الموسوعة العقدية

المَبحثُ الثَّالثُ: اجتِماعُ الإيمانِ وبَعضِ شُعَبِ الكُفْرِ في الشَّخصِ الواحِدِ وأثَرُه في مسألةِ الوَلاءِ والبَراءِ

إنَّ اللهَ قد عَقَد الأُخُوَّةَ والمحبَّةَ والموالاةَ والنُّصرةَ بين المُؤمِنينَ، ونهى عن مُوالاةِ الكافرين كُلِّهم، فكان من الأصولِ المتَّفَقِ عليها بين المُسلِمين أنَّ كُلَّ مُؤمِنٍ مُوَحِّدٍ تارِكٍ لجميعِ المكَفِّراتِ التي دَلَّت عليها الشَّريعةُ فإنَّ محبَّتَه وموالاتَه ونُصرتَه واجبةٌ، وكُلَّ من كان بخِلافِ ذلك وَجَب التقَرُّبُ إلى اللهِ ببُغْضِه ومعاداتِه، بل وجهادِه باللِّسانِ واليَدِ بحسَبِ القُدرةِ والإمكانِ.
قال اللهُ تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة: 71] .
وقال اللهُ سُبحانَه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة: 51] .
وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [التوبة: 73] .
 قال ابنُ تيميَّةَ: (الوَلايةُ ضِدُّ العداوةِ، وأصلُ الوَلايةِ: المحبَّةُ والقُربُ، وأصلُ العَداوةِ: البُغضُ والبُعدُ... فإذا كان وَلِيُّ اللهِ هو الموافِقَ المتابعَ له فيما يحِبُّه ويرضاه ويُبغِضُه ويُسخِطُه، ويأمُرُ به وينهى عنه، كان المعادي لوَلِيِّه معاديًا له، كما قال تعالى: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة: 1] ، فمن عادى أولياءَ اللهِ فقد عاداه، ومن عاداه فقد حاربه؛ فلهذا قال: ((ومن عادى لي وَلِيًّا فقد بارَزَني بالمحارَبةِ )) [884] أخرجه البخاري (6502) مِن حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. بلفظ: ((من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب)) ) [885] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (11/160). .
أمَّا من لم يَصْفُ له اتِّباعُ أوامِرِ اللهِ تعالى بالطَّاعةِ التَّامَّةِ والانقيادِ الكاملِ، بل ترك بعضَ ما وجب عليه، أو فَعَل بَعضَ ما حُرِّم عليه، مع وجودِ الإيمانِ باللهِ والقيامِ ببعضِ ما أمر اللهُ به، فإنَّ هذا لا يكونُ وَلِيًّا للهِ من كُلِّ وَجهٍ بما معه من إيمانٍ، وبعضِ العَمَلِ الصَّالحِ، كما لا يكونُ عَدُوًّا لله من كُلِّ وَجهٍ بسَبَبِ تقصيرِه في حَقِّ الله تعالى بتَرْكِ الواجِبِ وفِعلِ المحَرَّمِ.
والذي تقَرَّر عند أهلِ السُّنَّةِ أنَّ كُلَّ شَخصٍ اجتَمَع فيه إيمانٌ وكُفرٌ، أو إيمانٌ ونِفاقٌ، أو طاعةٌ ومعصيةٌ؛ فإنَّه يكونُ قد اجتمع فيه سَبَبُ الوَلايةِ وسَبَبُ العَداوةِ، فيكونُ محبوبًا من وَجهٍ، ومبغوضًا من وجهٍ، والحُكمُ العامُّ يكونُ للغالِبِ بحسَبِ قُربِه مِن الكُفْرِ أو الإيمانِ أو بُعْدِه عنهما.
 قال ابنُ تيميَّةَ: (إذا اجتَمَع في الرَّجُلِ الواحِدِ خَيرٌ وشَرٌّ وفُجورٌ، وطاعةٌ ومعصيةٌ، وسُنَّةٌ وبِدعةٌ، استحَقَّ من الموالاةِ والثَّوابِ بقَدْرِ ما فيه من الخيرِ، واستحَقَّ من المعاداةِ والعِقابِ بحسَبِ ما فيه من الشَّرِّ، فيجتَمِعُ في الشَّخصِ الواحِدِ موجِباتُ الإكرامِ والإهانةِ، فيجتَمِعُ له من هذا وهذا، كاللِّصِّ الفقيرِ تُقطَعُ يَدُه لسَرِقتِه، ويُعطى من بيتِ المالِ ما يكفيه لحاجتِه، وهذا هو الأصلُ الذي اتَّفَق عليه أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ، وخالفَهم الخوارجُ والمعتزلةُ ومن وافقَهم) [886] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (28/209). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (أهلُ السُّنَّةِ متَّفِقون على أنَّ الشَّخصَ الواحِدَ يكونُ فيه ولايةٌ للهِ وعَداوةٌ مِن وَجهَينِ مختَلِفَينِ، ويكون محبوبًا مبغوضًا له من وجهينِ أيضًا، بل يكونُ فيه إيمانٌ ونِفاقٌ، وإيمانٌ وكُفرٌ، ويكونُ إلى أحَدِهما أقرَبَ منه إلى الآخَرِ، فيكونُ من أهلِه) [887] يُنظر: ((مدارج السالكين)) (1/ 292). .
فالموالاةُ والمعاداةُ لا دَخْلَ لحُظوظِ النَّفْسِ فيها كالقَرابةِ والنَّسَبِ والجاهِ، وإنَّما هذه الأعراضُ تابعةٌ لأصلِ الوَلاءِ والبراءِ اللَّذينِ يجِبُ أن يتمَحَّضا لله، فالنَّظَرُ إلى أعمالِ النَّاسِ ومدى قُرْبِهم من مرضاةِ اللهِ أو بعُدْهِم عنه هو الأساسُ الذي ترتكِزُ عليه الموالاةُ أو المعاداةُ، أمَّا دَرَجاتُ هذه الموالاةِ أو المعاداةِ فتتحَدَّدُ بما يترجَّحُ لدى الشَّخصِ مِن خيرٍ أو شرٍّ، فمن ترَجَّح جانِبُ الخيرِ عنده فهذا يُوالى بدَرَجةٍ أكبَرَ من درجةِ مُعاداتِه، والعكسُ [888] يُنظر: ((الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه)) لعبد الرزاق بن طاهر ( ص: 159). .
قال محمَّدُ بنُ عبدِ اللَّطيفِ آل الشَّيخِ: (أمَّا من ظاهِرُه الإسلامُ منهم، ولكِنْ رُبَّما قد يوجَدُ فيهم من الكُفْرِ العمَليِّ الذي لا يُخرِجُ من المِلَّةِ، وفيهم شيءٌ من أمورِ الجاهليَّةِ، ومن أنواعِ المعاصي -صغائِرَ كانت أو كبائِرَ- فلا يعامَلون معامَلةَ المرتَدِّين، بل يعامَلون بالنُّصحِ برِفقٍ ولِينٍ، ويُبغَضون على ما معهم من هذه الأوصافِ، وليُعلَمْ أنَّ المُؤمِنَ تجِبُ موالاتُه ومحَبَّتُه على ما معه من الإيمانِ، ويُبغَضُ ويُعادى على ما معه من المعاصي، وهَجْرُه مَشروعٌ إن كان فيه مصلحةٌ وزَجرٌ ورَدعٌ، وإلَّا فيعامَلُ بالتأليفِ وعَدَمِ التنفيرِ، والترغيبِ في الخيرِ برِفقٍ ولُطفٍ ولينٍ؛ لأنَّ الشَّريعةَ مَبنيَّةٌ على جَلْبِ المصالحِ ودَفْعِ المضارِّ) [889] يُنظر: ((مجموعة الرسائل النجدية)) (2/1/137). .

انظر أيضا: