّركِ والكُفرِ تَرْكَ الصَّلاةِ)) من حديث جابرِ بنِ عبد الله رضي الله عنهما. [139] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (9/174). .
فأثبت ابنُ باز الفَرْقَ بينهما أوَّلًا، ثمَّ أثبَتَ جوازَ إطلاقِ أحَدِهما على الآخَرِ.
وقال ابنُ عُثَيمين: (الكُفرُ في اللُّغةِ: السَّتْرُ، ومنه سُمِّيَ كافورُ النَّخلةِ؛ لأنَّه يَستُرُ التَّمرَ، ولكِنَّه في الشَّرعِ: هو الخُروجُ عن الإسلامِ، يعني: من ليس بمسلمٍ فهو كافِرٌ، وقد سَبَق لنا أنَّ الكُفرَ يدورُ على أمرينِ: أحَدُهما: الاستكبارُ. والثَّاني: الجُحودُ. ثمَّ هل الكُفرُ والشِّرْكُ سواءٌ، أو بيْنهما عمومٌ وخُصوصٌ، أو متباينانِ تبايُنَ الغَيرَينِ؟
نقولُ: بيْنهما عمومٌ وخُصوصٌ؛ فكُلُّ مُشرِكٍ فهو كافِرٌ، وليس كلُّ كافرٍ مُشرِكًا، فالذي يُكذِّبُ ويجحَدُ، هذا ليس بمُشرِكٍ، لكنَّه كافِرٌ، والذي يدعو مع اللهِ إلهًا آخَرَ، هذا مُشرِكٌ، فهو في نَفسِ الوقتِ كافِرٌ، فالنِّسبةُ بيْنهما العُمومُ والخُصوصُ، اللَّهُمَّ إلَّا أن يريدَ القائِلُ؛ أن يريدَ بالشِّرْكِ اتِّباعَ الهوى، فإنَّ اتِّباعَ الهوى شِرْكٌ بالمعنى الأعَمِّ؛ قال اللهُ تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ فجَعَل اللهُ سُبحانَه وتعالى اتِّباعَ الهَوى من بابِ التأَلُّهِ له، وعلى هذا فنقولُ: إن أريدَ به المعنى الأعَمُّ للشِّركِ، فكُلُّ كافرٍ مُشرِكٌ بهذا المعنى، لكِنْ مِن حيثُ المعنى الاصطلاحيُّ المحَدَّدُ لمفهومِه، فإنَّ الشِّرْكَ بيْنه وبيْن الكُفرِ عُمومٌ وخُصوصٌ) [140] يُنظر: ((الموقع الرسمي لابن عثيمين - تفسير سورة البقرة)) (الشريط رقم: 25). .
والقَولُ بالفَرْقِ بينهما هو الأقرَبُ، وأمَّا ما استشكَلَه الجُبَّائيُّ مِن أنَّه قد كان في الكُفَّارِ مَن لا يُثبِتُ إلهًا أصلًا، ومع ذلك سُمِيَ مُشرِكًا، وقريبٌ مِن هذا الإشكالِ ما ذكره الألبانيُّ في قِصَّةِ صاحِبِ الجنَّتَينِ، وأنَّه أنكَرَ البَعْثَ، ومع ذلك سَمَّى القُرآنُ فِعْلَه شِرْكًا؛ فجوابُه: أنَّ القُرآنَ أطلق الشِّرْكَ على معنى الكُفرِ؛ لأنَّ الشِّرْكَ يدخُلُ في عُمومِ الكُفرِ، وهو شُعبةٌ مِن شُعَبِ الكُفرِ، فهذا مِن تسميةِ الشَّيءِ ببَعضِ أفرادِه، وهو سائِغٌ في اللُّغةِ والشَّرعِ، ويُسَمِّيه العُلَماءُ بـ (إطلاقِ الجُزءِ على الكُلِّ).
هذا وقد وَرَد في القُرآنِ عَكسُ ذلك من إطلاقِ الكُفرِ (الكُلِّ) على بَعْضِ شُعَبِه (الجُزء)، وهو سائِغٌ أيضًا في اللُّغةِ والشَّرعِ؛ قال تعالى: وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 80] ، وقال سُبحانَه: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [المائدة: 73] [141] يُنظر: ((التكفير وضوابطه)) لإبراهيم الرحيلي (ص: 83). .
وأمَّا قَولُ الألبانيِّ مِن أنَّ كُلَّ كافرٍ قد أشرَكَ باللهِ؛ لأنَّه اتَّخَذ إلهَه هواه كما قال تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، فجوابُه ما ذَكَرَه ابنُ عُثيَمين كما سبق: (إن أريدَ به المعنى الأعَمُّ للشِّركِ، فكُلُّ كافرٍ مُشرِكٌ بهذا المعنى، لكِنْ مِن حيثُ المعنى الاصطلاحيُّ المحَدَّدُ لمفهومِه، فإنَّ الشِّرْكَ بيْنه وبيْن الكُفرِ عُمومٌ وخُصوصٌ).
ثمَّ إنَّ هذه الآيةَ قد فُسِّرت في أهلِ الشِّرْكِ -وإن كانت تحتَمِلُ غَيرَهم- فقد قال ابنُ كثير: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهُهَ هَوَاهُ أي: مهما استحسَنَ مِن شيءٍ ورآه حَسَنًا في هوى نَفْسِه، كان دينَه ومَذْهَبَه، كما قال تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر: 8] ؛ ولهذا قال هاهنا: أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا. قال ابنُ عبَّاسٍ: كان الرَّجُلُ في الجاهليَّةِ يَعبُدُ الحَجَرَ الأبيضَ زمانًا، فإذا رأى غيرَه أحسَنَ منه عَبَدَ الثَّانيَ، وترَكَ الأوَّلَ) [142] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/113). .

انظر أيضا: