الموسوعة العقدية

المَطْلَبُ الثَّالثُ: حُكمُ التقليدِ في العقيدةِ، وهل يُعدُّ عُذرًا؟

نُقِل جوازُ التقليدِ في العقائِدِ عن الأئِمَّةِ الأربعةِ، واشتَهَر عن الحنابِلةِ والظَّاهِريَّةِ وغَيرِهم [1667] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (8/ 324)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (2/ 241)، ((الإحكام)) للآمدي (4/ 223). ، ونسبه ابنُ تَيميَّةَ إلى جمهورِ الأمَّةِ.
قال ابنُ تَيميَّةَ: (أمَّا في المسائِلِ الأُصوليَّةِ فكثيرٌ من المتكَلِّمةِ والفُقَهاءِ من أصحابِنا وغيرِهم من يوجِبُ النَّظَرَ والاستدلالَ على كُلِّ أحدٍ، … وأمَّا جمهورُ الأُمَّةِ فعلى خِلافِ ذلك، فإنَّ ما وجب عِلمُه إنما يجِبُ على من يقدِرُ على تحصيلِ العِلمِ، وكثيرٌ من النَّاسِ عاجِزٌ عن العِلمِ بهذه الدَّقائِقِ، فكيف يكَلَّفُ العِلمَ بها؟!) [1668] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (20/202). .
ومن أهَمِّ أدِلَّتِهم: (أنَّ الأصولَ والفُروعَ قد استوَيَا في التكليفِ بهما، وقد جاز التقليدُ في الفروعِ، فكذلك في الأصولِ) [1669] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/225)، أمَّا القولُ بأنَّ المطلوب في العقائد اليقينُ، وفي الفروعِ الظَّنُّ، فهذا من بِدَعِ المتكَلِّمين المشهورة، وبسَبَبِها قالوا: لا يُحتجُّ بحديثِ الآحادِ في أمورِ العقيدةِ، ولا يصِحُّ إيمانُ المقَلِّدِ، وغيرَ ذلك من البِدَعِ. .
ولا دليلَ على التفريقِ بينهما، وردُّوا على من اشترط أو أوجب النَّظَرَ على الجميعِ بأنَّ ذلك يقتضي تضليلَ أو تكفيرَ عوامِّ المسلمين، وأنَّ ذلك من تكليفِ ما لا يُطاقُ.
قال المظفَّرُ بنُ السمعانيِّ: (إيجابُ مَعرفةِ الأُصولِ على ما يقَولُه المتكَلِّمون بعيدٌ جِدًّا عن الصَّوابِ، ومتى أوجَبْنا ذلك فمتى يوجَدُ من العوامِّ من يعرف ذلك، وتصدُرُ عقيدتُه عنه؟! بل يكونُ أكثَرُ العوامِّ بحيث لو عُرِض عليهم تلك الدَّلائِلُ لم يفهموها أصلًا، فضلًا من أن يصيروا أصحابَ دلائِلَ، ويَقِفوا على العقائِدِ بالطُّرُقِ البُرهانيَّة، وإنَّما غايةُ العامِّي أن يتلقَّى ما يريدُ أن يعتَقِدَه ويَلقى به رَبَّه من العُلَماء، ويتَّبِعَهم في ذلك ويقَلِّدَهم، ... على أنَّا لا نُنكِرُ من الدَّلائِلِ العَقليَّةِ بقَدرِ ما ينال المسلِمُ به بَرْدَ اليقين، ويزدادُ به ثقةً فيما يعتَقِدُه وطمأنينةً، وإنما ننكِرُ إيجابَ التوصُّلِ إلى العقائِدِ في الأصولِ بالطَّريقِ الذى اعتقدوه، وساموا جميعَ المسلمين سلوكَ طريقِه، وزعموا أنَّه من لم يفعَلْ ذلك فلم يعرِفِ اللهَ تعالى، ثم أدَّى بهم ذلك إلى تكفيرِ العوامِّ أجمَعَ!) [1670] يُنظر: ((قواطع الأدلة في الأصول)) (2/ 346)، ((البحر المحيط)) للزركشي (8/ 326)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (2/ 241). .
وقال صلاح الدين العلائي: (من لا أهلِيَّةَ له لفَهمِ شَيءٍ مِن الأدِلَّة أصلًا وحصل له اليقينُ التَّامُّ بالمطلوبِ، إمَّا بنشأته على ذلك أو لنُورٍ يقذِفُه اللهُ في قَلْبِه، فإنَّه يُكتفى منه ذلك، ومن فيه أهليَّةٌ لفَهمِ الأدِلَّة لم يكتَفِ منه إلَّا بالإيمانِ عن دليلٍ، ومع ذلك فدليلُ كُلِّ أحَدٍ بحسَبِه، وتكفي الأدِلَّةُ المجمَلةُ التي تحصُلُ بأدنى نَظَرٍ، ومن حصَلَت له شُبهةٌ وجب عليه التعَلُّمُ إلى أن تزولَ عنه، … أمَّا من غلا فقال: لا يكفي إيمانُ المقَلِّدِ، فلا يُلتَفَتُ إليه؛ لِما يلزم منه القولُ بعدم إيمانِ أكثر المسلمين، وكذا من غلا أيضًا فقال: لا يجوز النَّظَرُ في الأدِلَّة؛ لِما يلزم منه من أنَّ أكابِرَ السَّلَفِ لم يكونوا من أهلِ النَّظَرِ) [1671] يُنظر: ((فتح الباري)) (13/354). .
والذي يظهَرُ من كلامِ الأئِمَّة أنَّ العُذرَ بالتقليدِ من جِنسِ العُذرِ بالتأويلِ والجَهلِ، باعتبارِ المقَلِّدِ جاهلًا لا يفهَمُ الدَّليلَ أو الحُجَّةَ، فإذا عُذِر من وقع في الكُفرِ متأوِّلًا رَغْمَ عِلمِه واجتهادِه، فعُذرُ من يقَلِّدُه من العوامِّ الجهَّالِ مِن بابِ أَولى.
قال ابنُ تَيميَّةَ بعدما تكلَّم عن كُفرِ وضَلالِ أهلِ الحُلولِ والاتحادِ مِن غلاةِ المتصَوِّفة؛ كابن سبعين، وابن عربي، وابن الفارض، وأمثالهم: (فكُلُّ من كان أخبَرَ بباطِنِ هذا المذهَبِ، ووافقهم عليه، كان أظهَرَ كُفرًا وإلحادًا، وأمَّا الجُهَّالُ الذين يحسِنون الظَّنَّ بقولِ هؤلاء ولا يفهمونَه، ويعتقدون أنَّه من جِنسِ كلامِ المشايخ العارفين الذين يتكلَّمون بكلامٍ صحيحٍ لا يفهَمُه كثيرٌ من النَّاسِ، فهؤلاء تجِدُ فيهم إسلامًا وإيمانًا، ومتابعةً للكتابِ والسُّنَّةِ بحسَبِ إيمانِهم التقليديِّ، وتجِدُ فيهم إقرارًا لهؤلاء وإحسانًا للظَّنِّ بهم، وتسليمًا لهم بحسَبِ جَهْلِهم وضلالِهم، ولا يُتصَوَّرُ أن يُثنيَ على هؤلاء إلَّا كافِرٌ مُلحِدٌ، أو جاهِلٌ ضالٌّ) [1672] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (2/367). .
وقال في موضِعٍ آخَرَ أشار فيه إلى موقِفِ أحمدَ بنِ حَنبلٍ مِن الخُلَفاءِ الذين قالوا بقَولِ الجَهميَّةِ، وامتحنوا وعاقَبوا من خالفهم: (ومع هذا فالإمامُ أحمدُ رحمه الله تعالى ترحَّم عليهم واستغفر لهم؛ لعِلْمِه بأنَّهم لم يتبَيَّن لهم أنَّهم مكَذِّبون للرَّسولِ، ولا جاحِدون لِما جاء به، ولكن تأوَّلوا فأخطَؤوا، وقلَّدوا من قال لهم ذلك) [1673] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (23/349). .
وفي موضعٍ آخَرَ أشار إلى عُذرِ بعضِ من يقلِّد الشُّيوخَ والعُلَماء فيما هو من جِنسِ الشِّركِ، فقال: (... وإن كانت من جِنسِ الشِّركِ، فهذا الِجنسُ ليس فيه شيءٌ مأمورٌ به، لكن قد يحسَبُ بعضُ النَّاسِ في بعضِ أنواعِه أنَّه مأمورٌ به، وهذا لا يكونُ مجتَهِدًا؛ لأنَّ المجتَهِدَ لا بدَّ أن يَتْبَعَ دليلًا شرعيًّا، وهذه لا يكونُ عليها دليلٌ شرعيٌّ، لكِنْ قد يفعَلُها باجتهادِ مِثْلِه، وهو تقليدُه لِمن فعل ذلك من الشُّيوخِ والعُلَماء, والذين فعلوا ذلك قد فعَلوه لأنَّهم رأوه ينفَعُ، أو لحديثٍ كَذِبٍ سَمِعوه، فهؤلاء إذا لم تقُمْ عليهم الحُجَّةُ بالنَّهيِ لا يُعَذَّبون) [1674] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (20/32). .
وقال أيضًا: (وأما المنتَسِبون إلى الشَّيخِ يونس، فكثيرٌ منهم كافِرٌ باللهِ ورَسولِه، لا يقِرُّون بوجوبِ الصَّلَواتِ الخَمسِ، وصيامِ شَهرِ رمَضانَ، وحَجِّ البيتِ العتيقِ، ولا يحَرِّمون ما حرَّم اللهُ ورسولُه، بل لهم من الكلامِ في سَبِّ اللهِ ورسولِه والقرآنِ والإسلامِ ما يعرِفُه من عرفهم، أمَّا من كان فيهم من عامَّتِهم لا يعرِفُ أسرارَهم وحقائِقَهم، فهذا يكونُ معه إسلامُ عامَّةِ المسلمين الذي استفاده من سائرِ المسلمين، لا منهم) [1675] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (2/106) (2/131، 378). .
وقال ابنُ القَيِّم في بيانِ أقسامِ أهلِ البِدَعِ: (وأمَّا أهلُ البِدَعِ الموافِقون أهلَ الإسلامِ، ولكِنَّهم مخالفون في بعضِ الأصولِ؛ كالرَّافِضةِ، والقَدَريَّةِ، والجَهْميَّةِ، وغُلاةِ المرجئةِ ونحوهم، فهؤلاء أقسامٌ:
أحدها: الجاهِلُ المقَلِّدُ الذي لا بصيرةَ له، فهذا لا يَكفُرُ ولا يَفسُقُ، ولا تُرَدُّ شهادتُه إذا لم يكن قادرًا على تعلُّمِ الهدى، وحُكمُه حُكمُ المستضعَفينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الذين لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا *النساء: 98-99*.
القِسمُ الثَّاني: المتمكِّنُ من السُّؤالِ وطَلَبِ الهداية ومعرفةِ الحَقِّ، ولكِنْ يترك ذلك اشتغالًا بدُنياه ورئاستِه ولذَّتِه ومعاشِه وغيرِ ذلك، فهذا مُفَرِّطٌ مُستحِقٌّ للوعيدِ، آثمٌ بتَرْكِ ما وجب عليه من تقوى الله بحسَبِ استطاعتِه؛ فهذا حُكمُه حُكمُ أمثاله من تاركي بعضِ الواجباتِ، فإن غلب ما فيه من البِدعةِ والهوى على ما فيه من السُّنَّةِ والهُدى، رُدَّت شهادتُه، وإن غلب ما فيه من السُّنَّة والهدى قُبِلت شهادتُه.
القِسمُ الثَّالِثُ: أن يسألَ وَيطلُبَ ويتبيَّنَ له الهُدى، ويتركَه تقليدًا أو تعصُّبًا، أو بغضًا ومعاداةً لأصحابِه، فهذا أقَلُّ دَرَجاتِه أن يكون فاسقًا، وتكفيرُه محلُّ اجتهادٍ وتفصيلٍ) [1676] يُنظر: ((الطرق الحكمية)) (1/ 464). .
 وقال أيضًا: (لا بدَّ في هذا المقامِ من تفصيلٍ به يزولُ الإشكالُ، وهو الفَرقُ بين مقلِّدٍ تمكَّنَ من العِلمِ ومعرفةِ الحَقِّ، فأعرض عنه، ومقَلِّدٍ لم يتمكَّنْ من ذلك بوَجهٍ، والقِسمانِ واقِعانِ في الوجودِ، فالمتمَكِّنُ المعرِضُ مُفَرِّطٌ تاركٌ للواجِبِ عليه، لا عُذْرَ له عند اللهِ) [1677] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) (ص: 412). .

انظر أيضا: