الموسوعة العقدية

المَطْلَبُ الثَّاني: الكُفْر الأصغَرُ

الكُفْرُ الأصْغَرُ غيرُ مُخْرِج من المِلَّةِ، ولا يُناقِضُ أصلَ الإيمانِ، بل يَنقُصُه ويُضعِفُه، ولا يَسلُبُ صاحِبَه صِفةَ الإسلامِ وحَصانتَه. وهو المشهورُ عند العُلَماءِ بقَولِهم: (كُفرٌ دونَ كُفرٍ).
وقد أطلقه الشَّارعُ على بَعْضِ المعاصي والذُّنوبِ على سبيلِ الزَّجرِ والتَّهديدِ؛ لأنَّها من خِصالِ الكُفْرِ، وهي لا تَصِلُ إلى حَدِّ الكُفْرِ الأكبَرِ، وإنَّما هي مِن كبائِرِ الذُّنوبِ، وهو مُقتَضٍ لاستحقاقِ الوَعيدِ والعذابِ دون الخُلودِ في النَّارِ. وصاحِبُ هذا الكُفْرِ مِمَّن تنالُهم شفاعةُ الشَّافعينَ بإذنِ اللهِ تعالى.
ولهذا النَّوعِ مِن الكُفْرِ صُوَرٌ كثيرةٌ؛ منها:
1- كُفرُ النِّعمةِ:
وذلك بنِسبتِها إلى غيرِ اللهِ تعالى بلِسانِه دونَ اعتقادِه.
قال اللهُ تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ [النحل: 83] .
 قال الشَّوكاني: (جُملةُ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا استئنافٌ لبيانِ تَوَلِّيهم، أي: هم يَعرِفون نعمةَ اللهِ التي عَدَّدها، ويعترفون بأنَّها من عندِ اللهِ سُبحانَه، ثُمَّ يُنكِرونَها بما يقَعُ من أفعالِهم القبيحةِ من عبادةِ غيرِ اللهِ، وبأقوالهم الباطِلةِ، حيث يقولون: هي من اللهِ، ولكِنَّها بشفاعةِ الأصنامِ، وحيث يقولون: إنَّهم وَرِثوا تلك النِّعَمَ من آبائِهم، وأيضًا كونُهم لا يَستعمِلون هذه النِّعَمَ في مرضاةِ الرَّبِّ سُبحانَه، وفي وُجوهِ الخيرِ التي أمرهم اللهُ بصَرْفِها فيها، وقيل: نعمةُ اللهِ نُبُوَّةُ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كانوا يعرفونه ثُمَّ يُنكِرون نُبُوَّتَه وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ أي: الجاحِدون لنِعَمِ اللهِ، أو الكافِرون باللهِ) [1019] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/ 222). .
ومن ذلك قَولُ الرَّجُلِ: لولا فلانٌ لم يكُنْ كذا وكذا، فينسُبون النِّعمةَ إلى غيرِ اللهِ، مع عِلْمِهم أنَّها بتوفيقِ اللهِ وَحْدَه.
قال السَّعْديُّ: (الشِّركُ الأصْغَرُ كالشِّركِ في الألفاظِ؛ كالحَلِفِ بغيرِ اللهِ، وكالتَّشريكِ بين اللهِ وبين خَلْقِه في الألفاظِ، كـ: لولا اللهُ وفلانٌ، وهذا باللهِ وبك؛ وكإضافةِ الأشياءِ ووُقوعِها لغيرِ اللهِ، كـ: لولا الحارِسُ لأتانا اللُّصوصُ، ولولا الدَّواءُ الفلاني لهلكْتُ، ولولا حِذقُ فُلانٍ في المكسَبِ الفلانيِّ لَمَا حَصَل. فكُلُّ هذا ينافي التَّوحيدَ.
والواجِبُ أن تضافَ الأمورُ ووقوعُها ونَفْعُ الأسبابِ إلى إرادةِ اللهِ، وإلى اللهِ ابتداءً، ويُذكَر مع ذلك مرتبةُ السَّبَبِ ونَفْعُه، فيقول: لولا اللهُ ثُمَّ كذا؛ لِيُعلَمَ أنَّ الأسبابَ مربوطةٌ بقَضاءِ اللهِ وقَدَرِه) [1020] يُنظر: ((القول السديد)) (ص: 143). .
ومن ذلك تسميةُ الأبناءِ بعَبدِ الحارثِ، وعبدِ الرَّسولِ، وعبدِ الحُسَين، ونحوِها؛ لأنَّه عبَّده لغيرِ اللهِ لفظًا، مع أنَّه هو خالِقُه والمنعِمُ عليه.
قال وَلِيُّ اللهِ الدهلَوِيُّ في بابِ أقسامِ الشِّركِ: (ومنها: أنَّهم كانوا يُسَمُّون أبناءَهم عَبْدَ العُزَّى وعَبْدَ شَمسٍ ونحوَ ذلك... وقد ثبت في أحاديثَ لا تُحصى أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غيَّر أسماءَ أصحابِه عَبْدَ العُزَّى وعَبْدَ شَمسٍ ونَحوَهما إلى عَبدِ اللهِ وعَبدِ الرَّحمنِ وما أشبَهَهما؛ فهذه أشباحٌ وقَوالِبُ للشِّركِ نهى الشَّارعُ عنها؛ لكَونِها قوالِبَ له. واللهُ أعلَمُ)  [1021]يُنظر: ((حجة الله البالغة)) (1/ 122). .
2- كُفرانُ العَشيرِ والإحسانِ:
عنِ ابنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عنهما قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أُرِيتُ النَّارَ، فإذا أكثَرُ أهلِها النِّساءُ؛ يَكْفُرْنَ )) قيل: أيكْفُرْنَ باللهِ؟ قال: ((يَكْفُرْنَ العشيرَ، ويَكْفُرْنَ الإحسانَ؛ لو أحسَنْتَ إلى إحداهنَّ الدَّهرَ ثُمَّ رأت منك شيئًا، قالت: ما رأيتُ منك خيرًا قطُّ! )) [1022] أخرجه البخاري (29) واللَّفظُ له، ومسلم (907) مُطَوَّلًا. .
قال أبو العَبَّاسِ القُرطبي: (أمَّا الكُفْرُ الواقِعُ في الشَّرعِ، فهو جَحدُ المعلومِ منه ضرورةً شَرعيَّةً، وهذا هو الذي جرى به العُرفُ الشَّرعيُّ، وقد جاء فيه الكُفْرُ بمعنى جَحْدِ المنعِمِ، وتَرْكِ الشُّكرِ على النِّعَمِ، وتَرْكِ القيامِ بالحُقوقِ، ومنه قَولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ للنِّساءِ: ((يَكْفُرْنَ الإحسانَ، ويَكْفُرْنَ العشيرَ ))، أي: يجحَدْنَ حُقوقَ الأزواجِ وإحسانَهم، ومن هاهنا صَحَّ أن يقالَ: كُفرٌ دونَ كُفرٍ، وظُلمٌ دونَ ظُلمٍ) [1023] يُنظر: ((المفهم)) (1/253). .
3- الحَلِفُ بغيرِ اللهِ تعالى:
عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((من حَلَف بغيرِ اللهِ فقد كفر أو أشرَكَ )) [1024] أخرجه أبو داود (3251)، والترمذي (1535) واللَّفظُ له، وأحمد (6072). صَحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (4358)، والحاكم على شَرطِ الشَّيخَينِ في ((المستدرك)) (7814)، وابن تيمية كما في ((المستدرك على مجموع الفتاوى)) لابن قاسم (1/28)، وابن القيم في ((الوابل الصيب)) (189).
قال المناوي: ((من حَلَف بغيرِ اللهِ فقد كَفَر))، وفي روايةٍ: (أشرك) أي: فَعَل فِعْلَ أهلِ الشِّرْك أو تشَبَّه بهم؛ إذ كانت أيمانُهم بآبائِهم وما يَعبُدون من دون اللهِ أو فقد أشركَ في تعظيمِ من لم يكُنْ أن يُعَظِّمَه؛ لأنَّ الأيمانَ لا تصلُحُ إلَّا باللهِ؛ فالحالِفُ بغيرِه مُعَظِّمٌ غَيرَه ممَّا ليس له؛ فهو يُشرِكُ غيرَ اللهِ في تعظيمِه. ورَجَّحَه ابنُ جريرٍ. ومن هذا التَّقريرِ عُلِمَ أنَّ مَن زَعَم أنَّ الخَبَر ورد على مَنهَجِ الزَّجرِ والتَّغليظِ، فقد تكَلَّفَ ) [1025] يُنظر: ((فيض القدير)) (6/ 120). .
وقد قَرَّر عُلَماءُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ أنَّ هذا الشِّرْكَ والكُفْرَ هما من الأصْغَرِ الذي لا يُخرجُ صاحِبَه من الإسلامِ، ما لم يَعظُمِ المحلوفُ به في قَلْبِ الحالِفِ، كتعظيمِ اللهِ تعالى [1026] يُنظر: ((طرح التثريب)) للعراقي (7/ 142 - 147). .
قال النووي: (لو اعتَقَد الحالِفُ في المحلوفِ به من التَّعظيمِ ما يعتَقِدُه في اللهِ تعالى، كَفَر) [1027] يُنظر: ((روضة الطالبين)) (11/6). .
وقال ابنُ باز: (من الشِّرْكِ الأصْغَرِ الحَلِفُ بغيرِ اللهِ، كما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من حَلَف بشيءٍ دون اللهِ فقد أشرَكَ)) أخرجه الإمامُ أحمَدُ من حديثِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، بإسنادٍ صحيحٍ. [1028] أخرجه أحمد (4904)، والطبراني (13/224) (13951) واللفظ لهما، والحاكم (168) باختلاف يسير صحح إسناده ابن كثير في ((مسند الفاروق)) (1/431)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (1/166)، وابن باز في ((فتاوى نور على الدرب)) (4/72)، والألباني على شرط الشيخين في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (5/70) وأخرجه أبو داودَ والتِّرمذيُّ من حديثِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((من حلف بغيرِ اللهِ فقد أشرك أو كَفَر )) [1029] أخرجه أبو داود (3251)، والترمذي (1535) واللَّفظُ له، وأحمد (6072). صَحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (4358)، والحاكم على شَرطِ الشَّيخَينِ في ((المستدرك)) (7814)، وابن تيمية كما في ((المستدرك على مجموع الفتاوى)) لابن قاسم (1/28)، وابن القيم في ((الوابل الصيب)) (189). هكذا شَكَّ الرَّاوي، أو المعنى: وكَفَر، بأن تكونَ أو بمعنى الواو، يعني: وقع في الشِّرْكِ والكُفْرِ جميعًا.
هذا عند أهلِ العِلمِ شِركٌ أصْغَرُ؛ لأنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أقرَّهم على الحَلِفِ بغيرِ اللهِ في أوَّلِ الإسلامِ، ولم ينْهَهم عن ذلك، ثُمَّ نهاهم بعد ذلك، فلو كان شِركًا أكبَرَ لم يُقِرَّهم عليه؛ لأنَّ اللهَ بعثه بإنكارِه من حين بُعِثَ في مكَّةَ، فعندما أقَرَّهم عليه دهرًا من الزَّمانِ، ثُمَّ نهاهم في المدينةِ بعد ذلك، دَلَّ على أنَّه شِركٌ أصْغَر، لو كان أكبَرَ لَمَا أذِنَ فيه أبدًا، بل نهى عنه من أوَّلِ وَهلةٍ) [1030] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (4/72).    .
وقال ابنُ عثيمين في تعريف الشِّرْك الأصْغَر: (كُلُّ عَمَلٍ قَوليٍّ أو فِعليٍّ أَطلق عليه الشَّرعُ وَصْفَ الشِّرْكِ، ولكنَّه لا يُخرِجُ مِنَ المِلَّةِ، مِثلُ الحَلِفِ بغيرِ اللهِ) [1031] يُنظر: ((مجموع فتاوى)) ابن عثيمين (2/203)، ((شرح الأصول الثلاثة)) ضمن ((مجموع الفتاوى)) له (7/115). .
وقال أيضًا: (الحَلِفُ بغيرِ اللهِ شِركٌ أكبَرُ إذا اعتقد أنَّ المحلوفَ به مساوٍ للهِ تعالى في التَّعظيمِ والعَظَمةِ، وإلَّا فهو شِركٌ أصْغَرُ) [1032] يُنظر: ((القول المفيد)) (2/325). .
4- قِتالُ المُسْلِمِ:
عنِ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((سِبابُ المُسْلِمِ فُسوقٌ، وقِتالُه كُفرٌ )) [1033] أخرجه البخاري (48)، ومسلم (64). .
قال النَّوويُّ: (السَّبُّ في اللُّغةِ: الشَّتمُ والتَّكَلُّمُ في عِرضِ الإنسانِ بما يَعيبُه. والفِسقُ في اللُّغةِ: الخُروجُ. والمرادُ به في الشَّرعِ: الخروجُ عن الطَّاعةِ، وأمَّا معنى الحديثِ فسَبُّ المُسْلِمِ بغيرِ حَقٍّ حَرامٌ بإجماعِ الأُمَّةِ، وفاعِلُه فاسِقٌ، كما أخبر به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأما قتالُه بغيرِ حَقٍّ فلا يَكفُرُ به عند أهلِ الحَقِّ كفرًا يَخرُجُ به من المِلَّةِ، كما قَدَّمْناه في مواضِعَ كثيرةٍ، إلَّا إذا استحَلَّه. فإذا تقَرَّر هذا فقيلَ في تأويلِ الحديثِ أقوالٌ؛ أحدها: أنَّه في المستَحِلِّ. والثَّاني: أنَّ المرادَ كُفرُ الإحسانِ والنِّعمةِ وأُخُوَّةِ الاسلامِ لا كُفرُ الجُحودِ. والثَّالِثُ: أنَّه يَؤُولُ إلى الكُفْرِ بشُؤمِه. والرَّابعُ: أنَّه كفِعلِ الكُفَّارِ. واللهُ أعلَمُ، ثُمَّ إنَّ الظَّاهِرَ من قتالِه المقاتَلةُ المعروفةُ) [1034] يُنظر: ((شرح مسلم)) (2/ 53). .
وقال الطِّيبي: (معنى الحديثِ راجِعٌ إلى قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((المُسْلِمُ من سَلِمَ المُسْلِمون من لسانِه ويَدِه)) [1035] أخرجه البخاري (10) واللَّفظُ له مُطَوَّلًا، ومسلم (40) مِن حَديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرو رَضِيَ اللهُ عنهما. وأخرجه مسلم (41) مِن حَديثِ جابرِ بنِ عبدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهما. ، وقد تقرَّر أنَّ المُسْلِم هنا الكامِلُ في الإيمانِ، المؤدِّي لحُقوقِه بحَسَبِ استطاعتِه، فالنِّسبةُ إلى الكُفْرِ في هذا الحديثِ إشارةٌ إلى نُقصانِ إيمانِه تغليظًا) [1036] يُنظر: ((شرح المشكاة)) (10/ 3112). .
وعنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا تَرجِعوا بَعْدي كُفَّارًا؛ يضرِبُ بعضُكم رقابَ بَعضٍ )) [1037] أخرجه البخاري (7077) واللَّفظُ له، ومسلم (66). .
قال النوويُّ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَرجِعوا بعدي كُفَّارًا؛ يَضرِبُ بَعضُكم رِقابَ بَعضٍ )) قيل في معناه سبعةُ أقوالٍ؛ أحَدُها: أنَّ ذلك كُفرٌ في حَقِّ المستحِلِّ بغيرِ حَقٍّ. والثَّاني: المرادُ كُفرُ النِّعمةِ وحَقِّ الإسلامِ. والثَّالثُ: أنَّه يُقَرِّبُ من الكُفْرِ ويؤدِّي إليه. والرابعُ: أنَّه فِعلٌ كفِعلِ الكُفَّارِ. والخامِسُ: المرادُ حقيقةُ الكُفْرِ، ومعناه: لا تَكفُروا بل دوموا مُسْلِمين. والسَّادِسُ: حكاه الخطَّابي وغيرُه، أنَّ المرادَ بالكُفَّارِ المتكَفِّرون بالسِّلاحِ، يقالُ: تكَفَّر الرَّجُلُ بسلاحِه: إذا لَبِسَه. قال الأزهريُّ في كتابِه «تهذيب اللغة» يقال للابِسِ السِّلاحِ: كافِرٌ. والسَّابِعُ: قاله الخَطَّابي، معناه: لا يُكَفِّرْ بَعضُكم بعضًا، فتَستَحِلُّوا قِتالَ بَعْضِكم بعضًا. وأظهَرُ الأقوالِ الرَّابِعُ، وهو اختيارُ القاضي عياضٍ رحمه اللهُ) [1038] يُنظر: ((شرح مسلم)) (2/ 55). .
فهذا النَّوعُ من الكُفْرِ غيرُ مُخْرِجٍ من المِلَّةِ باتِّفاقِ الأئِمَّةِ [1039] يُنظر: ((الإيمان)) للقاسم بن سلام (ص: 43 - 46)، ((التمهيد)) لابن عبد البر (4/ 236). ؛ لأنَّهم لم يَفقِدوا صِفاتِ الإيمانِ؛ لِقَولِ اللهِ تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9] .
قال ابنُ جريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: وإن طائِفتانِ مِن أهلِ الإيمانِ اقتَتَلوا، فأصلَحوا -أيُّها المُؤمِنون- بينهما بالدُّعاءِ إلى حُكمِ كِتابِ اللهِ، والرِّضا بما فيه لهما وعليهما، وذلك هو الإصلاحُ بينهما بالعَدْلِ) [1040] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/ 357). .
5- الطَّعنُ في النَّسَبِ، والنِّياحةُ على المَيِّتِ:
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((اثنتانِ في النَّاسِ هما بهم كُفرٌ: الطَّعنُ في النَّسَبِ، والنِّياحةُ على الميِّتِ )) [1041] أخرجه مسلم (67). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (الخَصْلتانِ هما كُفرٌ قائمٌ بالنَّاسِ، فنَفسُ الخَصلتينِ كُفرٌ؛ حيث كانتا من أعمالِ الكُفَّارِ، وهما قائمتان بالنَّاسِ، لكِنْ ليس كُلُّ من قام به شُعبةٌ مِن شُعَبِ الكُفْرِ يصيرُ كافِرًا الكُفْرَ المطْلَقَ حتى تقومَ به حقيقةُ الكُفْرِ، كما أنَّه ليس كُلُّ من قام به شُعبةٌ من شُعَبِ الإيمانِ يصيرُ مُؤمِنًا حتى يقومَ به أصلُ الإيمانِ) [1042] يُنظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم)) (1/237). .
وقال ابنُ عُثَيمين: (قَولُه: ((كُفْرٌ)): أي: هاتان الخَصلتان كُفرٌ، ولا يلزَمُ من وجودِ خَصلَتينِ مِن الكُفْرِ في المُؤمِنِ أن يكونَ كافِرًا، كما لا يلزمُ من وجودِ خَصلَتينِ في الكافِرِ مِن خِصالِ الإيمانِ؛ كالحياءِ والشَّجاعةِ والكَرَمِ، أن يكونَ مُؤمِنًا) [1043] يُنظر: ((القول المفيد)) (2/216). .
6- الانتسابُ إلى غيرِ الأبِ:
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم قال: ((لا تَرغَبوا عن آبائِكم؛ فمن رَغِبَ عن أبيه فهو كُف رٌ)) [1044] أخرجه البخاري (6768)، ومسلم (62). .
قال ابنُ بَطَّالٍ: (قال الطَّبَري: فإن قال قائِلٌ: ما وجهُ هذا الحديثِ، وقد كان من خيارِ النَّاسِ من يُنسَبُ إلى غيرِ أبيه؛ كالمقدادِ بنِ الأسوَدِ، الذي نُسِبَ إليه، وإنَّما هو المقدادُ بنُ عَمرٍو، ومنهم من يُدعى إلى غيرِ مولاه الذى أعتَقَه، كسالمٍ مولى أبى حُذَيفةَ، وإنَّما هو مولى امرأةٍ مِن الأنصارِ، وهؤلاء خيارُ الأُمَّةِ؟ قيل: لا يدخُلُ أحَدٌ منهم في معنى هذه الأحاديثِ، وذلك أنَّ أهلَ الجاهليَّةِ كانوا لا يَستَنكِرون ذلك؛ أن يتبنى الرَّجُلُ منهم غيرَ ابنِه الذي خرج من صُلْبِه، فنُسِبَ إليه، ولا أن يتولَّى من أعتقه غيرُه فيُنسَب ولاؤه إليه، ولم يَزَلْ ذلك أيضًا في أوَّلِ الإسلامِ حتى أنزل الله: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ [الأحزاب: 4] ونزلت ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هَوُ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب: 5] الآية، فنُسِبَ كُلُّ واحدٍ منهم إلى أبيه، ومَن لم يُعرَف له أبٌ ولا نسَبٌ، عُرِف مولاه الذي أعتقه وألحِقَ بولائِه عنه، غيرَ أنَّه غَلَب على بَعْضِهم النَّسَبُ الذي كان يُدعى به قبل الإسلامِ، فكان المعروفُ لأحَدِهم إذا أراد تعريفَه بأشهَرِ نَسَبِه عَرَّفه به من غيرِ انتحالِ المعروفِ به، ولا تحَوُّلٍ به عن نَسَبِه وأبيه الذي هو أبوه على الحقيقةِ رغبةً عنه، فلم تَلحَقْهم بذلك نقيصةٌ، وإنَّما لعن النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المتبرِّئَ من أبيه والمُدَّعي غيرَ نَسَبِه، فمن فعل ذلك فقد ركب من الإثمِ عظيمًا، وتحَمَّل مِن الوِزْرِ جَسيمًا، وكذلك المنتمي إلى غيرِ مواليه. فإن قيل: فتقولُ للرَّاغِبِ في الانتماءِ إلى غير أبيه ومواليه كافِرٌ باللهِ؟ كما رُوِيَ عن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ أنَّه قال: كُفرٌ باللهِ ادِّعاءُ نَسَبٍ لا يُعرَفُ. ورُوي عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ أنَّه قال: كان ممَّا يُقرَأُ في القرآن: «لا تَرْغَبوا عن آبائِكم؛ فإنَّه كُفرٌ بكم». قيل: ليس معناه الكُفْرُ الذي يستحقُّ عليه التَّخليدَ في النَّارِ، وإنَّما هو كُفرٌ لحَقِّ أبيه ولحَقِّ مواليه، كقَولِه في النِّساءِ: ((يَكْفُرْنَ العشيرَ)) والكُفْرُ في لُغةِ العَرَبِ: التَّغطيةُ للشَّيءِ والسَّترُ له، فكأنَّه تغطيةٌ منه على حَقِّ اللهِ عزَّ وجَلَّ فيمن جعله له والدًا، لا أنَّ من فعل ذلك كافِرٌ باللهِ حلالُ الدَّمِ. واللهُ الموَفِّقُ) [1045] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (8/ 383). .
وعن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ليس من رجُلٍ ادَّعى لغيرِ أبيه -وهو يَعلَمُه- إلَّا كَفَر، ومن ادَّعى قومًا ليس له فيهم، فلْيتبَوَّأْ مَقعَدَه من النَّارِ )) [1046] أخرجه البخاري (3508) واللَّفظُ له، ومسلم (61). .
قال علي القاري: ( ((فقد كَفَر)): أي: قارب الكُفْرَ، أو يُخشى عليه الكُفْرُ. في النهاية: الدِّعوةُ -بالكسر- في النَّسَبِ، وهو أن ينتَسِبَ الإنسانُ إلى غيرِ أبيه وعشيرته، وكانوا يفعلونه فنُهُوا عنه، والادِّعاءُ إلى غيرِ الأبِ مع العِلمِ به حرامٌ، فمن اعتقد إباحَتَه كَفَر لمخالفةِ الإجماعِ، ومن لم يعتَقِدْ إباحتَه فمعنى "كفر": وجهان؛ أحدهما: أنَّه أشبَهَ فِعْلُه فِعلَ الكُفَّارِ. والثَّاني: أنَّه كافِرٌ نِعمةَ الإسلامِ) [1047] يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) (5/2170). .
وقال ابنُ عثيمين: (الذي عليه الوعيدُ هو الذي ينتمي إلى غيرِ أبيه؛ لأنَّه غيرُ راضٍ بحَسَبِه ونَسَبِه، فيريدُ أن يرفَعَ نَفْسَه ويدفَعَ خَسيستَه بالانتماءِ إلى غيرِ أبيه، فهذا هو الذي عليه اللَّعنةُ. والعياذُ باللهِ) [1048] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) (6/592). .
وأنواعُ الكُفْرِ الأصْغَرِ كثيرةٌ يتعَذَّرُ حَصْرُها، وقد ذكر كثيرًا منها ابنُ بَطَّة، وعَقَد لها بابًا بعنوانِ: (بابُ ذِكرِ الذُّنوبِ التي تصيرُ بصاحِبِها إلى كُفرٍ غيرِ خارجٍ عن المِلَّة) [1049]يُنظر: ((الإبانة الكبرى)) (2/723). .

انظر أيضا: