الموسوعة العقدية

المَبحَثُ الأوَّلُ: أدِلَّةُ التلازُمِ بين الظَّاهِرِ والباطِنِ

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ [المائدة: 81] .
فالإيمانُ في الباطِنِ يستلزِمُ عداوةَ الكافرينَ وتَرْكَ مُوالاتِهم في الظَّاهِرِ.
 قال ابنُ جريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: ولو كان هؤلاء الذين يتولَّون الذين كَفَروا من بني إسرائيلَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ يقول: يُصَدِّقون باللهِ ويُقِرُّون به ويوَحِّدونَه ويُصَدِّقون نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّه لله نبيٌّ مبعوثٌ ورَسولٌ مُرسَلٌ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ يقولُ: يُقِرُّون بما أُنزِلَ إلى مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن عندِ اللهِ مِن آيِ الفُرقانِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ يقولُ: ما اتَّخَذوهم أصحابًا وأنصارًا من دونِ المؤمنينَ. وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ يقولُ: ولكِنَّ كثيرًا منهم أهلُ خُروجٍ عن طاعةِ اللهِ إلى معصيتِه، وأهلُ استِحلالٍ لمِا حَرَّم اللهُ عليهم من القَولِ والفِعلِ) [2961] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/ 593). .
2- قَولُ اللهِ سُبحانَه: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَناتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة: 22] .
قال ابنُ تيميَّةَ: (لَمَّا كانت الأقوالُ والأعمالُ الظَّاهِرةُ لازِمةً ومُستلزِمةً للأقوالِ والأعمالِ الباطِنةِ، كان يُستدَلُّ بها عليها، كما في قَولِه تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة: 22] ، فأخبر أنَّ من كان مؤمِنًا باللهِ واليومِ الآخِرِ لا يُوجَدون مُوَادِّين لأعداءِ اللهِ ورَسولِه، بل نَفْسُ الإيمانِ ينافي مودَّتَهم، فإذا حَصَلت المُوادَّةُ دَلَّ ذلك على خَلَلِ الإيمانِ، وكذلك قَولُه: تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ [المائدة: 80-81] ) [2962] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/542). .
وقال أيضًا: (واللهُ سُبحانَه في غيرِ مَوضِعٍ يُبَيِّنُ أنَّ تحقيقَ الإيمانِ وتصديقَه بما هو من الأعمالِ الظَّاهرةِ والباطِنةِ، كقَولِه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِما رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 2-4] ، وقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصادِقُونَ [الحجرات: 15] ، وقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ [النَّور: 62] ، وقال اللهُ تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِما قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65] .
فإذا قال القائِلُ: هذا يدُلُّ على أنَّ الإيمانَ ينتفي عند انتفاءِ هذه الأُمورِ، لا يدُلُّ على أنَّها من الإيمانِ.
قيل: هذا اعترافٌ بأنَّه ينتفي الإيمانُ الباطِنُ مع عَدَمِ مِثلِ هذه الأمورِ الظَّاهرةِ، فلا يجوزُ أن يدَّعِيَ أنَّه يكونُ في القَلْبِ إيمانٌ يُنافي الكُفرَ بدُونِ أُمورٍ ظاهِرةٍ، لا قَول ولا عَمَل، وهو المطلوبُ، وذلك تصديقٌ؛ وذلك لأنَّ القَلْبَ إذا تحقَّق ما فيه أَثَّر في الظَّاهِرِ ضَرورةً، لا يمكِنُ انفِكاكُ أحَدِهما عن الآخَرِ. فالإرادةُ الجازِمةُ للفِعلِ مع القُدرةِ التامَّةِ توجِبُ وُقوعَ المقدورِ، فإذا كان في القَلْبِ حُبُّ اللهِ ورَسولِه ثابتًا استلزمَ مُوالاةَ أوليائِه، ومعاداةَ أعدائِه، لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة: 22] ، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ [المائدة: 81] ، فهذا التلازُمُ أمرٌ ضَروريٌّ، ومِن جِهةِ ظَنِّ انتفاءِ التلازُمِ غَلِط غالِطون، كما غَلِط آخرون في جوازِ وُجودِ إرادةٍ جازمةٍ مع القُدرةِ التَّامَّةِ بدونِ الفِعلِ، حتى تنازعوا: هل يعاقَبُ على الإرادةِ بلا عَمَلٍ؟ وقد بسَطْنا ذلك في غيرِ هذا الموضِعِ، وبَيَّنَّا أنَّ الهِمَّةَ التي لم يقتَرِنْ بها فِعلُ ما يَقدِرُ عليه الهامُّ ليست إرادةً جازِمةً، وأنَّ الإرادةَ الجازِمةَ لا بُدَّ أن يُوجَدَ معها ما يَقدِرُ عليه العَبدُ، والعَفْوُ وقع عمَّن هَمَّ بسيئةٍ ولَمَّا يفعَلْها، لا عمَّن أراد وفَعَل المقدورَ عليه وعَجَز عن حُصولِ مُرادِه، كالذي أراد قَتْلَ صاحبِه فقاتَلَه حتى قُتِلَ أحَدُهما، فإنَّ هذا يُعاقَبُ؛ لأنَّه أراد وفعل المقدورَ مِن المرادِ.
ومن عرف الملازَماتِ التي بين الأمورِ الباطِنةِ والظَّاهِرةِ، زالت عنه شُبُهاتٌ كثيرةٌ في مِثلِ هذه المواضِعِ التي كَثُر اختلافُ النَّاسِ فيها) [2963] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/645). .
وقال أيضًا: (إذا أُفرِدَ الإيمانُ أُدخِلَ فيه الأعمالُ الظَّاهِرةُ؛ لأنَّها لوازِمُ ما في القَلبِ؛ لأنَّه متى ثبت الإيمانُ في القَلبِ، والتصديقُ بما أخبَرَ به الرَّسولُ؛ وَجَب حُصولُ مُقتضى ذلك ضرورةً؛ فإنَّه ما أسَرَّ أحَدٌ سَريرةً إلَّا أبداها اللهُ على صَفَحاتِ وَجْهِه، وفَلَتاتِ لِسانِه، فإذا ثبت التصديقُ في القَلْبِ لم يتخَلَّفِ العَمَلُ بمُقتَضاه البتَّةَ، فلا تستَقِرُّ مَعرِفةٌ تامَّةٌ ومحَبَّةٌ صحيحةٌ، ولا يكونُ لها أثَرٌ في الظَّاهِرِ؛ ولهذا ينفي اللهُ الإيمانَ عمَّن انتَفَت عنه لوازِمُه، فإنَّ انتفاءَ اللَّازِم يقتضي انتفاءَ الملزومِ، كقَولِه تعالى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء [المائدة: 81] ، وقَولِه: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22] الآية، ونحوها، فالظَّاهِرُ والباطِنُ مُتلازِمانِ، لا يكونُ الظَّاهِرُ مُستقيمًا إلَّا مع استقامةِ الباطِنِ، وإذا استقام الباطِنُ فلا بدَّ أن يستقيمَ الظَّاهِرُ؛ ولهذا قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ألا إنَّ في الجَسَدِ مُضغةً إذا صَلَحَت صَلَح لها سائِرُ الجسَدِ، وإذا فسَدَت فَسَد لها سائِرُ الجَسَدِ، ألَا وهي القَلْبُ )) [2964] أخرجه البخاري (52) ومسلم (1599) باختِلافٍ يسيرٍ من حَديثِ النعمان بن بشير رضي الله عنهما. ... ولهذا كان الظَّاهِرُ لازِمًا للباطِنِ مِن وَجهٍ، ومَلزومًا له من وجهٍ، وهو دليلٌ عليه من جهةِ كَونِه ملزومًا لا من جهةِ كَونِه لازمًا؛ فإنَّ الدَّليلَ ملزومُ المدلولِ؛ يلزَمُ من وجودِ الدَّليلِ وجودُ المدلولِ، ولا يلزَمُ من وُجودِ الشَّيءِ وُجودُ ما يدُلُّ عليه، والدَّليلُ يَطَّرِدُ ولا ينعَكِسُ، بخلاف الحَدِّ فإنَّه يطَّرِدُ وينعَكِسُ) [2965] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (18/272). .
3- قَولُه تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة: 46] .
فإذا وُجِدَت الإرادةُ الجازمةُ مع القُدرةِ، لَزِم أن يُوجَدَ المرادُ، وتخَلُّفُ المرادِ هنا -وهو إعدادُ العُدَّةِ للسَّفَرِ- يدُلُّ على انتفاءِ إرادةِ الخُروجِ.
قال القرطبي: (قَولُه تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً [التوبة: 46] أي: لو أرادوا الجِهادَ لتأهَّبوا أُهْبَةَ السَّفَرِ، فتَرْكُهم الاستعدادَ دليلٌ على إرادتِهم التخَلُّفَ) [2966] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (8/ 156). .
4- قَولُه تعالى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ [آل عمران: 152] .
فلمَّا اختلفت نيَّاتُهم الباطِنةُ، تبايَنَت أعمالُهم الظَّاهِرةُ.
قال البغوي: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا: يعني الذين تركوا المركَزَ، وأقبَلوا على النَّهبِ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ يعني الذين ثَبَتوا مع عبدِ اللهِ بنِ جُبَيرٍ حتى قُتِلوا، قال ابنُ مسعودٍ: وما شعَرْتُ أنَّ أحدًا من أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يريدُ الدُّنيا حتى كان يومُ أحُدٍ، ونزلت هذه الآيةُ) [2967] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (1/ 522). .
وقال ابنُ كثيرٍ: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا، وهم الذين رَغِبوا في المغنَمِ حينَ رَأَوا الهزيمةَ) [2968] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/ 133). .
5- قَولُه تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُوني [آل عمران: 31] .
فمتى قامت المحبَّةُ بالقَلْبِ مع التصديقِ، لَزِمَ ضرورةً أن يتحَرَّكَ البَدَنُ بموجِبِ ذلك من الأقوالِ الظَّاهِرةِ والأعمالِ الظَّاهِرةِ.
قال ابنُ القَيِّمِ: (فأصلُ العبادةِ: محبَّةُ اللهِ، بل إفرادُه بالمحبَّةِ، وأن يكونَ الحُبُّ كُلُّه لله، فلا يحِبُّ معه سواه، وإنَّما يحَبُّ لأجْلِه وفيه، كما يحِبُّ أنبياءَه ورُسُلَه وملائكَتَه وأولياءَه، فمحَبَّتُنا لهم من تمامِ محبَّتِه، وليست محبَّةً معه، كمَحَبَّةِ من يتَّخِذُ من دونِ اللهِ أندادًا يحِبُّونَهم كحُبِّه.
وإذا كانت المحبَّةُ له هي حقيقةَ عُبوديَّتِه وسِرَّها، فهي إنَّما تتحَقَّقُ باتِّباعِ أمْرِه، واجتنابِ نَهْيِه. فعند اتِّباعِ الأمرِ واجتِنابِ النَّهيِ تتبيَّنُ حقيقةُ العُبوديَّةِ والمحبَّةِ؛ ولهذا جعل تعالى اتِّباعَ رَسولِه عَلَمًا عليها، وشاهِدًا لِمن ادَّعاها، فقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] ، فجعل اتِّباعَ رَسولِه مَشروطًا بمحَبَّتِهم لله، وشَرطًا لمحبَّةِ اللهِ لهم. ووجودُ المشروطِ ممتَنِعٌ بدُونِ وُجودِ شَرْطِه، وتحَقُّقُه بتحَقُّقِه، فعُلِمَ انتِفاءُ المحبَّةِ عند انتِفاءِ المتابَعةِ، فانتِفاءُ محَبَّتِهم للهِ لازِمٌ لانتِفاءِ المتابَعةِ لِرَسولِه، وانتِفاءُ المتابَعةِ مَلزومٌ لانتِفاءِ محبَّةِ اللهِ لهم، فيستحيلُ إذًا ثُبوتُ محَبَّتِهم لله، وثُبوتُ محبَّةِ اللهِ لهم، بدونِ المتابعةِ لِرَسولِه، وَدَّل على أنَّ مُتابعةَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هي حُبُّ اللهِ ورَسولُه، وطاعةُ أمْرِه) [2969] يُنظر: ((مدارج السالكين)) (1/ 119). .
وقال ابنُ كثيرٍ: (هذه الآيةُ الكَريمةُ حاكِمةٌ على كُلِّ مَن ادَّعى مَحَبَّةَ اللهِ، وليس هو على الطَّريقةِ المحَمَّديَّةِ؛ فإنَّه كاذِبٌ في دَعواه في نَفْسِ الأمرِ، حتَّى يتَّبِعَ الشَّرعَ المحَمَّديَّ والدِّينَ النبَوِيَّ في جميعِ أقوالِه وأحوالِه، كما ثَبَت في الصَّحيحِ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((مَن عَمِلَ عَمَلًا ليس عليه أمْرُنا، فهو رَدٌّ )) [2970] أخرجه مسلم (1718) من حَديثِ عائشة رضي الله عنها. ؛ ولهذا قال: قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] ) [2971] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/ 32). .
وقال الشنقيطي: (يؤخَذُ من هذه الآيةِ الكريمةِ أنَّ عَلامةَ المَحَبَّةِ الصَّادِقةِ للهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هي اتِّباعُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فالذي يخالِفُه ويدَّعي أنَّه يحِبُّه فهو كاذِبٌ مُفتَرٍ؛ إذ لو كان محِبًّا له لأطاعه، ومن المعلومِ عِنْدَ العامَّةِ أنَّ المَحَبَّةَ تَستجلِبُ الطَّاعة) [2972] يُنظر: ((أضواء البيان)) (1/199). .
6- عن النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِه، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَه، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِه مَحَارِمُه، أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ )) [2973] أخرجه البخاري (52) واللَّفظُ له، ومسلم (1599). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (... فمن صَلَح قَلْبُه صَلَح جَسَدُه قَطعًا بخِلافِ العَكْسِ) [2974] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/9). .
وقال أيضًا: (القَلبُ هو الأصلُ، فإذا كان فيه معرفةٌ وإرادةٌ سَرَى ذلك إلى البَدَنِ بالضَّرورةِ، لا يمكِنُ أن يتخَلَّف البدَنُ عمَّا يريدُه القَلْبُ؛ ولهذا قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الحديثِ الصَّحيحِ: ((ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضغةً إذا صَلَحت صَلَح لها سائِرُ الجَسَدِ، وإذا فَسَدَت فَسَد لها سائِرُ الجسَدِ، ألا وهي القَلبُ )) [2975] أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599) مطولاً باختِلافٍ يسيرٍ من حَديثِ النعمان بن بشير رضي الله عنهما. [2976] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/187). .
وقال أيضًا: (وقد قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّه، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّه، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ )) [2977] أخرجه البخاري (52) ومسلم (1599) مطولاً  من حَديثِ النعمان بن بشير رضي الله عنهما.. فبَيَّن أنَّ صلاحَ القَلبِ مُستلزِمٌ لصلاحِ الجَسَدِ، فإذا كان الجَسَدُ غَيرَ صالحٍ دَلَّ على أنَّ القَلبَ غيرُ صالحٍ، والقلبُ المؤمِنُ صالحٌ؛ فعُلِمَ أنَّ من يتكَلَّمُ بالإيمانِ ولا يعمَلُ به لا يكونُ قَلْبُه مُؤمِنًا، حتى إنَّ المكْرَهَ إذا كان في إظهارِ الإيمانِ فلا بدَّ أن يتكَلَّمَ مع نَفْسِه، وفي السِّرِّ مع من يأمَنُ إليه، ولا بد أن يَظهَرَ على صَفَحاتِ وَجْهِه، وفَلَتاتِ لِسانِه، كما قال عُثمانُ، وأمَّا إذا لم يَظهَرْ أثَرُ ذلك لا بقَولِه ولا بفِعْلِه قَطُّ، فإنَّه يدُلُّ على أنَّه ليس في القَلْبِ إيمانٌ، وذلك أنَّ الجسَدَ تابعٌ للقَلْبِ، فلا يستَقِرُّ شَيءٌ في القَلْبِ إلَّا ظَهَر مُوجِبُه ومُقتَضاه على البَدَنِ، ولو بوجهٍ مِن الوُجوهِ) [2978] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (14/121). .
وعلق على قول الحسن البصري: (إنَّ الإيمانَ ليس بالتحَلِّي ولا بالتمَنِّي، إنما الإيمانُ ما وَقَر في القَلبِ، وصَدَّقه العَمَلُ) [2979] أخرجه ابن أبي شيبة (30988) واللَّفظُ له، وابن بطة في ((الإبانة الكبرى)) (1094). . فقال: (قَولُه: ليس الإيمانُ بالتمَنِّي يعني الكلامَ، وقَولُه: بالتحَلِّي يعني أن يصيرَ حِليةً ظاهِرةً له، فيُظهِرَه من غيرِ حقيقةٍ من قَلْبِه، ومعناه: ليس هو ما يَظهَرُ من القَولِ، ولا من الحِلْيةِ الظَّاهرةِ، ولكِنْ ما وقَرَ في القَلْبِ، وصَدَّقَتْه الأعمالُ، فالعَمَلُ يُصَدِّقُ أنَّ في القَلْبِ إيمانًا، وإذا لم يكُنْ عَمَلٌ كَذَب أنَّ في قَلْبِه إيمانًا؛ لأنَّ ما في القَلْبِ مُستلزِمٌ للعَمَلِ الظَّاهِرِ، وانتفاءُ اللازِمِ يدُلُّ على انتفاءِ الملزومِ) [2980] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/294). .
وقال ابنُ مُفلحٍ: (قال الشَّيخُ تقي الدِّين: فأخبَرَ أنَّ صلاحَ القَلْبِ مُستلزِمٌ لصلاحِ سائِرِ الجَسَدِ، وفسادُه مُستلزِمٌ لفسادِه، فإذا رُئِيَ ظاهِرُ الجسَدِ فاسِدًا غيرَ صالحٍ، عُلِمَ أنَّ القَلْبَ ليس بصالحٍ، بل فاسِدٌ، ويمتنعُ فسادُ الظَّاهِرِ مع صلاحِ الباطِنِ، كما يمتنِعُ صلاحُ الظَّاهِرِ مع فسادِ الباطِنِ؛ إذ كان صلاحُ الظَّاهِرِ وفَسادُه ملازمًا لصلاحِ الباطنِ وفَسادِه) [2981] يُنظر: ((الآداب الشرعية)) (1/ 136). .
وقال حافِظٌ الحَكَمي: (مُحالٌ أن ينتفيَ انقيادُ الجوارحِ بالأعمالِ الظَّاهرةِ مع ثبوتِ عَمَلِ القَلبِ؛ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ )) [2982] أخرجه البخاري (52) ومسلم (1599) مطولًا من حَديثِ النعمان بن بشير رضي الله عنهما. . ومن هنا يتبَيَّنُ لك أنَّ من قال من أهلِ السُّنَّةِ في الإيمانِ: هو التصديقُ على ظاهِرِ اللُّغةِ، أنَّهم إنَّما عَنَوا التصديقَ الإذعانيَّ المُستلزِمَ للانقيادِ ظاهِرًا وباطِنًا بلا شَكٍّ، لم يَعْنُوا مجرَّدَ التَّصديقِ) [2983] يُنظر: ((معارج القبول)) (2/594). .

انظر أيضا: