الموسوعة العقدية

الفَرعُ الثَّاني: حُكمُ السِّحْرِ

السِّحْرُ كُفرٌ؛ لأنَّه يكونُ بواسِطةِ الشَّياطينِ، فالسَّاحِرُ يَعبُدُهم ويتقَرَّبُ إليهم ليسُلِّطَهم على المسحورِ.
قال اللهُ تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ... إلى قَوله: وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ [البقرة: 102] .
 قال ابنُ جريرٍ: (القَولُ في تأويلِ قَولِه تعالى: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ [البقرة: 102] وتأويلُ ذلك: وما يُعَلِّمُ الملَكانِ أحدًا من النَّاسِ الذي أُنزِلَ عليهما من التفريقِ بين المرءِ وزَوجِه حتَّى يقولا له: إنَّما نحن بلاءٌ وفِتنةٌ لبني آدَمَ، فلا تَكفُرْ برَبِّك) [2814] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/ 355). .
 وقال ابنُ كثيرٍ: (قد استدَلَّ بعضُهم بهذه الآيةِ على تكفيرِ من تعَلَّم السِّحْرَ) [2815] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/ 363). .
وهنا جملةٌ مِن كلامِ القائلينَ بكُفرِ السَّاحِرِ:
قال ابنُ العربي: (إنَّ اللهَ سُبحانَه قد صَرَّح في كِتابِه بأنَّه أي السِّحْرَ كُفرٌ؛ لأنَّه تعالى قال: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ من السِّحْرِ، وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ بقولِ السِّحْرِ، وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُوا به وبتعليمِه، وهاروتُ وماروتُ يقولان: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ وهذا تأكيدٌ للبيانِ) [2816] يُنظر: ((أحكام القرآن)) (1/ 48). .
وقال ابنُ قُدامةَ: (إنَّ تعَلُّمَ السِّحْرِ وتعليمَه حرامٌ لا نعلَمُ فيه خِلافًا بين أهلِ العِلم، قال أصحابُنا: ويَكفُرُ السَّاحِرُ بتعَلُّمِه وفِعْلِه، سواءٌ اعتقد تحريمَه أو إباحتَه) [2817] يُنظر: ((المغني)) (12/300). .
وقال القُرطبي: (السِّحْرُ لا يَتِمُّ إلَّا مع الكُفرِ والاستكبارِ، أو تعظيمِ الشَّيطانِ، فالسِّحْرُ إذًا دالٌّ على الكُفرِ على هذا التقديرِ) [2818] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (2/48). .
وقال أيضًا: (قَولُه تعالى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ تَبرئةٌ مِن اللهِ لسُلَيمانَ، ولم يتقَدَّمْ في الآيةِ أنَّ أحدًا نَسَبَه إلى الكُفرِ، ولكِنَّ اليهودَ نسَبَته إلى السِّحْرِ، ولَمَّا كان السِّحْرُ كُفرًا صار بمنزلةِ من نَسَبه إلى الكُفرِ، ثمَّ قال: وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُوا، فأثبت كُفْرَهم بتعليمِ السِّحْرِ) [2819] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (2/43). .
وقال القَرافيُّ: (السِّحْرُ لا يَتِمُّ إلَّا بالكُفرِ؛ كقيامِه إذا أراد سِحرَ سُلطانٍ لبُرجِ الأسَدِ مائلًا خاضِعًا متقَرِّبًا له، ويناديه: يا سيِّدي، يا عظيمُ، أنت الذي إليك تدبيرُ المُلْكِ والجبابرةِ والأُسودِ، أسألُك أن تُذَلِّلَ لي قَلْبَ فُلانٍ الجَبَّارِ) [2820] يُنظر: ((الذخيرة)) (12/35). .
وقال أحمدُ بنُ حمدان الحنبليُّ: (السِّحْرُ ثابتٌ موجودٌ له حقيقةٌ، لكِنَّه حرامٌ يَكفُرُ مُعَلِّمُه ومتعَلِّمُه، في الأصَحِّ والأشهَرِ، وكذا الخِلافُ في التعزيمِ والكِهانةِ والعِرافةِ، ويَكفُرُ المنَجِّمُ بمَعرفةِ الأحكامِ، ومن صَدَّقه أو اعتقد تأثيرَ النُّجومِ، أو عِلْمَ الغَيبِ) [2821] يُنظر: ((نهاية المبتدئين في أصول الدين)) (ص: 58). .
وقال الذهبي: (إنَّ السَّاحِرَ لا بُدَّ أن يَكفُرَ؛ قال اللهُ تعالى: وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة: 102] ، وما للشَّيطانِ الملعونِ غَرَضٌ في تعليمِه الإنسانَ السِّحْرَ إلَّا لِيُشرِكَ به... فترى خلقًا كثيرًا من الضُّلَّالِ يَدخُلون في السِّحْرِ ويَظُنُّون أنَّه حرامٌ فقط، وما يَشعُرون أنَّه الكُفرُ... وحَدُّ السَّاحِرِ القَتلُ؛ لأنَّه كَفَر باللهِ أو ضارَعَ الكُفرَ، ... فليتَّقِ العَبدُ رَبَّه ولا يدخُلْ فيما يخسَرُ به الدُّنيا والآخِرةَ) [2822] يُنظر: ((الكبائر)) (ص: 101-104). .
وقال مَرْعي الكَرْميُّ: (فساحِرٌ يركَبُ المِكْنَسةَ فتسيرُ به في الهواءِ، أو يدَّعي أنَّ الكواكِبَ تخاطِبُه: كافِرٌ، كمُعتَقِدِ حِلِّه) [2823] يُنظر: ((غاية المنتهى)) (2/506). .
وقال الخَرَشيُّ: (المشهورُ أنَّ تعَلُّمَ السِّحْرِ كُفرٌ، وإن لم يعمَلْ به) [2824] يُنظر: ((شرح مختصر خليل)) (8/63). .
وقال الدَّرْديرُ: (فقَولُ الإمامِ مالك رَضِيَ اللهُ عنه: إنَّ تعَلُّمَ السِّحْرِ وتعليمَه كُفرٌ، وإن لم يعمَلْ به، ظاهِرٌ في الغايةِ؛ إذ تعظيمُ الشَّياطينُ ونِسبةُ الكائناتِ إليها لا يستطيعُ عاقِلٌ يؤمِنُ باللهِ أن يقولَ فيه: إنَّه ليس بكُفرٍ) [2825] يُنظر: ((الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي)) (4/ 302). .
وقال مُحمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ: (من أعظَمِ نواقِضِ الإسلامِ عَشَرةٌ:... السَّابعُ: السِّحْرُ، ومنه الصَّرفُ والعَطفُ، فمن فعَلَه أو رَضِيَ به كَفَر، والدَّليلُ قَولُه تعالى: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) [2826] يُنظر: الرسائل الشخصية (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب، الجزء السادس) (ص: 213). .
وقال أيضًا: (يحرُمُ تعَلُّمُ السِّحْرِ وتعليمُه وفِعْلُه، وهو عُقَدٌ ورُقًى، وكلامٌ يتكَلَّمُ به أو يكتُبُه أو يَعمَلُ شَيئًا يؤثِّرُ في بَدَنِ المسحورِ أو عَقْلِه أو قَلْبِه، من غيرِ مُباشَرةٍ؛ وله حقيقةٌ، فمِنه ما يَقتُلُ، ومنه ما يُمرِضُ، ومنه ما يأخُذُ الرَّجُلَ عن امرأتِه، ومنه ما يُفَرِّقُ بين المرءِ وزَوجتِه، ومنه ما يُبَغِّضُ أحَدَهما إلى الآخَرِ، ويحَبِّبُ بين اثنينِ، ويَكفُرُ بتعَلُّمِه وفِعْلِه، سواءٌ اعتقد تحريمَه أو إباحتَه، كالذي يركَبُ الجَمادَ مِن مكَّةَ وغيرِها، فيطيرُ به في الهواءِ) [2827] يُنظر: ((الدرر السنية)) (10/238). .
وقال سُلَيمانُ بنُ عبد الله آل الشيخ: (من لم يُكفِّرْ؛ لظَنِّه أنَّه يتأتَّى بدون الشِّركِ، وليس كذلك، بل لا يأتي السِّحْرُ الذي من قِبَلِ الشَّياطينِ إلَّا بالشِّركِ وعِبادةِ الشَّيطانِ والكواكِبِ؛ ولهذا سمَّاه اللهُ كُفرًا في قَولِه: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ [البقرة:102] ... وأمَّا سِحرُ الأدويةِ والتدخينِ ونحوِه، فليس بسِحرٍ، وإنْ سُمِّيَ سِحرًا فعَلى سبيلِ المجازِ، كتَسْميةِ القَولِ البليغِ والنَّميمةِ سِحرًا، ولكِنَّه يكونُ حَرامًا لمضَرَّتِه، ويُعَزَّرُ من يفعَلُه تعزيرًا بليغًا) [2828] يُنظر: ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 326). .
وقال حافظٌ الحَكَمي: (الصَّحيحُ أنَّ السِّحْرَ المتعَلَّمَ من الشَّياطينِ كُلُّه كُفرٌ؛ قليلُه وكثيرُه، كما هو ظاهِرُ القُرآنِ) [2829] يُنظر: ((معارج القبول)) (2/554). .
وقال مُحمَّدُ بنُ إبراهيمَ آل الشيخِ: (السِّحْرُ أنواعٌ: منه شيءٌ شَعْوَذة، ومنه شيءٌ بخِلافِ ذلك.
وبعضٌ يُفَرِّقُ بين هذه الأشياءِ، وبعضٌ لا يُفَرِّقُ، أمَّا السِّحْرُ الحقيقيُّ الذي ليس هو بالشَّعْوَذةِ، بل حَصَل له به مِثلُ رُكوبِ المِكنَسة فهو كُفرٌ رِدَّةٌ، يستتابُ صاحِبُه، فإن تاب وإلَّا قُتِل.
والسَّاحِرُ لا يتِمُّ له السِّحْرُ ولا تخبِرُه الشَّياطينُ عن غائبٍ ولا تساعِدُه على قَتلِ شَخصٍ إلَّا بعدما عَبَد غيرَ اللهِ، بتقريبِه للشَّياطينِ ما يحبُّونه من الذَّبحِ لهم ونحوِ ذلك، حتى إنَّ بَعْضَهم يمَكِّنُهم من فِعلِ الفاحِشةِ به! وهذا من الاستمتاعِ المذكورِ في الآيةِ يعني قَولَه تعالى: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ [الأنعام: 128] ، فيكونُ كافِرًا) [2830] يُنظر: ((فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ)) (1/163). .
وقال ابنُ باز: (السِّحْرُ من المُحَرَّماتِ الكُفْريَّةِ، كما قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ في شأنِ الملَكَينِ في سورة البقرة: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة: 102] ، فدَلَّت هذه الآياتُ الكريمةُ على أنَّ السِّحْرَ كُفرٌ، وأنَّ السَّحَرةَ يُفَرِّقون بين المرءِ وزَوجِه، كما دلَّت على أنَّ السِّحْرَ ليس بمؤثِّرٍ لذاتِه نفعًا ولا ضَرًّا، وإنَّما يؤثِّرُ بإذنِ اللهِ الكونيِّ القَدَريِّ؛ لأنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى هو الذي خَلَق الخيرَ والشَّرَّ) [2831] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (3/276). .
ووَجهُ كَونِ السِّحْرِ كُفرًا له عِدَّةُ أدِلَّةٍ واعتباراتٍ؛ منها:
1- قَولُ اللهِ تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة:102- 103] .
فيُستدَلُّ بهذه الآياتِ على كُفرِ السَّاحِرِ من وجوهٍ:
أولًا: قَولُ اللهِ تعالى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ.
فظاهِرُ هذا أنَّهم إنَّما كَفَروا بتعليمِهم السِّحْرَ؛ لأنَّ ترتيبَ الحُكْمِ على الوَصفِ يُشعِرُ بعِلِّيَّتِه، فصَرَّحَت الآيةُ بكُفرِ الشَّياطينِ مَنوطًا بتعليمِ السِّحْرِ للنَّاسِ [2832] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (2/43)، ((فتح الباري)) لابن حجر (10/225)، ((الزواجر)) للهيتمي (2/168)، ((معارج القبول)) للحكمي (2/549). .
ثانيًا: قَولُ الله سُبحانَه: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ يعني: مِن حَظٍّ ولا نصيبٍ.
قال حافِظٌ الحَكَمي: (وهذا الوَعيدُ لم يُطلَقْ إلَّا فيما هو كُفرٌ لا بقاءَ للإيمانِ معه، فإنَّه ما من مؤمِنٍ إلَّا ويدخُلُ الجَنَّة، وكفى بدُخولِ الجَنَّةِ خَلاقًا، ولا يدخُلُ الجَنَّةَ إلَّا نفسٌ مؤمِنةٌ) [2833] يُنظر: ((معارج القبول)) (2/554). .
ثالثَّا: قَولُ اللهِ عزَّ وجَلَّ: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ.
قال الجَصَّاصُ: (فجَعَل ضِدَّ هذا الإيمانِ فِعلَ السِّحْرِ؛ لأنَّه جَعَل الإيمانَ في مقابلةِ فِعلِ السِّحْرِ، وهذا يدُلُّ على أنَّ السَّاحِرَ كافِرٌ، وإذا ثَبَت كُفْرُه، فإن كان مُسلِمًا قَبْلَ ذلك، أو قد ظهَرَ منه الإسلامُ في وقتٍ، فقد كَفَر بفِعلِ السِّحْرِ؛ فاستحَقَّ القَتْلَ) [2834] يُنظر: ((أحكام القرآن)) (1/63). .
وقال ابنُ كثيرٍ: (وقد استدَلَّ بقَولِه: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا واتَّقَوْا.. من ذهب إلى تكفيرِ السَّاحِرِ) [2835] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/365). .
وقال الحَكَمي: (هذا من أصرَحِ الأدِلَّةِ على كُفرِ السَّاحِرِ، ونَفْيِ الإيمانِ عنه بالكُليَّةِ، فإنَّه لا يقالُ للمؤمِنِ المتَّقي: ولو أنَّه آمن واتَّقى، وإنَّما قال تعالى ذلك لِمن كَفَر وفَجَر، وعَمِلَ بالسِّحْرِ، واتَّبَعَه، وخاصَمَ به رَسولَه، ونبذ الكِتابَ وراءَ ظَهْرِه) [2836] يُنظر: ((معارج القبول)) (2/554). .
2- قَولُ اللهِ سُبحانَه: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه: 69] .
قال الشِّنقيطي: (إنَّ الفِعلَ في سياقِ النَّفيِ من صِيَغِ العُمومِ،... فقَولُه تعالى في هذه الآيةِ الكريمةِ: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ الآية، يعُمُّ نَفيَ جميعِ أنواعِ الفَلاحِ عن السَّاحِرِ، وأكَّدَ ذلك بالتعميمِ في الأمكِنَةِ بقَولِه: حَيْثُ أَتَى، وذلك دليلٌ على كُفْرِه؛ لأنَّ الفَلاحَ لا يُنفى بالكُلِّيَّةِ نَفيًا عامًّا إلَّا عَمَّن لا خيرَ فيه، وهو الكافِرُ.
ويدُلُّ على ذلك... أنَّه عُرِفَ باستقراءِ القُرآنِ أنَّ الغالِبَ فيه أنَّ لَفظةَ لَا يُفْلِحُ يرادُ بها الكافِرُ، كقَولِه تعالى في سورةِ يونُسَ: قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُون [يونس: 68، 69]...
وقَولِه في الأنعام: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام: 21]) [2837] يُنظر: ((أضواء البيان)) (4/38). .
3- أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَرَن السِّحْرَ بالشِّركِ، وفي بعضِ الأحاديثِ سَمَّاه شِركًا، كما تبَرَّأ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من السَّاحِرِ والمسحورِ.
فعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((اجتَنِبوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ )) قالوا: يا رَسولَ اللهِ وما هُنَّ؟ قال: ((الشِّركُ باللهِ والسِّحْرُ، ...)) الحديث [2838] أخرجه مطولًا البخاري (2766) واللَّفظُ له، ومسلم (89). .
4- أنَّ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم أَمَروا بقَتلِ أولئك السَّحَرةِ، وقد تقَرَّر شَرعًا أنَّ دِماءَ المُسلِمين محظورةٌ إلَّا ما استثناه الشَّرعُ؛ لقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يحِلُّ دَمُ امرئٍ مُسلِمٍ يشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنِّي رَسولُ اللهِ، إلَّا بإحدى ثلاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّاني، والنَّفسُ بالنَّفسِ، والتَّارِكُ لدينِه المفارِقُ للجَماعةِ )) [2839] أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (1676) واللَّفظُ له. .
وليس السَّاحِرُ زانيًا مُحصَنًا، ولا قاتِلَ نَفسٍ، فتعَيَّن أن يكونَ كافرًا مُرتَدًّا تاركًا لدينِه.
قال ابنُ تيميَّةَ: (أكثَرُ العُلَماءِ على أنَّ السَّاحِرَ كافِرٌ يجِبُ قَتْلُه، وقد ثبت قتلُ السَّاحِرِ عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، وعُثمانَ بنِ عَفَّان، وحَفصةَ بنتِ عُمَرَ، وعبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، وجُندَبِ بنِ عبدِ اللهِ) [2840] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (29/384). .
ومن هذه الآثارِ ما جاء عن بجالةَ: كنتُ كاتبًا لجزءِ بنِ معاويةَ -عمِّ الأحنَفِ بنِ قَيسٍ- فأتانا كِتابُ عُمَرَ قبل موتِه بسَنَةٍ: أنِ اقتُلُوا كُلَّ ساحِرٍ -وربما قال سفيانُ: وساحرةٍ-، وفَرِّقوا بين كُلِّ ذي مَحرَمٍ من المجوسِ، وانْهَوهم عن الزَّمزمةِ، فقَتَلْنا ثلاثةَ سواحِرَ [2841] أخرجه مطولًا: أبو داود (3043)، وأحمد (1657) واللَّفظُ له صَحَّحه ابن حزم في ((المحلى)) (11/397)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3043)، وصَحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (3/123)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3043)، وذكر ثبوته واتصاله الشافعي كما في ((السنن الكبرى)) للبيهقي (9/189)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/247).
قال ابنُ قدامة: (هذا اشتَهَر فلم يُنكَرْ؛ فكان إجماعًا) [2842] يُنظر: ((المغني)) (12/303). .
وعن جُندَبٍ البَجَليِّ: أنَّه قَتَل ساحِرًا كان عند الوليدِ بنِ عُقبةَ [2843] أخرجه مطولًا: الطبراني (2/177) (1725) باختِلافٍ يسيرٍ، والدارقطني (3/114)، والبيهقي (16943) واللَّفظُ لهما. صَحَّح إسنادَه الذهبي في ((تاريخ الإسلام)) (5/87)، وذكر ابن عبد البر في ((الاستذكار)) (3/163) أنَّه روي من طرق. .
قال ابنُ عثيمين: (القَولُ بقَتْلِهم موافِقٌ للقواعِدِ الشَّرعيةِ؛ لأنَّهم يَسعَون في الأرضِ فَسادًا، وفسادُهم من أعظَمِ الفَسادِ، فقَتْلُهم واجِبٌ على الإمامِ، ولا يجوزُ للإمامِ أن يتخَلَّفَ عن قَتْلِهم؛ لأنَّ مِثلَ هؤلاء إذا تُرِكوا وشأنَهم انتَشَر فَسادُهم في أرضِهم وفي أرضِ غَيرِهم، وإذا قُتِلوا سَلِمَ النَّاسُ من شَرِّهم، وارتدع النَّاسُ عن تعاطي السِّحْرِ) [2844] يُنظر: ((القول المفيد)) (1/510). .
5- أنَّ السِّحْرَ يتضَمَّنُ أنواعًا كثيرةً من المُكَفِّراتِ الاعتقاديَّةِ والقَوليَّةِ والعَمَليَّةِ، كأن يعتَقِدَ نَفْعَ الشَّياطينِ وضَرَرَهم بغيرِ إذنِ اللهِ تعالى، أو يعتَقِدَ أنَّ الكواكِبَ مُدَبِّرةٌ لأمرِ العالَمِ، أو ينطِقُ بكَلِمةِ الكُفرِ، كسَبِّ اللهِ تعالى، أو الاستهزاءِ برَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
كما يتضَمَّنُ هذا السِّحْرُ شِركًا في توحيدِ العِبادةِ، فمن ذلك أن يدعوَ غيرَ اللهِ تعالى فيما لا يَقدِرُ عليه إلَّا اللهُ، أو يستعيذَ بالشَّياطينِ أو يَذبَحَ لهم، أو يتقَرَّبَ إليهم بالنُّذورِ.
وقد أوردَ القَرافي أمثِلةً لأنواعِ الكُفرِ التي يتضَمَّنُها هذا السِّحْرُ، فقال: (هذه الأنواعُ قد تقع بلفظٍ هو كُفرٌ، أو اعتقادٍ هو كُفرٌ، أو فِعلٍ هو كُفرٌ؛ فالأوَّلُ: كالسَّبِّ المتعَلِّقِ بمن سَبُّه كُفرٌ، والثَّاني: كاعتقادِ انفرادِ الكواكِبِ أو بَعْضِها بالرُّبوبيَّةِ، والثَّالِثُ: كإهانةِ ما أوجَبَ اللهُ تعالى تعظيمَه من الكِتابِ العزيزِ وغيرِه، فهذه الثَّلاثةُ متى وقع شيءٌ منها في السِّحْرِ، فذلك السِّحْرُ كُفرٌ لا مِرْيَةَ فيه) [2845] يُنظر: ((الفروق)) (4/140). .
وقال السَّعديُّ: (السِّحْرُ يدخُلُ في الشِّركِ من جِهَتَينِ: مِن جِهةِ ما فيه من استخدامِ الشَّياطينِ ومِن التعَلُّقِ بهم، وربَّما تَقَرَّب إليهم بما يحِبُّون؛ ليقوموا بخِدْمَتِه ومَطلوبِه، ومن جهةِ ما فيه من دعوى عِلمِ الغَيبِ، ودعوى مُشاركةِ اللهِ في عِلْمِه، وسُلوكِ الطُّرُقِ المُفضِيةِ إلى ذلك، وذلك من شُعَبِ الشِّركِ والكُفرِ) [2846] يُنظر: ((القول السديد)) (ص: 97). .

انظر أيضا: