الموسوعة العقدية

المَطلَب الأوَّلُ: تنوُّعُ المعلومِ من الدِّينِ بالضَّرورةِ

إنَّ المعلومَ من الدِّينِ بالضَّرورةِ يتنوَّعُ بتنوُّعِ متعَلِّقِه من المسائِلِ والأشخاصِ والأزمِنَةِ والأمكِنَةِ؛ ولذلك يختَلِفُ حُكمُ جاحِدِه أو جاهِلِه باختلافِ ذلك وتنوُّعِه.
فالمسائِلُ الظَّاهِرةُ المتواتِرةُ تكونُ في الجُملةِ معلومةً للنَّاسِ من الدِّينِ بالضَّرورةِ، سواءٌ كانت مسائِلَ الوُجوبِ أو مَسائِلَ التحريمِ، فلا بدَّ أن تكونَ ظاهِرةً ومُتواتِرةً حتى يمكِنَ اعتبارُها من المعلومِ من الدِّينِ بالضَّرورةِ.
وممَّا يندَرِجُ تحت هذا النَّوعِ جميعُ الواجباتِ الظَّاهرةِ المتواترةِ، وجميعُ المحَرَّماتِ تحريمًا ظاهرًا متواترًا.
وهذا الذي عبَّر عنه الشَّافعيُّ بقَولِه: (عِلمُ العامَّةِ)، ثمَّ عَرَّفه بأنَّه: (مِثلُ الصَّلَواتِ الخَمسِ، وأنَّ للهِ على النَّاسِ صَومَ شَهرِ رَمَضانَ، وحَجَّ البيتِ إذا استطاعوه، وزكاةً في أموالِهم، وأنَّه حرَّم عليهم الزِّنا والقَتلَ والسَّرِقةَ والخَمرَ، وما كان في معنى هذا ممَّا كُلِّف العبادُ أن يَعقِلوه ويَعمَلوه، ويُعطوه من أنفُسِهم وأموالِهم، وأن يكُفُّوا عنه ما حُرِّمَ عليهم منه، وهذا الصِّنفُ كُلُّه من العِلمِ موجودٌ نصًّا في كِتابِ اللهِ، موجودٌ عامًّا عند أهلِ الإسلامِ، ينقُلُه عوامُّهم عمَّن مضى من عوامِّهم، يحكونَه عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا يتنازَعون في حكايتِه، ولا وجوبِه عليهم.
وهذا العِلمُ العامُّ الذي لا يمكِنُ فيه الغَلَطُ من الخبرِ والتأويلِ، ولا يجوزُ فيه التنازُعُ) [2487] يُنظر: ((الرسالة)) (1/358). .
وقال ابنُ تيميَّةَ -حاكيًا اتِّفاقَ الصَّحابةِ على قَتلِ من استحَلَّ الخَمرَ-: (وهذا الذي اتَّفَق عليه الصَّحابةُ هو متَّفَقٌ عليه بين أئمَّةِ الإسلامِ، لا يتنازعون في ذلك، ومن جحد وجوبَ بعضِ الواجِباتِ الظَّاهرةِ المتواترةِ؛ كالصَّلَواتِ الخَمسِ، وصيامِ شَهرِ رَمَضانَ، وحَجِّ البيتِ العَتيقِ، أو جَحَدَ تحريمَ بَعضِ المحرَّماتِ الظَّاهرةِ المتواترةِ؛ كالفواحِشِ والظُّلمِ، والخَمرِ والميسِرِ، والزِّنا وغيرِ ذلك، أو جَحَد حِلَّ بَعضِ المباحاتِ الظَّاهرةِ المتواترةِ؛ كالخُبزِ واللَّحمِ والنِّكاحِ- فهو كافِرٌ مُرتَدٌّ، يُستتابُ، فإن تاب وإلَّا قُتِلَ) [2488] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (11/405). .
وقد بنى أهلُ العِلمِ على كَونِ المعلومِ من الدِّينِ بالضَّرورةِ -عند الإطلاقِ- ظاهرًا ومُشتَهِرًا، والنَّاسُ من العِلمِ به سواءٌ؛ بَنَوا على هذا قَولَهم في تكفيرِ جاحِدِه، وفي مَنعِ التقليدِ فيه.
قال الخطَّابي: (وكذلك الأمرُ يعني في التكفيرِ وعَدَمِ العُذرِ في كُلِّ من أنكر شيئًا ممَّا أجمعت عليه الأُمَّةُ من أمورِ الدِّينِ إذا كان مُنتَشِرًا؛ كالصَّلَواتِ الخَمسِ، وصَومِ شَهرِ رمضانَ، والاغتسالِ من الجنابةِ، وتحريمِ الزِّنا والخَمرِ، ونكاحِ ذواتِ المحارمِ، ونحوِها من الأحكامِ) [2489] يُنظر: ((معالم السنن)) (2/9). .
وقال النَّوويُّ: (من جحد ما يُعلَمُ من دينِ الإسلامِ ضَرورةً، حُكِمَ برِدَّتِه وكُفرِه، ... وكذا حُكمُ من استحَلَّ الزِّنا أو الخَمرَ أو القَتلَ أو غيرَ ذلك من المحرَّماتِ التي يُعلَمُ تحريمُها ضرورةً) [2490] يُنظر: ((شرح مسلم)) (1/150). .
وقال الزركشيُّ: (العُلومُ نوعانِ: نوعٌ يَشتَرِكُ في معرفتِه الخاصَّةُ والعامَّةُ، ويُعلَمُ مِنَ الدِّينِ بالضَّرورةِ كالمتواتِرِ؛ فلا يجوزُ التقليدُ فيه لأحَدٍ؛ كعَدَدِ الرَّكعاتِ، وتعيينِ الصَّلاةِ، وتحريمِ الأمَّهاتِ والبناتِ، والزِّنا واللِّواطِ؛ فإنَّ هذا ممَّا لا يَشُقُّ على العامِّي معرفتُه، ولا يشغَلُه عن أعمالِه) [2491] يُنظر: ((البحر المحيط)) (8/332). .
كما أنَّ المعلومَ من الدِّينِ بالضَّرورةِ هو من الأمورِ النِّسبيَّةِ الإضافيَّةِ؛ حيث إنَّه يختَلِفُ كونُه عِلمًا ضروريًّا باختلافِ الأشخاصِ؛ من حيثُ العِلمُ أو العاميَّة، أو حداثةُ العَهدِ بالإسلامِ، أو النُّشوءُ بباديةٍ بعيدةٍ.
قال ابنُ تيميَّةَ: (كونُ الشَّيءِ معلومًا من الدِّينِ ضرورةً أمرٌ إضافيٌّ؛ فحديثُ العَهدِ بالإسلامِ ومن نشأ بباديةٍ بعيدةٍ قد لا يعلَمُ هذا بالكُلِّيَّةِ، فضلًا عن كونِه يَعلَمُه بالضَّرورةِ) [2492] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (13/118). .
وقال ابنُ الوزير: (النَّوعُ الثَّاني ما لا يُعرَفُ تواتُرُه إلَّا الخاصَّةُ، فلا يَكفُرُ مُستحِلُّه من العامَّةِ؛ لأنَّه لم يُبَلِّغْه، وإنَّما يَكفُرُ من استحَلَّه وهو يعلَمُ حُرمتَه بالضَّرورةِ، مِثلُ تحريمِ الصَّلاةِ على الحائضِ، إلى أمثالٍ لذلك كثيرةٍ) [2493] يُنظر: ((العواصم والقواصم)) (4/174). .
كما أنَّ المعلومَ من الدِّينِ بالضَّرورةِ يختَلِفُ كَونُه كذلك باختلافِ الأزمِنةِ والأمكِنةِ من حيثُ ظهورُ آثارِ الرِّسالةِ أو دروسِها
فالمعلومُ من الدِّينِ بالضَّرورةِ في الأزمنةِ والأمكِنةِ التي تُشرِقُ فيها شمسُ الشَّريعةِ، ويَكثُرُ فيها العُلَماءُ العامِلون الذين يبَلِّغون دينَ اللهِ ويقيمون الحُجَّةَ على عبادِ اللهِ: غيرُ المعلومِ من الدِّينِ بالضَّرورةِ إذا غابت شمسُ الشَّريعةِ، وكان العُلَماءُ عُلَماءَ سُوءٍ يُلَبِّسون على النَّاسِ دينَهم، وأهلُ الحَقِّ قليلون، وصَوتُهم لا يَصِلُ إلى النَّاسِ كُلِّهم [2494] يُنظر: ((العذر بالجهل والرد على بدعة التكفير)) لأحمد فريد (ص: 14)، ((الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه)) لعبد الرزاق معاش (ص: 492). .
فما يجِبُ اعتِبارُه في هذا المقامِ اختِلافُ الدِّيارِ بين دارِ الإسلامِ التي هي مَظِنَّةٌ لظُهورِ أحكامِ الإسلامِ، ودارِ الكُفرِ التي ليست مَظِنَّةً لذلك، واختلافُ الأمكنةِ بين مكانٍ يَشيعُ فيه العِلمُ، وباديةٍ بعيدةٍ على العِلمِ، وأمكِنةٍ يَشيعُ فيها العِلمُ الصَّحيحُ، وأخرى تُخَيِّمُ عليها الضَّلالةُ والانحرافُ.
قال ابنُ تيميَّةَ: (كثيرٌ من النَّاسِ قد ينشَأُ في الأمكِنةِ والأزمِنةِ التي يندَرِسُ فيها كثيرٌ من عُلومِ النبُوَّاتِ، حتى لا يبقى من يبلِّغُ ما بعث اللهُ به رسولَه من الكِتابِ والحِكمةِ، فلا يعلَمُ كثيرًا ممَّا بعث اللهُ به رسولَه، ولا يكونُ هناك من يبلِّغُه ذلك، ومِثلُ هذا لا يَكفُرُ) [2495] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (11/407). .
وقال أيضًا: (إنَّ الأمكِنةَ والأزمِنةَ التي تَفتُرُ فيها النُّبوَّةُ لا يكونُ حُكمُ مَن خَفِيَت عليه آثارُ النبُوَّةِ حتى أنكر ما جاءت به خطأً، كما يكونُ حُكمُه في الأمكِنةِ والأزمِنةِ التي ظهَرَت فيها آثارُ النبوَّةِ) [2496] يُنظر: ((بغية المرتاد)) (ص: 311). .
وقال أيضًا: (فإنَّا بعد مَعرفةِ ما جاء به الرَّسولُ نَعلَمُ بالضَّرورةِ أنَّه لم يَشرَعْ لأمَّتِه أن يدعوَ أحدًا من الأمواتِ، لا الأنبياءَ ولا الصَّالحين ولا غيرَهم، لا بلَفظِ الاستغاثةِ ولا بغيرِها، ولا بلَفظِ الاستعاذةِ ولا بغيرِها، كما أنَّه لم يَشرَعْ لأمَّتِه السُّجودَ لميِّتٍ ولا إلى مَيِّتٍ ونحوِ ذلك، بل نعلَمُ أنَّه نهى عن كلِّ هذه الأمورِ، وأنَّ ذلك من الشِّركِ الذي حَرَّمه اللهُ ورَسولُه، لكِنْ لغَلَبةِ الجَهلِ وقِلَّةِ العِلمِ بآثارِ الرِّسالةِ في كثيرٍ من المتأخِّرين لم يمكِنْ تكفيرُهم بذلك، حتى يتبيَّنَ لهم ما جاء به الرَّسولُ ممَّا يخالِفُه) [2497] يُنظر: ((الاستغاثة في الرد على البكري)) (ص: 411). .
وقال أيضًا: (في أوقاتِ الفَتَراتِ وأمكِنَةِ الفَتَراتِ يثابُ الرَّجُلُ على ما معه من الإيمانِ القليلِ، ويَغفِرُ اللهُ فيه لمن لم تقُمِ الحُجَّةُ عليه ما لا يَغفِرُ به لمن قامت الحُجَّةُ عليه، كما في الحديثِ المعروفِ: ((يأتي على النَّاسِ زَمَانٌ لا يَعرِفونَ فيه صلاةً ولا صيامًا ولا حَجًّا ولا عُمرةً إلَّا الشَّيخَ الكبيرَ، والعجوزَ الكبيرةَ، ويقولون: أدرَكْنا آباءَنا وهم يقولونَ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، فقيل لحُذَيفةَ بنِ اليَمانِ: ما تغني عنهم لا إلهَ إلَّا اللهُ؟ فقال: تُنجيهم من النَّارِ )) [2498] أخرجه ابن ماجه (4049)، والحاكم (8636)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (2028) باختِلافٍ يسيرٍ من حَديثِ حُذيفةَ بنِ اليمانِ رضي الله عنه. صَحَّحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (4049)، والوادعي في ((الصَّحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (303)، وصَحَّح إسنادَه الحاكم وقال: على شرط مسلم، والبوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (2/307)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سير أعلام النبلاء)) (12/321) وقال: على شرط مسلم، وقَوَّاه ابن حجر في ((فتح الباري)) (13/19)، وجَوَّده ابن باز في ((الفوائد العلمية)) (2/569). . وأصلُ ذلك أنَّ المقالةَ التي هي كُفرٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ، يقالُ: هي كُفرٌ قَولًا يُطلَقُ، كما دَلَّ على ذلك الدَّلائلُ الشَّرعيةُ؛ فإنَّ الإيمانَ من الأحكامِ المتلَقَّاةِ عن اللهِ ورَسولِه، ليس ذلك ممَّا يَحكُمُ فيه النَّاسُ بظُنونِهم وأهوائِهم، ولا يجِبُ أن يُحكَمَ في كُلِّ شخصٍ قال ذلك بأنَّه كافِرٌ، حتى يَثبُتَ في حَقِّه شُروطُ التكفيرِ، وتنتفي موانِعُه، مِثلُ مَن قال: إنَّ الخَمْرَ أو الرِّبا حلالٌ؛ لقُربِ عَهدِه بالإسلامِ، أو لنشوئِه في باديةٍ بعيدةٍ، أو سَمِع كلامًا أنكره ولم يعتَقِدْ أنَّه من القُرآنِ ولا أنَّه من أحاديثِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كما كان بعضُ السَّلَفِ يُنكِرُ أشياءَ حتى يَثبُتَ عنده أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالها، وكما كان الصَّحابةُ يشكُّون في أشياءَ؛ مِثلُ: رُؤيةِ اللهِ، وغيرِ ذلك) [2499] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (35/ 165). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (قيامُ الحُجَّةِ يختَلِفُ باختلافِ الأزمِنةِ والأمكِنةِ والأشخاصِ؛ فقد تقومُ حُجَّةُ اللهِ على الكُفَّارِ في زمانٍ دونَ زمانٍ، وفي بقعةٍ وناحيةٍ دون أُخرى، كما أنَّها تقومُ على شَخصٍ دون آخَرَ؛ إمَّا لعَدَمِ عَقْلِه وتمييزِه؛ كالصَّغيرِ والمجنونِ، وإمَّا لعَدَمِ فَهْمِه؛ كالذي لا يفهَمُ الخِطابَ، ولم يحضُرْ تَرجمانٌ يُترجِمُ له. فهذا بمنزلةِ الأصَمِّ الذي لا يسمَعُ شيئًا ولا يتمكَّنُ من الفَهمِ) [2500] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) (ص: 414). .

انظر أيضا: