الموسوعة العقدية

الفَرعُ الأوَّلُ: مفهومُ الاعتقادِ بالقَلبِ

الاعتِقادُ عند السَّلَفِ يتضمَّن رُكنينِ قَلبيَّينِ لا يُغني أحَدُهما عن الآخَرِ، ويلزَمُ تحقيقُهما مجتَمِعَينِ في القَلبِ؛ ليدخُلَ صاحِبُه في مُسَمَّى الإيمانِ:
الرَّكنُ الأوَّلُ: المعرِفةُ والعِلمُ والتصديقُ، ويُطلَقُ عليه (قَولُ القَلبِ).
الرُّكنُ الثاني: الالتزامُ والانقيادُ والتسليمُ، ويُطلَقُ عليه (عَمَلُ القَلبِ).
قال اللهُ تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] .
 قال البَغَويُّ: (أخبر أنَّ حقيقةَ الإيمانِ التَّصديقُ بالقَلْبِ، وأنَّ الإقرارَ باللِّسانِ وإظهارَ شَرائِعِه بالأبدانِ لا يكونُ إيمانًا دون التَّصديقِ بالقَلبِ والإخلاصِ)  [23]يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/268). .
وقال اللهُ سُبحانَه: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحشر: 7] .
 قال ابنُ كثيرٍ: (أي: حَبَّبه إلى نفوسِكم وحَسَّنه في قُلوبِكم)  [24]يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/372). .
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ [المجادلة: 22] .
 قال البَغَويُّ: (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ أثبَتَ التَّصديقَ في قُلوبِهم، فهي مُوقِنةٌ مُخلِصةٌ. وقيل: حَكَم لهم بالإيمانِ، فذكَرَ القُلوبَ؛ لأنَّها موضِعُه) [25] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/50). .
 وقال الألوسيُّ: (القَلبُ مَقَرُّ الإيمانِ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 7] أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ [المجادلة: 22] )  [26]يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (8/525). .
قال أحمدُ بنُ حَنبَلٍ: (من جَحَد المعرِفةَ والتصديقَ فقد قال قولًا عظيمًا؛ فإنَّ فسادَ هذا القَولِ معلومٌ مِن دينِ الإسلامِ) [27] يُنظر: ((الإيمان)) لابن تيميَّةَ (ص: 308). .
وأمَّا الرُّكنُ الآخَرُ فسلَفُ الأمَّةِ وأئمَّتُها متَّفِقون على أنَّه قرينٌ للأوَّلِ، فلا يكونُ العَبدُ مُؤمِنًا إلَّا بهما.
قال محمَّدُ بنُ نَصرٍ المَرْوزيُّ في شرحِ حَديثِ جِبريلَ عن الإيمانِ والإسلامِ والإحسانِ: (أمَّا قَولُه: ((الإيمانُ أن تؤمِنَ باللهِ )): فأن توحِّدَه وتُصَدِّقَ به بالقَلبِ واللِّسانِ، وتَخضَعَ له ولأمْرِه بإعطاءِ العَزمِ للأداءِ لِما أمَرَ، مجانبًا للاستِنكافِ والاستكبارِ والمعانَدةِ، فإذا فعَلْتَ ذلك لزِمْتَ محابَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، واجتَنَبْتَ مَساخِطَه) [28] يُنظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) (1/392). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (فإنَّ الإيمانَ أصلُه الإيمانُ الذي في القَلْبِ، ولا بُدَّ فيه من شيئينِ:
تصديقٌ بالقَلبِ، وإقرارُه ومعرفتُه، ويقالُ لهذا: قَولُ القَلبِ، قال الجُنَيدُ بنُ محمَّدٍ: التوحيدُ قَولُ القَلبِ، والتوكُّلُ عَمَلُ القَلبِ؛ فلا بُدَّ فيه من قَولِ القلبِ وعَمَلِه، ثمَّ قَولِ البَدَنِ وعَمَلِه.
ولا بُدَّ فيه من عَمَلِ القَلبِ، مِثلُ حُبِّ اللهِ ورَسولِه، وخشيةِ اللهِ، وحُبِّ ما يحبُّه اللهُ ورَسولُه، وبُغضِ ما يُبغِضُه اللهُ ورَسولُه، وإخلاصِ العَمَلِ للهِ وَحْدَه، وتوكُّلِ القَلبِ على اللهِ وَحْدَه، وغيرِ ذلك من أعمالِ القُلوبِ التي أوجَبَها اللهُ ورَسولُه وجعَلَها من الإيمانِ) [29] يُنظر: ((الإيمان)) (ص: 149). .
وقال ابنُ القَيِّمِ مُعَلِّقًا على قِصَّةِ وَفدِ نَجرانَ: (من تأمَّلَ ما في السِّيَرِ والأخبارِ الثابتةِ مِن شهادةِ كَثيرٍ مِن أهلِ الكِتابِ والمُشرِكين له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالرِّسالةِ، وأنَّه صادِقٌ، فلم تُدخِلْهم هذه الشَّهادةُ في الإسلامِ- عَلِمَ أنَّ الإسلامَ أمرٌ وراءَ ذلك، وأنَّه ليس هو المعرفةَ فقط، ولا المعرفةَ والإقرارَ فقط، بل: المعرفةُ، والإقرارُ، والانقيادُ، والتزامُ طاعتِه ودِينِه ظاهرًا وباطنًا) [30] يُنظر: ((زاد المعاد)) (3/558). .
وهنا ثلاثُ مُلاحظاتٍ مُهِمَّةٌ:
الملاحَظةُ الأُولى: أنَّ التَّصديقَ المقصودَ هنا هو التصديقُ الخَبَريُّ أو العِلميُّ، بمعنى أن يقَعَ في القَلبِ نِسبةُ الصِّدقِ إلى المخبِرِ والخَبِر ذاتِه، مجرَّدًا عمَّا سِوى هذا من جِنسِ عَمَلِ القَلبِ مِن الانقيادِ والطَّاعةِ والمحبَّةِ وأمثالِها، وإلَّا فمن أطلَقَ لفظ (التصديق) على التصديقِ الخَبَرِّي العِلميِّ وعلى لوازمِه وتوابِعِه من عَمَلِ القَلبِ، وقال: إنَّ الاعتقادَ المطلوبَ هو التصديقُ؛ فإنَّ الخلافَ معه خلافٌ لفظيٌّ فقط.
وقد استخدم كثيرٌ مِن السَّلَفِ والأئمَّةِ لَفظَ التَّصديقِ بهذا المعنى الأخيرِ.
قال القَسطلانيُّ عندما عرَّف الإيمانَ بأنَّه التصديقُ: (فليس حقيقةُ التصديقِ أن يقَعَ في القَلبِ نِسبةُ التَّصديقِ إلى الخَبَرِ أو المخبَرِ مِن غيرِ إذعانٍ وقَبولٍ، بل هو إذعانٌ وقَبولٌ لذلك بحيث يقَعُ عليه اسمُ التسليمِ) [31] يُنظر: ((إرشاد الساري)) (1/85). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (نحن نقولُ: الإيمانُ هو التصديقُ، ولكِنْ ليس التصديقُ مجَرَّدَ اعتقادِ صِدقِ المخبِرِ دونَ الانقيادِ له، ... فالتصديقُ إنَّما يَتِمُّ بأمرينِ: أحَدُهما: اعتقادُ الصِّدقِ، والثاني: محبَّةُ القَلبِ وانقيادُه) [32] يُنظر: ((كتاب الصلاة)) (ص: 50). .
وقال أيضًا: (فإنَّ الإيمانَ ليس مجرَّدَ التصديقِ -كما تقدَّم بيانُه- وإنَّما هو التصديقُ المستلزِمُ للطَّاعةِ والانقيادِ) [33] يُنظر: ((كتاب الصلاة)) (ص: 56). .
وقال حافِظٌ الحَكَميُّ: (مِن هنا يتبيَّنُ لك أنَّ من قال من أهلِ السُّنَّةِ في الإيمانِ هو: التصديقُ على ظاهِرِ اللُّغةِ، أنَّهم إنَّما عَنَوا التصديقَ الإذعانيَّ المستلزِمَ للانقيادِ ظاهرًا وباطنًا بلا شَكٍّ، لم يَعْنُوا مجرَّدَ التصديقِ) [34] يُنظر: ((معارج القبول)) (2/594). .
المُلاحَظةُ الثَّانيةُ: أنَّ التَّصديقَ بمعناه الخَبَريِّ -وهو مجرَّدُ أن يَقَعَ في القَلبِ نسبةُ الصِّدقِ إلى المخبِرِ والخَبَرِ من غيرِ إذعانٍ وقَبولٍ- يساوي تمامًا عند السَّلَفِ والأئمَّةِ معنى (العِلمِ) أو (المعرِفةِ)؛ إذ لم يتصوَّرْ هؤلاء الأئمَّةُ بل وجمهورُ العُقَلاءِ فَرقًا واحدًا معقولًا بين العِلمِ والمعرفةِ، وبين التصديقِ.
قال ابنُ تيميَّةَ: (فإنَّ الفَرْقَ بين معرفةِ القَلبِ وبين مجَرَّدِ تصديقِ القَلبِ الخالي عن الانقيادِ الذي يُجعَلُ قَولَ القَلبِ: أمرٌ دقيقٌ، وأكثَرُ العُقَلاءِ يُنكِرونَه، وبتقديرِ صِحَّتِه لا يجِبُ على كُلِّ أحدٍ أن يوجِبَ شيئين لا يُتصوَّرُ الفَرقُ بينهما، وأكثَرُ النَّاسِ لا يتصوَّرون الفَرقَ بين معرفةِ القَلبِ وتصديقِه، ويقولون: إنَّ ما قالَه ابنُ كُلَّابٍ والأشعريُّ مِن الفَرقِ: كلامٌ باطِلٌ لا حقيقةَ له، وكثيرٌ من أصحابِه اعترف بعَدَمِ الفَرْقِ،... والمقصودُ هنا أنَّ الإنسانَ إذا رجَعَ إلى نَفْسِه عَسُرَ عليه التفريقُ بين عِلْمِه بأنَّ الرَّسولَ صادِقٌ، وبين تصديقِ قَلْبِه تصديقًا مجرَّدًا عن انقيادٍ وغيرِه من أعمالِ القَلبِ بأنَّه صادِقٌ) [35] يُنظر: ((الإيمان)) (ص: 311). .
المُلاحَظةُ الثَّالثةُ: أنَّ المعرفةَ أو قَولَ القَلبِ التي اشتَرَطَها السَّلَفُ كرُكنٍ أصليٍّ للإيمانِ غيرُ المعرفةِ التي اشترَطَها المعتَزِلةُ وغَيرُهم من المتكَلِّمين؛ فالمَعرفةُ التي اشتَرَطَها السَّلَفُ هي تحقيقُ العِلمِ المنافي للجَهلِ، أي: أن يَعرِفَ المرءُ حقيقةَ ما يؤمِنُ به، سواءٌ تحَقَّقَت هذه المعرفةُ عن طريقِ التقليدِ أو عن طريقِ النَّظَرِ والاستدلالِ.
وأمَّا المعرفةُ التي اشتَرَطَها المعتَزِلةُ وأمثالُهم فهي أن يَعرِفَ المرءُ أُصولَ دِينِه عن طريقِ النَّظَرِ والدَّليلِ العَقليِّ وَحْدَه، لا عن طريقِ التقليدِ أو السَّماعِ.
قال البَدرُ العَينيُّ: (قال أهلُ السُّنَّةِ: مَن اعتَقَد أركانَ الدِّينِ -مِن التوحيدِ والنبُوَّةِ والصَّلاةِ والزَّكاةِ والصَّومِ والحَجِّ- تقليدًا، فإن اعتقد مع ذلك جوازَ وُرودِ شُبهةٍ عليها، وقال: لا آمَنُ وُرودَ شُبهةٍ يُفسِدُها؛ فهو كافِرٌ. وإن لم يعتَقِدْ جوازَ ذلك، بل جزم على ذلك الاعتقادِ، فقد اختَلَفوا فيه... وقال عامَّةُ المعتَزِلةِ: إنَّه ليس بمؤمِنٍ ولا كافرٍ. وقال أبو هاشِمٍ: إنَّه كافِرٌ. فعندهم إنَّما يُحكَمُ بإيمانِه إذا عَرَف ما يجِبُ الإيمانُ به من أُصولِ الدِّينِ بالدَّليلِ العَقليِّ، على وَجهٍ يمكِنُه مجادَلةُ الخُصومِ، وحَلُّ جميعِ ما يورَدُ عليه من الشُّبَهِ، حتى إذا عَجَز عن شيءٍ من ذلك، لم يُحكَمْ بإسلامِه!) [36] يُنظر: ((عمدة القاري)) (1/106). .
وقال ابنُ حَجَرٍ في هؤلاء: (العَجَبُ أنَّ مَن اشترط ذلك من أهلِ الكلامِ يُنكِرونَ التَّقليدَ، وهم أوَّلُ داعٍ إليه، حتى استقَرَّ في الأذهانِ أنَّ من أنكَرَ قاعِدةً من القواعِدِ التي أصَّلوها فهو مبتَدِعٌ، ولو لم يفهَمْها ولم يَعرِفْ مأخَذَها! وهذا هو محضُ التقليدِ؛ فآل أمرُهم إلى تكفيرِ مَن قَلَّد الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في معرفةِ اللهِ تعالى، والقَولِ بإيمانِ مَن قَلَّدَهم! وكفى بهذا ضَلالًا) [37] يُنظر: ((فتح الباري)) (13/354). .
وسُئِلَ ابنُ عُثَيمين: هل يجوزُ التقليدُ في أبوابِ العقيدةِ، أم لا بُدَّ مِن الأخذِ بالدَّليلِ؟
فأجاب بقَولِه: (يجوزُ التقليدُ في العقائِدِ ممَّا لا يتمَكَّنُ مَعرفتُه بالدَّليلِ؛ ولهذا نرى العامَّةَ الآن كُلَّهم يُقَلِّدون، بل قال اللهُ تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 43] ، سؤالُنا أهلَ الذِّكرِ عن هؤلاء الرُّسُلِ معناه أن نقَلِّدَ المسؤولَ، ونأخُذَ بقَولِه؛ فالتقليدُ في المسائلِ العَقَديَّةِ كالتقليدِ في المسائِلِ العَمَليَّةِ تمامًا، ولا فَرْقَ؛ فالذي لا يستطيعُ الوُصولَ إلى الحَقِّ بنَفْسِه ففَرْضُه التقليدُ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، وأمَّا من قال: إنَّه لا يصِحُّ إيمانُ المقَلِّدِ، فمُقتَضى قَولِه: إنَّ العوامَّ مِنَ النَّاسِ لا يَصِحُّ إيمانُهم؛ لأنَّهم إنما بَنَوا إيمانَهم على التقليدِ، عُلَماؤُهم قالوا كذا، يقولون كذا) [38] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) (رقم اللقاء: 94). .

انظر أيضا: