الموسوعة العقدية

المَبْحَثُ السَّابِعُ: من قواعِدِ وضوابِطِ التَّكفيرِ عند أهلِ السُّنَّةِ: لا يُحكَمُ لمعيَّنٍ بجَنَّةٍ ولا نارٍ إلَّا بدَليلٍ خاصٍّ

 قال اللهُ تعالى: وَإِلَى اللَّه تُرْجَعُ الْأُمُورُ [آل عمران: 109] .
 قال السَّمرقنديُّ: (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يقولُ: تصيرُ أمورُ العبادِ إلى اللهِ في الآخِرةِ) [1334] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (1/ 238). .
قال أبو بكرٍ الإسماعيليُّ عن أهلِ الحَديثِ: (لا يَقطَعونَ على أحَدٍ مِن أهلِ المِلَّةِ أنَّه من أهلِ الجَنَّةِ أو من أهل ِالنَّارِ؛ لأنَّ عِلمَ ذلك يَغيبُ عنهم، لا يدرون على ماذا يموتُ: أعلى الإسلامِ أم على الكُفْرِ؟ ولكن يقولون: إنَّ من مات على الإسلامِ مُجتَنِبًا للكبائِرِ والأهواءِ والآثامِ فهو من أهلِ الجنَّةِ؛ لِقَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البينة: 7] ، ولم يذكُرْ عنهم ذَنبًا أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَناتُ عَدْنٍ [البينة: 7- 8] ، ومن شهد له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعَيْنِه بأنَّه من أهلِ الجَنَّةِ، وصَحَّ له ذلك عنه، فإنَّهم يَشهَدونَ له بذلك اتِّباعًا لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتصديقًا لقَولِه) [1335] يُنظر: ((اعتقاد أهل السنة)) (ص: 48). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (لا يُشهَدُ لِمُعَيَّنٍ بالجنَّةِ إلَّا بدليلٍ خاصٍّ، ولا يُشهَدُ على مُعَيَّنٍ بالنَّارِ إلَّا بدليلٍ خاصٍّ، ولا يُشهَدُ لهم بمجَرَّدِ الظَّنِّ من اندراجِهم في العُمومِ) [1336] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (35/68). .
وقال أيضًا: (إنَّا نُطلِقُ القَوْلَ بنُصوصِ الوَعدِ والوعيدِ والتَّكفيرِ والتَّفسيقِ، ولا نحكُمُ للمُعَيَّنِ بدخولِه في ذلك العامِّ حتى يقومَ فيه المقتضي الذي لا معارِضَ له) [1337] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (28/501). .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (قَولُه أي الطَّحاوي: «ولا ننزِلُ أحدًا منهم جنَّةً ولا نارًا».
ش: يريدُ: أنَّا لا نقولُ عن أحدٍ مُعَيَّنٍ من أهل القِبلةِ: إنَّه من أهلِ الجنَّةِ أو من أهلِ النَّارِ، إلَّا من أخبر الصَّادِقُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه من أهلِ الجَنَّةِ، كالعَشَرةِ رَضِيَ اللهُ عنهم. وإن كُنَّا نقولُ: إنَّه لا بُدَّ أن يَدخُلَ النَّارَ مِن أهلِ الكبائِرِ من يشاءُ اللهُ إدخالَه النَّارَ، ثُمَّ يخرجُ منها بشفاعةِ الشَّافعين، ولكِنَّا نَقِفُ في الشَّخصِ المعَيَّنِ، فلا نشهَدُ له بجنَّةٍ ولا نارٍ إلَّا عن عِلمٍ؛ لأنَّ حقيقتَه باطنةٌ، وما مات عليه لا نحيطُ به، لكِنْ نرجو للمُحسِنِ، ونخافُ على المسيءِ) [1338] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/537). .
وقال ابنُ عثيمين: (أمَّا الشَّهادةُ بالكُفْرِ ففي الدُّنْيا نشهَدُ على أنَّ هذا الرَّجُلَ الكافِرَ الذي يُعلِنُ الكُفْرَ ويعتَزُّ به؛ نشهَدُ أنَّه كافِرٌ، ونشهد أنَّه مات على الكُفْرِ، ما لم يظهَرْ لنا أنَّه تاب، لكِنَّ النَّارَ لا نشهَدُ بها له؛ لأنَّ هذا عَمَلٌ غَيبيٌّ قد يكونُ في آخِرِ لحظةٍ آمَنَ، ما ندري، ولكِنْ هل إذا لم نشهَدْ له هل ينفَعُه ذلك ويمنَعُه من النَّار؟ لا ينفَعُه، هو إذا كان في النَّارِ فهو في النَّارِ سواءٌ شَهِدْنا أم لم نَشهَدْ، إذا لا فائدةَ من أن نقولَ: هو في النَّارِ أو ليس في النَّار، إنَّما أحكامُ الدُّنْيا نحكُمُ بأنَّه كافِرٌ حتى لو قيل: إنَّه يحسِنُ، وإنَّه يفعَلُ ويفعَلُ، فهذا لا ينفَعُه، لا سِيَّما إذا كان يفعَلُ باسمِ دينٍ غيرِ دينِ الإسلامِ، فتَجِدُه مثلًا: يحسِنُ على النَّاسِ، والصَّليبُ مُعَلَّقٌ في صدره، وما معنى هذا؟ هل هو يحسِنُ من أجلِ أن يدعوَ النَّاسَ إلى النصرانيَّةِ، ويقولُ: هذا فِعلُ النَّصارى، أو يحسِنُ لله؟ ظاهِرُ الحالِ الأوَّلُ، وأنَّه في إحسانِه هذا إنَّما يقصِدُ تأليهَ النَّصارى، فالحمدُ لله نحن إذا قُلْنا: إنَّه مات على الكُفْرِ، لا نترحَّمُ عليه، ولا نسألُ اللهَ له المغفِرةَ، يكفي، أمَّا أن نقولَ: إنَّه في النَّارِ أو في غير النَّار، فلا؛ ولهذا كان من طريقِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ: أنَّهم لا يَشهَدونَ لِمُعَيَّن بجنَّةٍ ولا نارٍ، إلَّا من شَهِدَ له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [1339] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) (رقم اللقاء: 165). .
وقال ابنُ جبرين: (أمَّا الشَّهادةُ بالنَّار لمُعَيَّنٍ؛ فلا تجوزُ أيضًا إلَّا لمن ورد فيه النَّصُّ، فقد ورد النَّصُّ مثلًا في أبي لهبٍ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد: 3] ، وكذلك في أبي جَهلٍ لما قُتِلَ أخذَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يوبِّخُه هو ومن معه ويقولُ: ((هل وجَدْتُم ما وعدكم ربَّكم حَقًّا؟ فإنِّي وجدتُ ما وعَدَني ربي حَقًّا )) [1340] أخرجه مسلم (2874) باختلاف يسير مِن حَديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وكذلك قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أبي طالبٍ: إنَّه ((في ضَحضاحٍ مِن نارٍ )) [1341] أخرجه البخاري (6208)، ومسلم (209) مُطَوَّلًا مِن حَديثِ العبَّاسِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ رَضِيَ اللهُ عنه. ، والحاصِلُ أنَّ من ورد النَّصُّ بأنَّه من أهلِ النَّارِ يُشهَدُ له بذلك) [1342] يُنظر: ((الإرشاد شرح لمعة الاعتقاد)) (ص: 329). .

انظر أيضا: